هآرتس – بقلم دمتري شومسكي – يا سموتريتش، لا يوجد للفلسطينيين ارض أخرى
هآرتس – بقلم دمتري شومسكي – 2/9/2020
“ في محاولتهم لتقويض الشرعية الوطنية الفلسطينية فان سموتريتش وامثاله يخلقون صورة كاذبة للواقع. ويجب عليهم أن يعرفوا بأنه لا يوجد للفلسطينيين مثلما لا يوجد للاسرائيليين ارض اخرى غير الموجودة بين النهر والبحر “.
“كل الوطنية الفلسطينية جاءت كحركة مضادة للصهيونية. هذا هو كل حقها في الوجود. في اللحظة التي سيعترفون فيها بوجودنا كدولة يهودية، سيسحبون البساط من تحت حق وجودهم كحركة وطنية. هم سيصبحون عرب مثل كل العرب”. هذه الادعاءات التي طرحها في الشهر الماضي عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش في مقابلة اجرتها معه رفيت هيخت (“هآرتس”، 7/8)، تعكس ملخص تبرير الاسرائيليين السائد لنفي حقوق الفلسطينيين، الذي يخدم ليس فقط اليمين الاستيطاني، بل ايضا عدد غير قليل من الاسرائيليين البعيدين جدا عن ايديولوجيا ارض اسرائيل الكاملة.
على خلفية ذلك، لأن الامر لا يتعلق هنا بادعاءات دينية – سياسية لا يوجد أي مبرر لمناقشتها معهم بل يتعلق بادعاءات سسيولوجية – عرقية الى حد ما، يجب أن يؤخذ هذا المبرر على محمل الجد والجدية.
في صلب خطاب نزع الشرعية هذا تجاه الحقوق القومية للفلسطينيين بين النهر والبحر – خطاب حتى عدد من رجال يسار ضائعين ويائسين يمكن أن يوافقوا عليه من اعماق قلوبهم – يقف نوع من الادعاء القاطع الذي يبدو منطقيا تماما: “الوطنية الفلسطينية” و”الشعب الفلسطيني” يمثلان النموذج المثالي للبناء المصطنع والمخترع للهوية الوطنية. هذه الهوية قائمة جميعها على مقاومة عنيدة للدولة اليهودية – مقاومة “عملاقة”، كما يسميها سموتريتش، أو “تافهة”، مثلما بالتأكيد سيسميها عدد من اعضاء الوسط – يسار من حركة “استيقظوا”. بالتالي هي خالية من أي مضمون ايجابي ومحرومة من أي مستقبل.
في المقابل، الاساس الحقيقي الوحيد في الوجود الوطني للفلسطينيين هو مكون العروبة، حيث أنه في الواقع الموضوعي فان “الفلسطينيين” ليسوا سوى مجرد عرب، بالضبط مثل اخوانهم في الـ 22 دولة عربية. وبالتالي، فانه آجلا أم عاجلا سيكون على الفلسطينيين الاعتراف بهذه الحقيقة الاثنية – الوطنية واختيار الانضمام الى ابناء شعبهم في الدول العربية. وهذا بالتأكيد هو جوهر المنطق التاريخي الذي يقف من وراء رؤية سموتريتش لـ “الترانسفير الطوعي”.
هذه صورة مضللة وكاذبة للواقع، التي فيها أكثر من تلميح الى نقص الوعي الذاتي القومي وعدم الامانة التاريخية. ولكن لنبدأ من ومضة الحقيقة التي توجد فيها: بهذا يكون سموتريتش على حق – الوطنية الفلسطينية هي بدون شك نتاج واضح وظاهر لتجسيد الصهيونية. اضافة الى ذلك، يمكن صياغة ذلك بلغة اكثر حدة وفظاظة: الوطنية الفلسطينية تعتبر خطأ تاريخي خلال تطور القومية العربية الحديثة، بالضبط مثلما على سبيل المثال “القومية العراقية”، “القومية السعودية” أو لنقل “القوميات الاماراتية” – وهلمجرا – تعكس كل واحدة بطريقتها، تشويشات على عملية بلورة الهوية القومية العربية في الشرق الاوسط الحديث.
ملاحظة: في نهاية عهد الامبراطورية العثمانية ظهرت بدايات وعي قومي عربي في منطقة الشرق الاوسط العربية في الامبراطورية. ومثلما هي الحال في فضاءات صعود القومية الحديثة في مراحل نموها الاولى، لا سيما في الفضاءات الجيوسياسية الواسعة ومتعددة الهويات، فان فضاء المشرق العربي العثماني كان منقسم بعمق بين انماط مختلفة ومتنوعة من الوعي والولاء – العشائرية، القبلية، الحمائلية، السلالات الملكية والدينية والمحلية – التي ناقضت بهذه الدرجة أو تلك فكرة القومية العربية الشاملة والجامعة.
