هآرتس – بقلم تسفي برئيل – اردوغان نسي من أين جاء، وبمعونة الاستفزازات يعرف الى أين تسير بلاده
هآرتس – بقلم تسفي برئيل – 17/7/2020
“ تصميم الرئيس التركي على تحويل متحف آيا صوفيا الى مسجد هو بمثابة صفعة للعالم المتحضر والغرب. والاتراك الذين يرزحون تحت النير الاقتصادي، هذا سيكلفهم اموالا باهظة “.
عاصفة دولية كبيرة اثارها قرار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أن يحول مجددا متحف آيا صوفيا الى مسجد. محللون وباحثون ومؤرخون يعتبرون هذا القرار خطوة هامة نحو أسلمة تركيا. مقال هيئة التحرير في موقع “اهوال” المعارض قال إنه تحت راية توليفة تركية اسلامية تقرر دق اسفين بين الدولة والعالم الحضاري: “هذا انتحار ضد تاريخ الدولة الذي يشمل حرب ضد الاكراد ومزيد من الاغتراب للاقلية اليهودية والاقلية المسيحية”. البابا عبر عن “ألم عميق”، والمحلل التركي سليم كورو كتب مقال في “نيويورك تايمز” بعنوان “الحلم الاسلامي لتركيا يتحول أخيرا الى واقع”.
اردوغان لم يتأثر من ذلك، كما هو متوقع. “إن بعث آيا صوفيا يبشر بتحرير قبة الصخرة. قيامتها هي صوت خطوات المسلمين في ارجاء العالم وهم متحمسون. إن احياء آيا صوفيا هو نار الأمل بالنسبة لجميع المضطهدين والمستغلين والمسحوقين في العالم هم والمسلمون. إن احياء آيا صوفيا هو تعبير عن أننا كأمة تركية ومسلمين وبشر توجد لنا رسالة جديدة للعالم”، بشر اردوغان بهذا في خطاب احتفالي بمناسبة اعادة تدشين المسجد.
الأسلمة هي شعار قابل للاستيعاب والفهم، بالاساس عندما تقال الامور بلغة اردوغان. ولكن الكنيسة المسيحية الفخمة – التي اصبحت مسجدا في العهد العثماني تحولت الى متحف، والآن ولدت من جديد كمسجد – تم استخدامها كأداة لعب سياسية لا تقل عن كونها موقع ديني مقدس، عندما حول مصطفى كمال اتاتورك مسجد آيا صوفيا الى متحف، وهو قرار أثار في حينه حماسا دوليا وغضبا كبيرا في اوساط الحركات الاسلامية في تركيا. وشرح في حينه بأنه “سيكون من المنطقي تحويل آيا صوفيا الى متحف يكون مفتوح امام الزوار من جميع الشعوب وجميع الديانات، بدلا من أن يكون عائد لديانة واحدة ومجموعة سكانية واحدة. اتاتورك لم يخف موقفه من الاسلام عندما قال إن “الاسلام في المجتمع وفي السياسة الاسلامية هو المسؤول عن فشل الحداثة… وحدة الدين غير ضرورية لخلق أمة… الأمة تشكل على أيدي اشخاص يتقاسمون تراث تاريخي غني وتوق جدي للعيش معا والحفاظ على تراثهم المشترك”.
من السهل جدا وضع تراث اتاتورك امام تراث اردوغان وعرض الرئيس الحالي كمن يريد أسلمة الدولة التي ما زالت تعتبر في الدستور دولة علمانية وديمقراطية. ولكن المتحف الذي كان يرمز في نظر تركيا الجديدة الى التوجه للغرب، والعلمانية والعلم، لم يوقف الرواية الاسلامية حتى في الخمسينيات عند صعود الحزب الديمقراطي الى السلطة في 1950. المناخ السياسي تغير، وتاقت تركيا الى تعزيز العلاقة مع اوروبا والولايات المتحدة لاسباب سياسية، أمنية واقتصادية. وعلى لوحة الهدف للنظام الجديد تم وضع حركات اليسار والشيوعيين من اجل اظهار التصميم ومقاربة ما اعتبر كشركاء للاتحاد السوفييتي. وهكذا يعرضون تركيا كحليفة للولايات المتحدة. وقد كانت الحركات الدينية شريكة في هذا الصراع والتي حظيت في حينه بدعم كبير من قبل النظام. آيا صوفيا لم تفقد مكانتها كمتحف، لكن في ذلك الوقت تم بحث امكانية اعادتها الى وظيفتها الدينية.
بعد مرور ثلاثين سنة على ذلك، في انقلاب عسكري في العام 1980، تغيرت مكانة المتحف. بأمر من النظام العسكري انتقلت هيئة الممتلكات الثقافية والمتاحف من وزارة التعليم الى وزارة الثقافة والسياحة. من رمز لتراث وتاريخ يوحد، مثلما اعتقد اتاتورك، تحول المتحف الى مصدر دخل سياحي مهم. وبعد عقد مرة اخرى حظي المتحف بدور سياسي جديد. ففي اعقاب حرب الخليج الاولى ورفض الاتحاد الاوروبي ضم تركيا الى صفوفه، بحث النظام في تركيا عن طرق لتشكيل صورة الدولة كدولة عظمى اقليمية على الغرب أن يضمها الى حضنه. الاستراتيجية كانت أن يتم وضع تركيا كجسر بين الشرق والغرب. وآيا صوفيا بدأت تشكل هي والمسجد الازرق (مسجد السلطان احمد) في وثائق فيها عرض خط الافق لاسطنبول، بدأت تشكل الشعار الوطني. هكذا مثلا، في الشعار الذي زين وثائق التنافس على استضافة الاولمبياد في 2020 (التي خسرتها تركيا)، تم رسم خط أفق فيه ظهرت آيا صوفيا مثل ممثل غربي علماني، والمسجد الازرق مثل رمز للاسلام والشرق، وتحتهما شعار “مربوطون معا بجسر”. ولكن واجهة العرض المتناغمة هذه ووجهت بمعارضة قوميين واسلاميين الاتراك لم يكفوا عن المطالبة باعادة المتحف الى عهده الديني السابق. وفي العام 2014 تجمع نحو 40 ألف مصلي في واجهة المتحف واقاموا صلاة جماعية دعوا فيها الى اعادة تحديد مكانة المتحف كمسجد. قبل ذلك في العام 2012، ساليا توران، رئيس جمعية الشباب في اناطوليا، قال إن نحو 50 مليون مواطن وقعوا على عريضة تطالب باعادة المبنى الى أن يكون مسجدا. رد اردوغان الذي كان في حينه رئيس الحكومة، كان ردا ممتعا: “يوجد عندنا المسجد الازرق بالضبط الى جانب آيا صوفيا. اتركوا آيا صوفيا لحالها واذهبوا واملأوا المسجد الازرق”. عمليا، كان بامكان المسلمين الصلاة في آيا صوفيا حتى عندما كانت متحف، حيث أنه على خلفية ضغط الجمهور تحول جزء منها الى مسجد حتى في الثمانينيات.
وعن سؤال ما الذي جعل اردوغان يتخذ هذه الخطوة الآن بالذات؟ يوجد عدد غير قليل من النظريات. قسم منها يقول بأنه يمهد الارضية للانتخابات، لكن هذه ستجري فقط في العام 2023. نظريات اخرى تعتقد أن هذه الخطوة اعدت للتغطية على فشل الخطة الاقتصادية التي تهدد اقتصاد تركيا وتهدد التورط الذي لا ينتهي في سوريا. أو أنه يريد مرة اخرى أن يطرح نفسه كزعيم للعالم الاسلامي، مثل سلطان أو خليفة جديد، ويعتم على مكانة السعودية ويتحدى العالم المسيحي. اردوغان تعهد للرئيس الروسي، فلادمير بوتين، بعدم المس بحرية زيارة المسجد وعدم المس بالعناصر المسيحية الفاخرة التي تزينه، وأنه اثناء صلاة المسلمين سيتم تغطية هذه الزخارف وكشفها بعد انتهاء الصلاة. ولكن من الواضح، سواء من توجه بوتين أو من جواب اردوغان، أن آيا صوفيا اصبحت من الآن تراث تركي اسلامي بملكية الحاكم.
هذا العقار توجد له ايضا نفقات، وهي لا تنعكس فقط في تمويل اعمال الصيانة، الترميم والحماية. من يملك امتياز بيع التذاكر هو شركة سويسرية باسم “سيسبا”، التي يملكها ويديرها فيليب أمون، وهو مواطن سويسري وإبن لعائلة يهودية. والده اقام الشركة في العشرينيات. والتميز العالمي للشركة اضافة الى كونها سرية ولا تقوم بنشر تقارير مالية، هو في اختراع الحبر السري الذي يستخدم في طباعة الاوراق النقدية والسندات ووثائق تقتضي توقيع مميز. هي معروفة في ارجاء العالم وقيمتها في أنها تملك نحو 85 في المئة من سوق الحبر السري الذي يتم تسويقه في العالم. أمون نفسه هو متبرع وعضو في مجلس ادارة متحف الكارثة العالمي وفي مؤسسات يهودية كثيرة اخرى. ورغم معارضة شديدة في تركيا لمنح الامتياز لشركة يهودية، فازت الشركة في 2018 بالامتياز لسبع سنوات مقابل نحو 3.9 مليار دولار.
