هآرتس – بقلم شاؤول اريئيلي – يلقون الخطب في بلفور ويتجاهلون الفيل الموجود في الميدان
هآرتس – بقلم شاؤول اريئيلي – 18/12/2020
” المتظاهرون في بلفور لا يرون الفيل الموجود في الميدان المجاور لهم وهو النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني. وهذا النزاع هو الذي يمكن من استمرار حكم نتنياهو البغيض، وليس اتهامات المتظاهرين المبررة بحد ذاتها “.
في منتهى السبت، للمرة التي لا يعرف رقمها أحد، سمعت الخطاب العاشر في ذاك المساء، وأقرأ لافتات كثير من التنظيمات. وأتحمس من “الابداعات” و”الكاريكاتورات” و”البالونات”. وفي النهاية أحاول أن أفهم سبب التجاهل التام للمتظاهرين المختلفين، الفيل الموجود في ميدان باريس. الفيل ضخم ولكن لا أحد يعترف بوجوده. عدد من الحاضرين لا يرونه على الاطلاق، وآخرون اختاروا الامتناع عن الاحتكاك به، وحتى أن عددا منهم يحاولون اخفاءه. والفيل، النزاع بين اسرائيل والفلسطينيين، يقف بكامل ضخامته ويملأ الميدان. صوته المدوي يغطي على ضجة الرعاشات. وهو الذي يسمح بحكم نتنياهو الفوضوي وزمرة رعاياه، وليس هناك أي تهمة يطلقها المتظاهرون الذين يريدون عزل نتنياهو بسبب عدم اهليته – عن الفساد وخرق الامانة والرشوة والتحريض وازمة الكورونا وتبذير اموال الجمهور والمس بالقانون وسلوك العصابات.
النزاع يبقي دولة اسرائيل بدون حدود منذ سبعين سنة. هو يحتجزها في واقع دولة ومجتمع لا يعرفان أين يبدءان وأين ينتهيان، من هو مشمول داخلهما ومن هو خارجهما، ما هي هويتهما وما هو نظامهما. تجمع من “القبائل الصقرية” بدون فكرة سامية موحدة.
الدولة هي كيان جغرافي مع حدود معترف بها وسكان دائمين، والتي لديها سلطة مركزية واحدة مستقلة. المنطقة الجغرافية هي التعبير المكاني عن الدولة. حماية حدود المنطقة الجغرافية تستهدف ضمان وجود الدولة وسيادتها ومواردها وسكانها، ويوجد لها أهمية كبيرة في نظر من يعيشون فيها. لأنها قلب التماهي مع الدولة.
اضافة الى ذلك، الحدود السياسية هي عامل اساسي للدولة الحديثة، ولاستقرارها توجد أهمية عليا من ناحية سياسية، اقتصادية وعسكرية، في مسألة كيف يتم النظر الى الدولة من قبل الدول الاخرى، وايضا كيف يتم النظر اليها من قبل مواطنيها.
الحدود هي الفصل بين “الأنا” و”الآخر”. طبقا لشبكة العلاقات، فان الحدود تعتبر احيانا كحاجز يحمينا من “الآخرين”. الحاجز ونقاط الربط توجد في المعنى الطبيعي – الجغرافي. وايضا بمعان دينية واقتصادية واجتماعية وعرقية وثقافية.
بسبب النزاع فان دولة اسرائيل والمجتمع الذي يعيش في اراضيها السيادية (الخط الاخضر)، غير محددة بحدود سياسية وليست منفصلة عن الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق الضفة. ليس هناك خط تنتهي فيه “الأنا” الاسرائيلية ويبدأ “الآخر” الفلسطيني. وفي كل يوم يمر تعمق اسرائيل اختراقها للفضاء المأهول بأغلبيته الساحقة بفلسطينيين، تقسمه وتمس بنسيج حياته – لكنها لا تنجح في اخضاعه ديمغرافيا وجغرافيا. لا توجد لها مساحة جغرافية محددة فيها كل اعضاءها يمكنهم أن يبلوروا هويتهم القومية الحديثة. هي ليست مجتمع يرى في كل اعضائه اشخاص متساوين أمام قانون واحد موجود فيها، وليس كل اعضاءها ينتمون اليها بارادتهم.
في ظل غياب مساحة جغرافية وحدود متفق عليها فان المجتمع في اسرائيل لا يمكن أن يتبلور ويتغلب على الشروخ التي توجد بين اعضائه، الذين يعيشون في مجموعات منفصلة، كل مجموعة منها تتبنى رؤية جغرافية مختلفة – ترى هويتها مرتبطة بها. وفيها ترى أن هذه الهوية تتحقق. المجتمع الذي يعيش الآن بين البحر والنهر مليء بالشروخ: الاسرائيلي – فلسطيني، العربي – يهودي، الديني – علماني، الشرقي – اشكنازي، الديمقراطي – فاشي، مؤيدو ارض اسرائيل الكاملة مقابل من يؤيدون دولتين لشعبين، دولة يهودية مقابل دولة كل مواطنيها وغيرها. فقط منطقة جغرافية متفق عليها يمكنها الغاء عدد من هذه الشروخ والتئام أو استيعاب الاخرى.
