هآرتس – بقلم دافيد ستبارو – المذبحة لم يتم وقفها

هآرتس – بقلم دافيد ستبارو – 24/11/2019
“اذا كان يجب علينا الاختيار بين المصالحة وبين قتل شعبنا فمن المؤكد أننا كنا سنختار الحياة لشعبنا”، كتب قبل شهرين تقريبا مظلوم العابدي، قائد الـ أي.دي.اف (القوات السورية الديمقراطية). العابدي الذي هو قائد لعشرات آلاف المقاتلين والمقاتلات الذين نجحوا في هزيمة داعش، يعرف عما يتحدث. في هذه الاثناء “ادارة الحكم الذاتي في شمال وشرق سوريا” (روجبة) توجد على شفا الهاوية. التنازل الامريكي وهجوم تركيا وحلفائها الجهاديين وتدخل نظام الاسد واسياده الروس، كل ذلك اجبر سكان المنطقة، ولا سيما الاكراد، على المناورة والمصالحة من اجل الحفاظ على الحياة ووقف اطلاق النار.
ولكن الاتفاقات التي تم التوصل اليها تخدم بشكل اكبر احتياجات تركيا، التي تشمل انجازاتها ضرب القوات الكردية المسلحة وهروب المدنيين من “قطاع امني” آخر وحرف انظار المجتمع الدولي الى اماكن اخرى. بعد أن اظهر العالم خلال بضعة ايام دلائل قلق ازاء مئات القتلى والمصابين ومئات آلاف اللاجئين، فان وقف اطلاق النار الوهمي يهديء الرأي العام العالمي ويمكن تركيا من الاستمرار في خططها للهيمنة الاقليمية. في الحقيقة، النار لم تتوقف والهدوء لم يعد. كل ما يجب على العالم فعله هو التوقف عن صم الآذان.
في الاسابيع الاخيرة تحدثت مع اكراد كانوا في روجبة اثناء عملية تركيا. عندما نسمع قصصهم ونضيف اليها التقارير من مصادر اخرى، لا يمكننا تصديق ادعاءات تركيا بأنها بالاجمال تحارب ارهابيين وتعيد النظام الى ما كان عليه. بيان رشيد مثلا، هو سوري وجد ملجأ في اوروبا قبل تسع سنوات. وبعد حصوله على جواز سفر اوروبي عاد لزيارة مسقط رأسه القامشلي. “لقد كنت في سركينيا (رأس العين) عندما بدأت المعارك، وبعد الظهر بدأت طائرات اف16 بقصف اهداف مختلفة بما في ذلك المدارس والمباني السكنية والمستشفيات”. قال بيان واضاف بأنه ذهب للمساعدة في نقل المصابين الى المستشفيات. “لقد شاهدت قتلى ومصابين كثيرين، الذين كان معظمهم مبتوري اليدين أو الساقين. حاولت المساعدة، بالاساس الاطفال والشيوخ. والامر الذي يصعب علي نسيانه هو طفلة تبلغ ثمانية اعوام وهي تجلس قرب شقيقها الميت وتحاول ايقاظه”.
بعد بضعة ايام على بدء هجوم تركيا نشرت “امنستي” تقرير كشف الصورة الكبيرة. حسب هذا التقرير تم قصف المدنيين بدون تمييز. احدى الشهادات في التقرير تتعلق بقصف منطقة قريبة من مدرسة كانت بعيدة عن أي هدف عسكري. “كان هناك ستة مصابين واربعة قتلى منهم ولدين”، قال عامل في الهلال الاحمر الكردي، “لم يمكنني القول بأن هؤلاء كانوا أولاد أو بنات لأن الجثث كانت متفحمة”. وفي شهادة اخرى تم وصف قصف قافلة مدنية فيها مئات المدنيين، التي وصفها صحفي كان شاهد عليها بأنها “مذبحة تماما”. واضاف التقرير بأن شركاء الاكراد الجهاديين نفذوا اعدامات بدم بارد، من بينها اعدام الزعيمة الكردية المدنية هابرين خلف. هذه الاقوال وجدت تأكيدا لها في “وول ستريت جورنال” التي اقتبست من مصادر امريكية التي قالت إن جرائم حرب فظيعة كهذه تم توثيقها من قبل طائرات بدون طيار للجيش الامريكي.
