ترجمات عبرية

هآرتس – بقلم دافيد غروسمان – تصحيح صغير للنشاز العام

هآرتس – بقلم  دافيد غروسمان – 30/10/2020

احيانا يكون لعبارة جديدة نكتبها نوع من الوميض في الوعي، وكأن كلمتين لم يتم ضمهما معا وجدتا فجأة احداهما الاخرى وأحدثتا اتساع مفاجيء من التفكير والمشاعر. هل اضعفنا بهذا ولو بشكل قليل زخم الكورونا؟ من الواضح أن لا، لكننا عززنا قليلا جهاز مناعتنا “.

احيانا، في منتصف يوم عمل، أنا ارفع رأسي عن لوحة المفاتيح وأفكر بكاتب أو اثنين ممن اعرفهم، كتاب هم اصدقاء لي وكتاب آخرون اشعر بأني قريب منهم لأن كتبهم كانت قريبة مني.

أنا افكر كيف أنهم مثلي يجلسون الآن أمام شاشة الحاسوب ويبحثون عن كلمة تملصت منهم أو عن ملامح معينة لشخصية ما زالوا غير قادرين على حل لغزها. أنا أتخيلهم يطرقون باصابعهم على الطاولة، ويحضرون لانفسهم فنجان قهوة آخر أو يمشون في الغرفة مع شعور من القلق لأنهم يشعرون بأنهم في المقطع الذي كتبوه الآن ظهروا كمن يصفرون بجانب النغمة الصحيحة.

أنا أتخيل اصدقائي الكتاب في بيوتهم في نيويورك أو في شنغهاي، في براغ أو طهران، في ميونيخ أو غزة، الوباء يتفشى في المدن، ربما أنه طرق ابواب بيوتهم لكنهم منغمسون تماما تجاه انفسهم وكأنهم يقومون بدوزنة آلاتهم الموسيقية.

أنا أتخيل نوع من الشبكة غير المرئية، دقيقة وقوية، التي تراكمت دون توقف من قبل آلاف الاشخاص، كتاب وشعراء، من كل ارجاء العالم. عدد منهم سبق ونشروا كتب كثيرة وآخرون يكتبون الآن كتابهم الاول. معظمهم لا يعرفون حتى عن وجود الآخرين، لكن معا يقومون بعمل: تصحيح صغير في النشاز العام، في التشويش الكبير للواقع. هم يصنعون فن. هذه الاقوال تكتب في بيتي في مبسيرت تسيون قرب القدس. عندما طلبوا مني التحدث عن الأمل فكرت: كيف أتحدث عن الأمل في الوقت الذي فيه الواقع الذي اعيشه والذي كل العالم يعيشه هو واقع يدعو الى اليأس بدرجة كبيرة؟.

عندها فكرت، بالضبط من الجيد أنهم طلبوا مني التحدث عن الأمل. ربما بهذه الطريقة أجد داخلي القوة للعمل ضد قوة جاذبية الكآبة والحزن التي اشعر بها منذ دخول الكورونا الى حياتي.

الأمل، فكرت مرة تلو الاخرى، حاولت ايقاظه في داخلي، ناديته بصوت عال وبالعبرية، ربما أنه يفهم العبرية، أمل، أمل. فكرت بشأن أن نشيد دولة اسرائيل يسمى “الأمل”، وهو يتحدث عن أمل اليهود طوال آلاف السنين، في الوقت الذي كانوا فيه في الشتات، بالعودة الى وطنهم. أمل أكثر من مرة حماهم في حياتهم.

أمل. هناك طابع خاص لهذه الكلمة. هي اسم، وكأنه يوجد فيها فعل يحركها نحو المستقبل. دائما نحو المستقبل، دائما مع طاقة “نحو”.

يمكن رؤية الأمل كنوع من المرساة التي القيت من داخل وجود مخنوق ويائس نحو مستقبل جيد اكثر حرية. نحو واقع ما زال غير قائم، معظمه مصنوع من الأمنيات، متخيل. المرساة القيت وأمسكت بأرضية المستقبل، والشخص، احيانا مجتمع بأكمله، يبدأون بسحب انفسهم اليها.

هذا عمل متفائل: القدرة على ارساء المرساة الموهومة الى ما وراء الظروف الملموسة والتعسفية تدل على أنه في داخل روح الانسان الذي يتجرأ على أن يأمل، ما زال يوجد مكان واحد حر. مكان لم ينجح أحد في قمعه أو تلويثه. وبفضل جيب الحرية هذا الذي يشع في روح الانسان الآمل هو يعرف كيف يجب وكيف يستطيع واقع الحرية أن يكون. لهذا السبب فانه ايضا يعرف الى أي درجة من الضروري أن يناضل من اجله.

