هآرتس: جنودنا ينفذون جرائم حرب، متى سننجح في رؤية ذلك؟

هآرتس 30/5/2025، دانيال بلاتمان: جنودنا ينفذون جرائم حرب. متى سننجح في رؤية ذلك؟
حتى لو كان هذا ليس الهدف من أقواله عن قتل الأطفال في غزة، فان يئير غولان اطلق رصاصة البداية لعملية ستستمر لسنوات بعد انتهاء حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل. أقواله غير اللطيفة تم الرد عليها في هجمات إجرامية من جانب قادة الإبادة الجماعية، من بنيامين نتنياهو وحتى بتسلئيل سموتريتش، ومن يقفون خلفهم، بني غانتس، افيغدور ليبرمان ويئير لبيد، بسبب كلمة هواية. ولكن هذا ليس الأساس. المهم هو مواجهة جرائم الحرب التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، الذراع التنفيذي لسياسة الإبادة التي تمليها الحكومة. جيش الشعب، ابناؤنا وبناتنا، ينفذون جرائم حرب وابادة جماعية. ولكن هذا موضوع المجتمع الإسرائيلي غير قادر على لمسه.
في تحقيق ينيف كوفوفيتش (“هآرتس”، 18/12/2024) تحدث جنود عما حدث في محور نتساريم بعد ان اعلن الجيش الإسرائيلي عنه بانه منطقة محظورة اثناء تقسيم القطاع الى قسمين: كل من اجتاز الخط الوهمي تم اطلاق النار عليه وقتله، هكذا أيضا حدث مع الذين ضلوا طريقهم ولم يكونوا مسلحين، او مجرد يركبون على دراجات. في مناطق الإبادة لا توجد قوانين، وكل جسم يتحرك هو هدف. هذه شهادات قاسية بدون شك، لكن الشهادات الأكثر قسوة لا يتم نشرها في الصحف الإسرائيلية، ولا حتى في “هآرتس”.
طبيبان متطوعان تحدثا مع موقع “بوليتيكو” في 19/7/2024 عن الواقع في مستشفى في خانيونس، قالا: “نحن مررنا على صفوف من الأطفال قبل سن البلوغ، الذين تم اطلاق النار على رؤوسهم. وهم كانوا يموتون ببطء. وعلى الفور بعدهم وصل أطفال جدد الذين اطلقت النار على رؤوسهم. عائلاتهم قالت ان الأطفال كانوا يلعبون في البيت او في الشارع عندما اطلقت القوات الإسرائيلية النار عليهم”.
طبيب كندي عمل في مستشفى في رفح وصف صورة مشابهة لصحيفة “لوس انجلوس تايمز” في 16/2/2024: “سالت ممرضة عن الخلفية. فقالت لي ان الأطفال تم احضارهم قبل بضع ساعات. كانوا مصابين بنار قناص في الرأس. هم كانوا أبناء 7 – 8 سنوات… شاهدت حتى أطفال اصغر منهم مصابون بنار قناص في الرأس والصدر. هم لم يكونوا مقاتلين، بل أطفال صغار”.
كل هذا فقط نقطة في بحر. متى سيكون المجتمع قادر على النظر مباشرة الى هذه الفظائع التي تم تنفيذها بدون القاء المسؤولية على متخذي القرارات أصحاب اجندة الإبادة، أو مجموعات صغيرة تؤمن بان إبادة كل سكان غزة هي امر مشروع ومبرر؟ متى سيكون قادر على مواجهة الماضي، والاعتراف بالخطأ الفظيع والبدء في عملية التوبة، العلاج وإعادة البناء؟ اذا نظرنا الى تاريخ المانيا فان هذا يمكن ان يستغرق سنوات كثيرة.
بعد خمسين سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية، في آذار 1995، تم افتتاح في هامبورغ معرض، الذي عرض فيما بعد في مدن أخرى في المانيا، بعنوان “حرب إبادة: جرائم الرايخ، 1941 – 1944. هذه كانت انعطافة في النقاش الجماهيري، السياسي والاكاديمي، في المانيا بالنسبة للماضي النازي. للمرة الأولى تم عرض 1400 صورة ورسالة وأمر ومذكرات ميدان، التي دللت على التورط المباشر والممنهج لوحدات الرايخ (ليس الـ اس.اس) في إبادة اليهود والغجر، وقتل اسرى الحرب السوفييت، وتجويع السكان المدنيين في أوروبا الشرقية.
هكذا انهارت بشكل نهائي فرضية “الرايخ النقي” (المعادل الألماني لفرضية “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”)، التي تجذرت في وعي المانيا الغربية في الخمسينيات، ونسبت جرائم النازية فقط لـ اس.اس أو لمتطرفي الحزب. هذه الفرضية مكنت ملايين الجنود المسرحين من الاندماج في إعادة اعمار المانيا وفي المنظومة السياسية والاقتصادية، بدون ان يطلب من المجتمع اجراء حساب عميق للنفس على ما فعله ابناءه في شرق أوروبا في سنوات الحرب.
رد الجمهور الواسع على المعرض كان صدمة وتشوق الى معرفة الحقيقة. نصف مليون زائر تقريبا قاموا بزيارة المعرض في الأشهر الأولى. ولكن إضافة الى ذلك بدأ أيضا هجوم مضاد. فمنظمات المحاربين القدامى في الرايخ وجمعيات الضباط المحافظين وجهات سياسية يمينية، قامت بتنظيم مظاهرات ضد المعرض في المدن الألمانية، مع محاولة تخريب المعرض بالعنف.
مؤرخون مثل هانس مومزان وفيل رام فيته ويورغان كوكا اكدوا على أهمية المعرض. مومزان، وهو من طلائع الباحثين في المانيا النازية، قال ان المعرض الغى امتياز الانكار وحول التحقيق في الرايخ الى واجب بالنسبة لكل من يتناول تاريخ الكارثة. فيته، وهو خبير في التاريخ العسكري، نشر في 1996 مقال بعنوان “الجيش كمنفذ لسياسة عرقية”، وقال ان الأوامر الجنائية لـ “عملية بربروسا” (غزو المانيا للاتحاد السوفييتي في 1941) حولت الضباط الالمان الى شريك كامل في سياسة الإبادة.
كوكا قال ان ملايين الجنود العاديين لم يتمكنوا من البقاء أبرياء اثناء خدمتهم لنظام قاتل. هكذا هي الحال أيضا في إسرائيل. في اعقاب توجيهات المستوى السياسي فان القيادة العليا في الجيش الإسرائيلي تصدر أوامر لها تداعيات إجرامية، ومئات آلاف الجنود الذين ينفذونها لا يعود بإمكانهم أن يعتبروا أبرياء. الجميع شركاء في جريمة الإبادة الجماعية.
المؤرخ عومر بار طوف اثبت في بحثه المهم عن الرايخ (جيش هتلر، دبير، 998) بانه في مراحل تجنيدهم فان جنود الرايخ تم تشكيلهم من قبل منظومة تعليمية – دعائية، التي عرضت اسطورة الشيطان اليهودي – البلشفي كتهديد لمجرد وجود الشعب الألماني. عند غزو الاتحاد السوفييتي تسربت هذه الأيديولوجيا الى الأوامر الحربية. الحرب اعتبرت مهمة تدمير، وليس مواجهة عسكرية عادية. ظروف جبهة بربرية وخسائر كبيرة وثقافة نهب الممتلكات، عززت نزع الإنسانية المطلق لليهود والسلافيين. الجنود اعتبروا العنف والقتل الجماعي أمور مشروعة، وحتى أنها مطلوبة. بار طوف استنتج ان ادراك المشروع الأيديولوجي العنصري النازي يشرح التماهي الدائم للجندي الألماني مع اهداف الحرب للقيادة السياسية حتى انهيار المانيا.
في الجيش الإسرائيلي لا توجد بالطبع منظومة تلقين سياسية وايديولوجية تشبه المنظومة التي كانت في الجيش الألماني. ولكن عدد غير قليل من الجنود في الوحدات الميدانية يستمعون لقيادة دينية قومية متطرفة، بالأساس الحاخامات المتطرفين الذين منذ سنوات قبل الحرب الحالية يعتبرون الحرب مع العدو الفلسطيني حرب أيديولوجية وليس مواجهة عسكرية معقدة.
مثلما تحول اليهودي من ناحية الرايخ من انسان الى يهودي بلشفي، هكذا تحول الفلسطيني في إسرائيل من انسان الى مخرب – نازي. هذه البلاغة مبنية على مصطلحات دينية تقتضي من الجنود التعامل مع الحرب كحرب مقدسة، وتبرر نزع الإنسانية وابادة الفلسطينيين. على سبيل المثال، في عملية “الرصاص المصبوب” (2009) نشر ان الحاخام العسكري الرئيس في حينه افيحاي روندسكي قال: “ملعون من يشفق في الحرب على العدو”. وفي عملية “الجرف الصامد” (تمو 2014)، نشر قائد لواء جفعاتي، العقيد عوفر فنتر، على مرؤوسيه صفحة أوامر للقائد كتب فيها: “التاريخ اختارنا لنكون رأس الحربة لمحاربة العدو الإرهابي الغزي، الذي يدنس ويلوث ويلعن اله معارك إسرائيل”.