ايضا الذين استطاعوا النجاة من الهجوم وهربوا الى مناطق آمنة، يعيشون في ظروف صعبة. هيلين كريم سومانز، فتاة سويدية من اصل كردي، سافرت للتطوع في روجبة بعد غزو تركيا، ومكثت نحو اسبوع في مدينة الحسكة. وقد حدثتني عن آلاف اللاجئين الذين يعيشون في المدارس في ظروف صحية متدنية بدون علاج ومياه، وفي عدد من المدارس بدون فراش أو اغطية. “عندما انتقلنا بين المدارس في المنطقة بين الحسكة وتل طامر شاهدنا مبان في القرى كانت مهدمة تماما، وشوارع ومدارس مدمرة كليا.
فتاة سويدية اخرى من أصل كردي هي لورين ابراهيم برزنسي، كانت في القامشلي في زيارة عائلية عند اندلاع المعارك. وكانت شاهدة على قصف بالمدفعية في المدينة وعلى الذعر الذي تسبب به القصف. “في الليل قصفوا المدينة القديمة، وفي اليوم التالي صباحا اطقلوا النار في وسط المدينة. وقد اصابوا مخبز وملعب لكرة القدم، وقذيفة اصابت الشارع الرئيسي، لكن لحسن الحظ لم تنفجر”. لورين التي وجدت في المدينة مع عائلتها نجحت في الخروج منها قبل تدهور الوضع. ولكن قبل عودتها الى السويد التقت بجانب آخر من القصف التركي. في مستشفى محلي شاهدت محمد حامد، طفل عمره 13 سنة من سركينيا، الذي كان يعاني من حروق كبيرة بسبب قذيفة فوسفورية. “اكثر من نصف جسده كان محروق”، قالت، “الطبيب الذي عالجه قال إنه لم يشاهد في حياته مثل هذه الاصابة”.
وحسب اقوال سكان روجبة هذه الجرائم هي جزء من سياسة متعمدة. اليزابيث كوري من الزعماء المسيحيين في روجبة قالت في خطاب موثق بأن الاتراك يريدون تطهير شمال سوريا من المسيحيين من خلال الذبح والطرد. هذه الاقوال تضاف الى الادعاء الذي يقول بأن هدف الاتراك هو توطين لاجئين سوريين في المنطقة سيتم طردهم من تركيا بدلا من المسيحيين والاكراد. تقرير لأمنستي في تشرين الاول يؤكد هذه الادعاءات وهو يأتي بشهادات على أن لاجئين سوريين يتم طردهم من تركيا الى مناطق المعارك في سوريا، عن طريق تهديد اردوغان بأن يغرق اوروبا بـ 3.6 مليون لاجيء اذا عارض الزعماء الاوروبيون نشاطاته.
هكذا، رغم أن روجبة تبتعد عن العناوين، إلا أن الكارثة ما زالت على الباب. معارك متواصلة في المناطق الرئيسية وعمليات انتحارية تصيب المدنيين ورجال دين يقتلون ولاجئون لا يسمح لهم بالعودة الى بيوتهم. هذه كارثة من صنع الانسان تجري امام ناظرينا، لكن خلافا للكوارث السابقة والابعد فان هذه ترافقها صور وافلام قصيرة ونداءات للمساعدة في الشبكات الاجتماعية. في خطابه في البرلمان الالماني في 1998 اقترح المؤرخ اليهودي باور اضافة ثلاث وصايا اخرى الى الوصايا العشرة: يجب أن لا نسمح لانفسنا بأن نكون ضحايا، وأن لا نقوم بالشنق في أي يوم. ولكن يجب ايضا أن لا نسمح لأنفسنا في أي يوم بالنظر الى ابادة شعب كمشاهدين سلبيين.