هنا، نحن الكتاب والشعراء والمترجمين والمحررين والناشرين، وبالاساس القراء، نقارن بحزن ظروف اليوم مع ظروف السنين الماضية ونسأل أنفسنا أين هو مكاننا في واقع الكورونا؟ هل يمكن أن يكون هنا اسهام مميز للتخفيف من الوضع؟ هل نستطيع خلق لقاح مع أو تطعيم روحي للوباء؟ هل لدينا شيء ما، شيء واحد واضح، نستطيع أن نضعه امام مشاعر التقليص والمحو التي تسببها الكورونا لنا ولملايين بني البشر في ارجاء العالم؟.

أنا اعتقد أن هذا الشيء الـ “ما” هو طريقة تفكيرنا. النهج الذي به ننظر الى العالم. والطريقة التي بها نصوغ ما اظهره تفكيرنا. التفكير هو جوهر فننا، هو الشيء الذي يجعل منا كتاب، وربما هو الشيء الذي يجعلنا بني البشر الذين هم نحن. لا يوجد لمعظمنا ربما مؤهلات كثيرة اخرى. معظم الكتاب والشعراء الذين اعرفهم، وأنا من بينهم، يجدون حرجا في ملامستهم للواقع، لكننا نعرف كيفية النظر اليه.

هناك شيء للنظر اليه وهناك ما يجب علينا صياغته: تقريبا في كل مجالات الحياة تحدث وستحدث تغييرات. انظمة اقتصادية، سياسية، اجتماعية وثقافية ستنهار أو ستتم اعادة تشكيلها وستأخذ صورة جديدة.

عمليات وتغييرات ستحدث ربما، ببطء كبير، ايضا في انظمة العلاقات بين البشر، في العائلات، في علاقات الصداقة والمحبة. بقرارات جديدة. ربما لمس البنية التحتية للوجود، قريبا من الموت، سيؤدي الى جعل الرجال والنساء بعد انتهاء الوباء، يرون حياتهم من خلال منظار مختلف، وأن يصمموا على الحياة التي يريدون عيشها، وأن يرفضوا الاستمرار في التنازل. وربما سيكون هناك رجال ونساء سيكتشفون الى أي درجة مهمة وذات صلة علاقات الصداقة والمحبة لهم وكم أحسنوا الاختيار.

ولكن الى أن نصل الى هناك فان الكورونا تواصل حملة دمارها، وكما هي الحال دائما عندما تهتز أسس المجتمع وعندما يزداد انعدام الأمن الشخصي والقومي، سنشهد ايضا تزايد مظاهر القومية المتطرفة، والتعصب الديني وكراهية الآخر والعنصرية، والمس الشديد بالديمقراطية وبحقوق المواطن.

نحن الكتاب سننظر ونكتب ونوثق. سننظر ونحذر في كل مكان سيحاولون فيه افساد لغتنا، والذي فيه سيتم اجراء تلاعبات لغوية وفكرية علينا، وسيحاولون فيه المس بحقوق المواطن الخاصة بنا، وبحقوق الانسان الخاصة بنا. أنا أقول هذا كمواطن من مواطني العالم، لكن ايضا كاسرائيلي يتابع بقلق كبير هذه العمليات في بلاده.

ربما مرة كل مئة سنة يحدث حدث مثل الكورونا. لقد شاء القدر أن تحدث في زماننا. وهي واقعة مهددة وقاتلة، ومعظمنا نشعر بالعجز ازاءها. أن ننظر مباشرة اليها، بكل تداعياتها، مثل النظر نحو الشمس. ولكن الكثيرين منا سبق ونظروا اكثر من مرة مباشرة نحو هذه الشمس أو تلك وعادوا من اجل الحديث عن ذلك. هذه هي طبيعة مهنتنا الغريبة. نحن نريد النظر داخل الشموس، داخل اشخاص وعمليات وعلاقات وجروح. نحن نريد النظر داخل الكورونا وأن نذكر كيف كنا فيها وكيف صمدنا فيها أو أننا لم نصمد. أين ظهرت نقاط ضعفنا، كأفراد وكمجتمع، وفي أي لحظات اكتشفنا بأننا اضعف مما اعتقدنا وأين كنا أقوى مما اعتقدنا.