امام المتظاهرين في بلفور يقف حاجز طبيعي يمكنه أن يعلمهم درس عن اهمية الحدود. لو أنهم نظروا الى جدار المعدن الذي وضعه رجال الشرطة بينهم وبين مؤيدي رئيس الحكومة لكانوا سيميزون بسهولة دوره الهام. هذا الجدار هو خط الفصل بين من يؤمنون برئيس الحكومة ومن لا يؤمنون به. وكل من اختار الايمان برئيس الحكومة ووقف في أحد جوانب الجدار اختار تجاهل كل صفة اخرى تميز بينه وبين من يقفون الى جانبه. هكذا ايضا في اوساط المتظاهرين الذين يريدون وضع نهاية لحكم نتنياهو – متدينون وعلمانيون، شرقيون واشكناز، يهود وعرب، اثرياء وفقراء، من المركز ومن الضواحي وغيرها. الجدار ينهي منطقة جغرافية من يوجدون فيها يوافقون على فكرة مشتركة، والتي تتغلب على جميع المميزات الاخرى التي تفرق فيما بينهم وتحدد وتشخص مجموعتهم.
نتنياهو يفعل كل ما في استطاعته من اجل الحفاظ على النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني ومنع وضع حد سياسي بين المجتمع الاسرائيلي والمجتمع الفلسطيني. وغياب الحدود يمكنه، بواسطة قمع جزء من المجموعات من جهة واعطاء امتيازات للمجموعات الاخرى التي تعيش بين البحر والنهر من جهة اخرى، من اجل الحفاظ على حكمه.
نتنياهو يعارض انهاء النزاع وترسيم حدود، لأن الحدود ستفصل 5 ملايين فلسطيني يعيشون في المناطق عن التسعة ملايين اسرائيلي الذين لديهم تطلعات وطنية خاصة بهم، وفي ظل غياب الحدود هم رغما عنهم اعضاء مسلوبي الحقوق في مجتمع يقع بين النهر والبحر. الحدود تمكن الفلسطينيين، من جهة، والاسرائيليين من جهة اخرى من التبلور بصورة منفصلة والعيش في دولة واحدة الى جانب الثانية. هو يمنع نتنياهو من أن يواصل تحريض الاسرائيليين ضد الفلسطينيين انطلاقا من تهديد ليس له اساس يقول إن “دولة م.ت.ف تشكل تهديد وجودي على دولة اسرائيل”. حدود ستقلص بصورة كبيرة الشرخ اليهودي – عربي داخل اسرائيل عن طريق أنها ستهديء العامل القومي في المجتمع وستؤدي الى الدفع قدما بالمساواة المدنية. هي ستمنع نتنياهو من أن يستمر في التحريض ضد الجمهور العربي في اسرائيل وتهديده بنقله الى فلسطين وباستمرار التمييز ضده.
الحدود ستسحب البساط الذي عليه يدير المسيحانيون – القوميون المتطرفون حربهم حول طابع المجتمع في اسرائيل ونظامها وقيمها. وهي ستجبر نتنياهو وستجبرهم على اعطاء امتيازات، التي تشمل ميزانيات ضخمة للمستوطنات ولمؤسساتها، وستجبرهم على المس بسلطة القانون وتعميق التهويد والعنصرية – مقابل تأييد حكمه. الحدود ايضا ستلغي المزايا الميزانية والاجتماعية للاصوليين وستجبرهم وتجبر الدولة على العمل من اجل دمجهم في المجتمع بصورة كاملة في مجال التشغيل والثقافة. نتنياهو لن يستطيع السماح باستمرار انفصالهم، وارسال مئات الآلاف منهم بدعم من الدولة للعيش خارج الخط الاخضر مقابل دعم حكومي.
الحدود سترفع “القناع الامني” الذي يخفي وراءه نتنياهو سلة قيمه الظلامية – الرشوة، الخداع، التحايل، خرق الامانة، التحريض، الكذب، الطمع وحب الملذات على حساب الجمهور – عن جمهور ناخبيه الذين ما زالوا يؤمنون بأنه من اجل أمن اسرائيل يجب أن نغفر له كل شيء. الحدود ستلغي كل الافكار لتأسيس دولة ثنائية القومية وستمكن اسرائيل من البقاء كدولة ديمقراطية تضمن المساواة للجميع وتجسد برموزها وثقافتها وبنمط حياتها حق الشعب اليهودي في تقرير المصير في وطنه.
ازاء احتمالية الذهاب الى جولة انتخابات اخرى في اسرائيل، على المتظاهرين في بلفور طرح رؤية فكرية كاملة – سياسية، أمنية، اجتماعية واقتصادية – تطرح بديل لسياسة نتنياهو، اتفاق وحدود دائمة هي قلب التغيير المطلوب لصالح تكتل المجتمع الاسرائيلي في اطار سياسي، والذي اعضاءه، بارادة حرة، سيكونون ملزمين بالاعتراف به على اعتبار انه الاطار الذي يعرفهم ويعرف هويتهم اكثر من أي من الميزات الاخرى المختلفة. ربما عندها كل السياسيين الذين يطالبون باستبدال نتنياهو سيستجمعون الشجاعة من اجل الانضمام للرئيس المنتخب جو بايدن الذي اعلن في مؤتمر “جي ستريت” عشية الانتخابات الامريكية في 10 ايلول بأن “حل الدولتين هو السبيل الوحيدة لضمان أمن اسرائيل على المدى البعيد، انطلاقا مع الحفاظ على هويتها اليهودية والديمقراطية… وهذه ايضا هي السبيل الوحيدة لضمان حقوق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم”.