في الحرب الحالية، في اعقاب الصدمة من مذبحة 7 أكتوبر، نضج نزع الإنسانية المطلق عن الفلسطينيين وترجم الى إبادة جماعية. العميد يهودا فاخ قال في كانون الثاني 2024 بأنه لا يوجد أبرياء في غزة. في القناة 14 نشر ان قائد دورية غولاني قال لجنوده في نيسان 2025: “كل من تلتقون به هو عدو. اذا لاحظتم أي جسم فعليكم استخدام السلاح ومواصلة السير. يجب عدم الالتباس في هذا الموضوع”. الجنرال احتياط غيورا ايلاند دعا اكثر من مرة الى تجويع سكان القطاع ومنع ادخال المساعدات الإنسانية. تراكم هذه الاقوال من قبل رجال عسكريين يشير الى عملية أيديولوجية. قادة في الجيش يصورون الحرب كحرب إبادة، ويشرعنون خطوات متطرفة الى درجة اطلاق دعوات للابادة أو الطرد الجماعي.
عودة الى المانيا. كيف اثر المعرض حول جرائم الرايخ على الرأي العام في المانيا؟ الاستطلاعات التي أجريت من 1994 وحتى 2002 تعكس تغير دراماتيكي: من 48 في المئة الذين صدقوا بان الرايخ عمل باحترام طوال الوقت وحافظ على اخلاق القتال اثناء الحرب، انخفضت نسبتهم الى 27 في المئة فقط. برامج تعليمية في المدارس تم تعديلها، ووزارة الدفاع في الجمهورية الفيدرالية دمجت نماذج جديدة لتدريب الجنود، ركزت على المسؤولية الأخلاقية للشخص اثناء الحرب.
في 2005 اصدر البوندستاغ تقرير خاص عن ثقافة ذكرى وتعليمات التاريخ، اشير فيه الى المعرض كمسرع مركزي لتغيير هذا الفكر. الرئيس الألماني رومان هرتسوغ قال في خطاب القاه في 1997 بان “الشجاعة في النظر مباشرة الى جرائم جيشنا لا تضعف الوطنية بل تعززها”. هذا نقوله لنلفت انتباه الرئيس اسحق هرتسوغ.
تاثير المعرض على الذاكرة الجماعية الألمانية للابادة الجماعية النازية كان واسع النطاق وبعيد المدى. فقد غير نقطة الثقل في الذاكرة الجماعية: من خطاب “نحن أيضا عانينا”، الذي ركز على تدمير المدن في المانيا، وعشرات آلاف الضحايا المدنيين الذين قتلوا وتم احراقهم وهم على قيد الحياة في هامبورغ (1943) وفي درزدين (1945)، وجرائم الحرب التي ارتكبها جنود الجيش الأحمر في المانيا – الاغتصاب الجماعي للنساء ونهب الممتلكات وقتل المدنيين – الى موقف جديد موجهة نحو مسؤولية الضحايا.
المعرض أعاد الإبادة الجماعية الى مركز الرواية التاريخية التعليمية في المانيا وساهم في تبلور ثقافة ذاكرة نقدية تعتبر مواجهة المسؤولية الجماعية والماضي شرط مسبق للمواطنة الديمقراطية. عندما ستنجح إسرائيل في فهم العلاقة بين مذبحة 7 أكتوبر وبين الابادة الجماعية التي تنفذها الآن في غزة، بهذه الطريقة ستبدأ عملية التوبة.
مفكران يهوديان كبيران ادركا هذه العملية رغم أنه تفصل بيننا وبينهما 800 سنة. الرامبام (قوانين التوبة)، قال: “ما هي التوبة؟ ان يتخلى المخطيء عن خطيئته وان يقوم بمحوها من عقله وأن يعزم في قلبه بعدم العودة اليها… من يعرف الاسرار يشهد له بأنه لن يعود اليها ابدا”. الحاخام فيدال دي تولزا، ابن القرن الرابع عشر وصاحب كتاب “مغيد مشنيه”، قال عن اقوال الرمبام: “عبارة يشهد له… بأن لا يعود اليها أبدا، هو طلب للتغيير الذاتي الجذري: تغيير الهوية الأخلاقية حتى تنقطع علاقة الاستمرارية بين “الأنا” المخطئة و”الأنا” الجديدة”.
يشعياهو لايفوفيتش قال في آب 1982، في بداية حرب لبنان الأولى: “عندما يحتل شعب شعب آخر بسلطة قيسرية ويمنع عنه الحرية فانه بذلك يفسد نفسه. اذا لم نتجرأ على النظر الى ما فعلته أيدينا مباشرة والاعتراف به والشعور بالالم تجاهه، فنحن لن نحصل على نهضة أخلاقية شخصية أو نهضة قومية”.