عند نقل السيطرة على المسجد الى وزارة الشؤون الدينية يتوقع أن تطلب الشركة تعويضات عن خسارة المداخيل المتوقعة. هذا اضافة الى خسارة الحكومة التركية لأنها لن تحصل على نصيبها من بيع التذاكر الذي يبلغ نحو 400 مليون ليرة تركيا في السنة. “في الوقت الذي يقف فيه مواطنون اتراك امام صعوبات اقتصادية تتزايد في كل يوم فان اموال ضرائبهم توجه لدفع تعويضات فلكية ومشاريع ضخمة”، هكذا اتهمت عضوة البرلمان فليز كريست جيولو، من الحزب المؤيد للاتراك “اتش.دي.بي”. عضوة البرلمان اثارت شك جدي آخر يتعلق بتمويل ترميم المسجد. آيا صوفيا مشمولة في قائمة مواقع التراث العالمي، لهذا هي تحصل على التمويل من الامم المتحدة ومؤسسات دولية اخرى لاعمال الصيانة والترميم. ولأن قرار اردوغان تم اتخاذه بدون التشاور مع اليونسكو، فهناك خوف من أن هذه الصناديق ستوقف دعمها.
هذه الاسئلة بقيت في هذه الاثناء بدون اجابات. ولكن يبدو أن الاموال لتمويل المسجد أو للادارة الجارية لتركيا لا تعتبر مشكلة بالنسبة لاردوغان. في هذا الاسبوع نشر الصحافي التركي بوراك تويجان قائمة طويلة ومفصلة تعرض الانقلاب الذي مر فيه اردوغان وحزبه في الـ 18 سنة من حكمهم، من كونهم مصدر الأمل للاشخاص عديمي الأمل، الى حزب منحط.
تويجان تحدث عن سيارات فاخرة وعن فيلات واسعة جدا وعن الحمامات مع صنابير مغطاة بالذهب في مكاتب الشخصيات الرفيعة في الحزب، التي تحولت الى معيار ورمز للمكانة الاجتماعية. فيلم قصير نشره زعيم الجيل الشاب في حزب “العدالة والتنمية” في مدينة شنلي اوربا، محمد ساليا سارتس، يعرض السياسي الشاب وهو يستحم في الجاكوزي ويريد من الفقراء عدم ازعاجه. سارتس قدم استقالته بعد كشف الفيديو وقال إن الفيلم القصير موجه للنشر فقط في مجموعته الشخصية. تويجان يذكر قوارب أبناء اردوغان التي كشف عنها في تسريبات وثائق بنما، وقائمة الطلبات التي طرحتها ابنته سمية من اجل فيلاتها الفاخرة في غرب تركيا.
وهو لم ينس بالطبع حقيبة السيدة الاولى، أمينة اردوغان، من انتاج شركة “هيرمز بيركن”، التي يقدر ثمنها بخمسين ألف دولار، اضافة الى دبوس الزينة الذي يقدر ثمنه بـ 15 ألف دولار. عضوة اخرى في النخبة المقربة هي المذيعة في اليو تيوب، بشرى نور شلار، التي استضافت حفل “بيبي شاور” الفخم الذي اثار غضب الجمهور الكبير. شلار هي زوجة نائب وزير الصحة احمد امين سويلماز. وهو بالمناسبة إبن أور سويلماز الذي قتل في هجوم الجيش الاسرائيلي على سفينة “مرمرة” في قافلة غزة في ايار 2010.
القائمة المثيرة للغضب هي قائمة طويلة وتشمل كاتبة المقالات عائشة بوهرلار، من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، والتي فازت بعطاءات حكومية بمبلغ 200 ألف دولار. ومدير الاتصالات لاردوغان فهر الدين التون الذي استأجر قطعة ارض تطل على مضيق البوسفور بمبلغ 40 دولار فقط. ومئات مواقع الانترنت التي تحدثت عن هذه القصة تم اغلاقها في اعقاب ذلك.
إن بعث آيا صوفيا هو مثل “صوت المضطهدين والمسحوقين والمسلمين”، مثلما أعلن اردوغان، لا يشمل كما يظهر كبار الشخصيات في حزبه وأبناء عائلته ومقربيه. الرئيس الذي قام ببناء قصر فاخر لنفسه ومحصن، على أيدي حرس رئاسي خاص يرتدي ملابس تقليدية، نسي طفولته الصعبة وملايين الناخبين الذين جاءوا من طبقات الضائقة. ورغم ذلك، مثلما في اسرائيل التي اعتبرها عدوة ودولة ارهابية، هؤلاء المضطهدون يستمرون في انتخابه ويعتبرونه منقذ الأمة، يتبين أن الفساد الفاخر هو علامة على التقدير والنجاح.
******