ورغم ذلك، قبل قرن ونيف، فان مراقبين ثاقبي النظر من أبناء هذا العهد لم يشككوا باحتمالات انضاج القوميات العربية الحديثة في المستقبل المنظور للعيان. هكذا على سبيل المثال، قدر هذه الاحتمالات في 1909 زئيف جابوتنسكي: “الحركة “القومية” العربية بالمعنى الجدي للمفهوم ما زالت غير قائمة – ليس لدينا حتى الآن الطبقة المثقفة الضرورية من اجل ذلك، وليس هناك ما يكفي من الوحدة بين القبائل المنقسمة وشبه الوحشية داخل شبه الجزيرة العربية وبين المسلمين والمسيحيين في سوريا… ولكن هذا لن يتأخر في القدوم حيث يوجد لذلك ارضية ممتازة – تواصل جغرافي، اغراء القوة العددية، ثقافة قديمة، تاريخ مجيد”.
كما هو معروف، القدر، أي الكولونيالية الغربية، أراد شيئا آخر. مع تفكك الامبراطورية العثمانية فان البوادر الاولية للقوميات العربية الحديثة تم قطعها، حيث التواصل الجغرافي، المأهول بمعظمه من قبل العرب، والذي عند رؤية مساحته والثقافة القديمة لسكانه جعل جابوتنسكي ينفعل، تم تقسيمه من قبل الدول الغربية العظمى الى اجزاء منفصلة. هذه الخطوة زادت بدرجة لا تقدر وبصورة لا يمكن اصلاحها الانقسام في الهوية والجيوسياسة الداخلية في الفضاء العربي. وهكذا اغلقت الباب فعليا على الحلم القومي العربي.
من الواضح أن الحركة الصهيونية كانت أحد المستفيدين الرئيسيين من هذا التطور. حيث أنه لو أن تنبؤ جابوتنسكي بتشكل القومية العربية في الشرق الاوسط قد تحقق، فمن المحتمل أن يهود الاستيطان الصهيوني الجديد كان عليهم أن يشنوا حرب تحرير لاحقة ضد الحكم الاجنبي، مثلما كانت الحال مع الكثير من الحركات الوطنية الحديثة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وبدلا من ذلك حصلوا على قطعة ارض لبناء وطنهم القومي على طبق من فضة، من دولة عظمى بروتستانتية ذات حساسية دينية خاصة في ارض التوراة، وبنوا – تحت رعايتها وعلى الرغم من العقبات التي وضعتها في طريقهم عندما ادركت حجم المعضلة – أسس الدولة القومية اليهودية.
الصهيونية بنيت بصورة واضحة من خلال تفكك ودمار القوميات العربية وهي ما زالت في مهدها. ولكن لأنه في حياة الأمم مثلما في حياة البشر ليس هناك وجبات بالمجان، فقد رافق ذلك ثمنا لا مفر منه: بعض فتات الأمة العربية الكبيرة التي ماتت في مهدها، الفتات العربي الفلسطيني، علق عميقا في الحنجرة الصهيونية.
سموتريتش وامثاله سعوا دائما، بمزيج من الجرأة ونفي الواقع، الى أكل كعكة الأمة العربية وتركها كاملة. ومن اجل تقيؤ هذا الفتات الذي اصبح في هذه الاثناء أمة فخورة، ودفعه الى داخلها. ولكن هذه الكعكة غير موجودة في الواقع. كل القومية العربية خيال، وتوجد مكانها في الشرق الاوسط عدة مجتمعات وهويات عربية وطنية وغير وطنية مختلفة عن بعضها البعض، وقبل كل شيء، تنفر من بعضها البعض في معظم مجالات الحياة المتعلقة بوجود أمة حديثة متماسكة ومترابطة.
اجل، العرب الفلسطينيون هم غرباء على المحيط العربي المحلي في مصر وفي المغرب، في العراق وفي دول الخليج (بالضبط مثلما أن العرب في هذه المناطق هم غرباء على المحيط العربي في اسرائيل/ فلسطين). ومن اجل ادراك ابعاد هذه الغربة اليوم يجب أن نقرأ على سبيل المثال قصة الصعوبات التي يواجهها علاء غامري، شاب من غزة تم سجنه مدة خمسة اشهر في مطار أبو ظبي بعد ترحيله من مصر، التي عرضها مؤخرا جدعون ليفي في عموده “منطقة الشفق” (“هآرتس”، 21/8).
يبدو أنه لا يكفي سموتريتش واليمين الاستيطاني الموقف الديني التوراتي من اجل تقويض الحقوق الوطنية للفلسطينيين. من المهم بالنسبة لهم أن يعرضوا انفسهم كواقعيين اذكياء، يعرفون الواقع كما هو، حقيقة أنه للفلسطينيين مثلما لليهود الاسرائيليين لا توجد لهم ارض اخرى توجد بين البحر والنهر التي هي جزء لا يتجزأ من واقع الشرق الاوسط. وطالما أنكر سموتريتش ومؤيدي الترانسفير ذلك فسيستمرون في العيش في عالم خيالي مليء بأوهام وهوس لا اساس له من الصحة.