نحن سنكون شهود، شهود ناشطين وعنيدين. وهناك أمر آخر: قوة الفنانين في الصمود في وجه التحدي الكبير للوباء، مثل صمود فنان امام أي وضع تعسفي، تنبع ليس بالضبط من مضامين الانتاج، بل من ذات الانتاج، من شعور الوفرة البشرية والتعقيد البشري الذي يشعر به الكاتب في كل مرة يصف فيها حالة انسانية. احيانا، وهذا أكثر ندرة، نحن نحظى ايضا باحساس من الطيران، ومن الالهام، ومن الحرية.

كل ذلك هو مشاعر نسيت أو تلاشت قليلا، في الاشهر الاخيرة، في ايام الخوف والحذف. عندما الوباء يهدد بتحويلنا الى جمهور عظيم مجهول الهوية. التصميم على الفروق الدقيقة. العيش مع المزيد والمزيد من التفاصيل الدقيقة – للشخصية، للعلاقات، للمواقف، للهوية وللغة. وأن نطالب بها لانفسنا من جديد بعد أن صادرتها الكورونا منا. هذه اشياء لدينا القدرة على القيام بها.

الكتابة، حتى لو كانت لا تتناول بصورة مباشرة الكورونا، هي اسلوب لمعارضة الكليشهات، الشعارات الجوفاء، الصياغات الشاملة والتي لا يمكن تمييزها والتي تمهد الطريق للتحريض، والخوف من الآخر، والمواقف المسبقة والعنصرية.

قبل بضعة ايام قرأت أن عدد الوفيات في العالم اجتاز خط المليون شخص. وقد تذكرت مقولة مخيفة منسوبة لستالين: “موت شخص واحد هو مأساة، لكن مليون من الوفيات هو رقم احصائي”. هكذا، على طريقته، صاغ ستالين العمل الذي نصنعه في اعمالنا: نحن، الكتاب والشعراء والأدباء، نناضل من اجل استخراج دراما الشخص الواحد، تميز وخصوصية الفرد من داخل الاحصائيات الميتة.

كم نحن محظوظون. ففي عالم آخذ في الانغلاق في كبسولات، ويقلص بخوف اتصاله مع الخارج، في هذا العالم أعد لنا مكان من الوفرة ومن الصحة.

احيانا حتى عبارة جديدة نكتبها تخلق فجأة نوع من الوميض في الوعي: كأنهما كلمتين لم يتم ضمهما، وأن أحدا قبلنا لم يفكر بضمهما، وجدتا فجأة بعضهما وأثارتا توسع مفاجيء للتفكير والمشاعر.

هل اضعفنا بذلك ولو بشكل قليل زخم الكورونا؟ الواضح أن لا. ولكننا عززنا قليلا جهاز مناعتنا، وذكرنا انفسنا من كنا قبل أن يسيطر الوباء على حياتنا. وذكرنا انفسنا كم ستكون روعة العالم واشراقه بعد أن نخرج من هذا الكابوس.

قبل أن أنهي، أريد أن أروي لكم قصة قصها ابراهام سوتسكيبر، من الشعراء الكبار، بلغة الايديش. سوتسكيبر ولد في العام 1913 في روسيا البيضاء. اثناء الحرب العالمية الثانية وفي وقت الكارثة عاش في غيتو فلنا.

هكذا تحدث سوتسكيبر عن الليلة التي هرب فيها من الغيتو: “لقد اقتنعت بعظمة قصيدة في آذار 1944، في غابات الانصار، عندما كان علي أن اعبر حقل الغام. ولم يكن أي احد يعرف أين دفنت الالغام. رأيت اشخاص ممزقين اربا اربا. رأيت عصفور غبي اقترب اكثر من اللازم، في كل اتجاه ذهبت فيه، وفي كل مكان وضعت فيه قدمي، حركة واحدة كانت تشكل الموت… وقد غرست لحنا في داخلي”، قال سوتسكيبر واضاف “بوتيرة ذلك اللحن مشيت مسافة كيلومتر – في حقل الالغام – وتجاوزته”. هنا يقول سوتسكيبر الجملة المفاجئة التالية: “لكن ربما يمكنكم تذكيري أي لحن كان ذاك اللحن. أنا لا أذكر…”. أنا يمكنني أن أتخيله وهو يبتسم ابتسامة ناعمة وكأنه يقول لنا إن هذا لحن ننساه دائما، وهذا هو جوهره، أنه دائما يجب علينا أن نعيد اختراعه من جديد، كل واحد بكلماته وبألحانه، كل واحد بنضاله. هكذا، للحظة واحدة، حتى وسط حقل الالغام لن نكون عاجزين، لن نكون مهزومين، سيكون ما زال في داخلنا أمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى