هآرتس: تفسيرات آيلاند هدفها التملص من الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة

هآرتس 10/11/2024، دانييل بالتمان: تفسيرات آيلاند هدفها التملص من الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة
الجنرال احتياط غيورا ايلاند هو الممثل الواضح للانهيار الأخلاقي لإسرائيل وعدم قدرتها على فهم الواقع التاريخي في هذه الاثناء. ايلاند هو رجل مثقف ولا يسعى الى أوهام مسيحانية، وبالتأكيد هو ليس مجرم. ولكن بالذات التحليل الذي يبدو أنه اكاديمي، وتصميمه على الطريقة الصحيحة للسلوك في غزة، يدل على عمق الازمة.
خطته التي طرحها مؤخرا مرة أخرى في مقال له في “هآرتس” في 31/10، ترتكز جميعها على جريمة حرب فظيعة، تتراوح بين التطهير العرقي والابادة الجماعية. في حالات كهذه في السابق، أيضا خطة ايلاند مغسولة بكلمات اكاديمية وهي تستند كما يبدو الى براغماتية باردة والقانون القانون الدولي الذي يعطيها الشرعية. ايلاند يقول إن قطاع غزة اصبح بالفعل دولة مستقلة منذ اللحظة التي انفصلت فيها إسرائيل عنها قبل 18 سنة. وقد مرت باجراءات مثل المانيا في الثلاثينيات. هذه بالطبع هراءات وذر للرماد في العيون. القانون الدولي اعتبر الوضع في غزة في هذه الفترة كوضع “سيطرة فعالة”. هذا وضع احتلال الذي فيه دولة تمارس سيطرتها الفعلية (حتى لو لم تكن مباشرة) على ارض ليست لها، بدون موافقة قانونية.
إسرائيل واصلت السيطرة على الوصول البري الى القطاع (بواسطة المعابر)، وعلى مجاله الجوي والمياه الإقليمية له. هذه السيطرة اعتبرت من قبل الأمم المتحدة سيطرة فعالة. إسرائيل واصلت فرض الحصار والاغلاق على القطاع، واستخدمت العقاب الجماعي، الذي هو محظور حسب القانون الدولي، وقيدت الوصول الى الخدمات الصحية والتعليم، وقيدت التزويد بالكهرباء والمياه ودمرت البنى التحتية في كل جولة من جولات العنف حتى قبل الدمار الذي اوقعته بغزة في السنة الأخيرة.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجهات أخرى قالت إن إسرائيل هي القوة المحتلة في القطاع، لذلك هي ملزمة حسب ميثاق جنيف بتأمين رفاه السكان المدنيين. أيضا الجمعية العمومية للأمم المتحدة والمحاكم الدولية أصدرت قرارات وآراء قانونية التي تعتبر القطاع جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة. البارز من بينها هو قرار محكمة العدل الدولية (أي.سي.جي) من العام 2004، فيما يتعلق بجدار الفصل في الضفة الغربية والذي يتناول الأراضي الفلسطينية المحتلة كرزمة تشمل قطاع غزة، ويؤكد على واجب إسرائيل للخضوع للقانون الدولي. محكمة الجنايات الدولية (آي.سي.سي) التي فتحت في 2021 تحقيق في الجرائم التي ارتكبت في المناطق الفلسطينية المحتلة، تعاملت أيضا مع قطاع غزة في هذا السياق. الأمم المتحدة وجهات دولية أخرى تواصل اعتبار غزة جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة رغم انسحاب إسرائيل في العام 2005. ما هي بالضبط العلاقة بألمانيا في الثلاثينيات؟ انا افترض أن المؤرخ ايلاند يحاول التلميح الى التشابه بين صعود النازيين الى الحكم وتولي حماس للحكم في القطاع. هذه مقارنة بائسة بأقل تقدير. هتلر صعد الى الحكم من خلال الانتخابات، في دولة كانت في ازمة، وهو مسلح بايديولوجيا شمولية تدعو الى الإبادة في أساسها، التي حاول تنفيذها بعد ذلك. حماس تولت الحكم من خلال الانقلاب على السلطة الفلسطينية، وهي مسلحة أيضا بايديولوجيا أصولية قاتلة، لكن مجال عملها كان غيتو معزول وفقير ومحاط بالجدران ومحكوم من قبل الجيش الإسرائيلي، وليس دولة حديثة مع إمكانية كامنة إنسانية، اقتصادية وعسكرية، التي تحولت بسرعة الى الدولة العظمى الأقوى في العالم في نهاية الثلاثينيات.
رجل الاكاديميا ايلاند يستمر ويتساءل بشكل بلاغي: كيف كانت بلجيكا سترد لو أن لوكسمبورغ الصغيرة انقضت عليها بشكل مفاجيء وقتلت 1200 مواطن فيها واختطفت 250 كرهائن. اذا لم يكن هذا يثير الشفقة فانه كان سيكون مضحكا. الناتج القومي الخام للفرد في إسرائيل يشبه الناتج القومي الخام في بلجيكا، 50 ألف دولار في السنة. الناتج القومي الخام للفرد في غزة (قبل الدمار) كان تقريبا ألف دولار في السنة. للمقارنة فانه يجب أن يكون القليل من الدقة.
ايلاند يحاول اقناعنا بأن التطهير العرقي في شمال القطاع يتساوق مع معايير القانون الدولي، من خلال الادعاء بأنه يعتمد على مثل هذه الوثائق وغيرها من الجيش الأمريكي وخبراء في القانون. ولكن هنا أيضا هو يذر الرماد في العيون من اجل تبرير جرائم حرب فظيعة، التي يطالب بتنفيذها. حسب المادة 49 في ميثاق جنيف في هذا الشأن (الميثاق الذي انضمت اليه إسرائيل ولكنها امتنعت عن ادراجه في قوانينها)، فان نقل بالاكراه السكان المحميين، افراد أو مجموعات، وطرد السكان من الأراضي التي تم احتلالها الى ارض الدولة العظمى المحتلة أو الى أراضي أي دولة أخرى هي أمور محظورة، ولا يهم ما هو الدافع.
رغم ذلك، الدولة العظمى المحتلة مخولة بأن تأخذ على عاتقها الاخلاء الكامل أو الجزئي الى منطقة معينة اذا كان أمن السكان أو اعتبارات عسكرية تقتضي ذلك. ولكن “هذا الاخلاء محظور أن يجر الى تهجير السكان المحميين الى ما وراء حدود المنطقة المحتلة، إلا اذا كان لا يمكن لاسباب حقيقية منع تهجيرهم”. وورد أيضا بأن الأشخاص الذين يتم اخلاءهم ستتم اعادتهم الى بيوتهم فورا بعد انتهاء الاعمال العدائية في هذه المنطقة، وأن الدولة العظمى المحتلة التي تتحمل مسؤولية عملية النقل أو الاخلاء ستهتم بتوفير أماكن سكن مناسبة تستوعب المخلين، “لتنفيذ عملية النقل بشروط جيدة، صحية ونظافة وأمن والغذاء، وبدون فصل أبناء العائلة عن بعضهم.
هكذا فانه محظور على الدولة المحتلة (إسرائيل) طرد السكان (الغزيين) من الأراضي المحتلة إلا في حالات استثنائية وفي حالة الضرورة العسكرية. وحتى لو كان هذا هو الوضع الآن في شمال القطاع فماذا بشأن واجب الاهتمام بالمخلين حول الحصول على مأوى مناسب وظروف جيدة للنظافة والصحة والامن والغذاء؟ هذا الجزء في الميثاق الدولي نسيه ايلاند، وهو حتى يطالب بعدم ادخال المساعدات الإنسانية الى حين خضوع حماس لطلبات إسرائيل.
هذه الخدعة الانتقائية التي يقوم بها ايلاند وغيره يوجد لها هدف واحد وهو التملص من حقيقة أن إسرائيل تقوم بارتكاب جرائم حرب فظيعة في القطاع، تتراوح بين التطهير العرقي القاتل والابادة الجماعية. لجنة خبراء تابعة لمجلس الامن في العام 1993، التي تم تشكيلها في اعقاب جرائم الحرب في يوغسلافيا اعتبرت التطهير العرقي “خلق منطقة متجانسة من ناحية اثنية بواسطة طرد منظم لمجموعات سكانية أخرى من خلال التخويف، الإرهاب والعنف، بما في ذلك القتل والتعذيب والاعتقال العبثي والاعتداءات الجنسية والطرد بالاكراه وتدمير الممتلكات”. أليس هذا ما يطرح ايلاند فعله في شمال القطاع؟ أليس هذا ما يطالب به كثيرون في إسرائيل الآن؟.
مذبحة جماعية، تطهير عرقي وابادة جماعية، هي الخروقات الأكثر خطورة لحقوق الانسان في القانون الدولي. وليام شباس، الباحث البارز في القانون الدولي الذي عمله يتركز على تعريفات قانونية دقيقة لجرائم مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، يؤكد على ما تم التأكيد عليه في ميثاق الأمم المتحدة لمنع المعاقبة على جريمة الإبادة الجماعية (1948): أهمية النية هي مفهوم قانوني يعني “نية خاصة” أو “هدف خاص”. في القانون الدولي الجنائي هذا المفهوم يتناول مستوى النية المطلوبة من اجل اثبات حدوث جرائم معينة. وهو يشير الى أنه لا يكفي اثبات نية عامة لارتكاب الفعل الجنائي، بل مطلوب الدليل على نية معينة للتوصل الى نتائج معينة، خاصة في جرائم خطيرة مثل التطهير العرقي والابادة الجماعية. هل يمكن لايلاند أو مئات آلاف الإسرائيليين في الوقت الحالي الادعاء بأن ما تفعله إسرائيل في غزة لا يدل على وجود “نية خاصة”؟.
أبحاث في علم النفس الاجتماعي تفحص جرائم مثل الكارثة أو الإبادة الجماعية للارمن في بداية القرن الماضي، توصلت الى أفكار كثيرة حول التملص من معايير أخلاقية وتفسيرات لهذا التملص. نظريات كثيرة تظهر أن الناس يصنفون انفسهم والآخرين كاعضاء في مجموعات معينة، وهكذا فانهم يحصلون على الشعور بالهوية من الانتماء لجماعة معينة. وبسبب الرغبة في الحفاظ على صورة ذاتية إيجابية فانهم يطورون ميل جماعي، الذي من خلاله يرون جماعتهم بنظرة إيجابية ويرفضون الاعتراف بالمظالم التي تسببوا بها للآخرين.
بالاستناد الى مقاربة الهوية الاجتماعية فان علماء نفس اجتماعيين لاحظوا تقنيات نفسية متنوعة، يستخدمها أعضاء جماعات معينة للدفاع عن صورتهم الجماعية، وهم يواجهون المعلومات التي تهدد التقدير الإيجابي لمجموعتهم. هكذا يواصل الكثير من الاتراك نفي ارتكابهم إبادة جماعية ضد الأرمن. وفي الصرب ينفون الإبادة الجماعية ضد البوسنيين في سربرنتسيا، والليطائيون والبولونيون واللاتفيون والرومانيون والاوكرانيون (قائمة جزئية) ينفون أنهم ساعدوا بطرق مختلفة في الإبادة الجماعية للنازيين ضد اليهود. هذه هي الآلية التي يستخدمها الآن الكثير من الإسرائيليين بالنسبة للافعال الفظيعة في غزة.
قبل بضعة اشهر شاركت في مؤتمر في أوروبا تناول التحدي الذي يقف امام متاحف تخليد ذكرى الكارثة الآن. لم يكن بالإمكان التملص من مناقشة احداث 7 أكتوبر وما اعقبها في سياق موضوع المؤتمر. أنا تحدثت عن الصدمة التي مرت فيها إسرائيل في اعقاب مذبحة الإبادة لحماس، وعن الاعمال الفظيعة في غزة. الأجواء في المؤتمر كانت متعاطفة ومتفهمة للتحدي الذي تواجهه إسرائيل الآن، لكن أيضا كان انتقاديا بالنسبة لرد إسرائيل.
بعد ذلك تقدم مني احد المشاركين وسألني: ماذا سيحدث اذا قررت محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل نفذت في غزة إبادة جماعية أو شيء مشابه؟ ما الذي سيحدث لـ “يد واسم” ومتاحف الكارثة في العالم؟ كيف سيواجهون هذه القضية؟. أنا صمت. ربما يوجد لدى غيورا ايلاند اجابة افضل لهذا الواقع التاريخي الجديد.
مركز الناطور للدراسات والأبحاث Facebook