ترجمات عبرية

هآرتس: المساعدات الإنسانية لغزة: إنها لعبة سياسية معقّدة

هآرتس 2024-03-05، بقلم: تسفي برئيلالمساعدات الإنسانية لغزة: إنها لعبة سياسية معقّدة

لا توجد تقريباً أي منطقة حرب في العالم لم تصبح فيها المساعدات الإنسانية سلاحاً إستراتيجياً لإدارة الحرب، وأحياناً أيضاً أطالت مدة الحرب. ساحة الحرب في قطاع غزة لا تأتي بالكثير من الجديد في هذا المجال. ادعاء إسرائيل الرئيس يقول: إن المساعدات الإنسانية، قوافل الغذاء والأدوية وتوفير المياه والوقود، جزء لا يتجزأ من شروط الرخصة التي تسمح لإسرائيل بمواصلة القتال؛ المساعدات الإنسانية بحد ذاتها ليس لها أي حق في الوجود دون الأفضلية الإستراتيجية المرافقة لها. المفارقة في هذا الادعاء هي أن المساعدات التي استهدفت إنقاذ حياة الناس حيوية من أجل أن تستطيع إسرائيل مواصلة قتل الناس، الأعداء و”غير المشاركين”.

لكن إسرائيل لم تخترع العجلة. الإدارة الأميركية هي التي أملت وتملي عليها هذه المعادلة، سواء من أجل صد الضغوط الدولية التي مطلوب من واشنطن أن تقف أمامها إلى جانب إسرائيل مثل قرارات مجلس الأمن أو محكمة العدل العليا في لاهاي، أو من أجل تخفيف الانتقادات الداخلية، ليس فقط للجمهوريين بل أيضاً لديمقراطيين يعتبرون سياسة بايدن، الذي ما زال يؤيد استمرار القتال، كارثة سياسية.

ادعاء آخر يقول: إن المساعدات التي تدخل القطاع تذهب إلى “حماس” وتعزز موقفها وتستخدمها كوسيلة عندما ترفقها بموضوع المخطوفين من أجل تحديد قواعد اللعب، ومن أجل تخفيف ضغط الجمهور الفلسطيني ضدها. لكن كالعادة في المسافة بين من يعارضون استمرار إدخال المساعدات ومن يطالبون بتوسيعها، يواصل السكان في القطاع الموت بسبب الجوع والأمراض ونقص الأدوية، وبالطبع بالنيران والقصف.

المساعدات الإنسانية ليست فقط مجرد الشاحنات وعددها والأموال المخصصة لتمويل المشتريات ونقل الشاحنات. هي أيضاً تلزم بإنشاء طرق وصول محمية، ممرات انتقال ومناطق آمنة تستند إلى اتفاقات وتفاهمات مع أطراف القتال، كي يوافق هؤلاء على نقل الشاحنات وضمان أمن القوافل والعاملين عليها. هذه الاتفاقات لا يتم إعطاؤها بالمجان. الثمن تجبيه الأطراف بمقابل سياسي وعسكري وتكتيكي وإستراتيجي، الأمر الذي يمكنها من الاستمرار في الحرب.

أيضاً هنا غزة لا تخلق سابقة. مثال مأساوي ومُهين على استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح إستراتيجي، وهو في كل الحالات ليس الوحيد، كان في الحرب في يوغسلافيا. تقرير صادم كتبه مارك كاتس لممثلية الأمم المتحدة للاجئين “يو.إن.أتش.سي.آر” في العام 1999، يعرض نسيجاً كاملاً من الإخفاقات الشديدة التي رافقت نشاطات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وممثلية اللاجئين التي تم نشرها في البوسنة من أجل تشغيل منظومة المساعدات الإنسانية في الدولة الممزقة. كاتس الذي عمل عشرات السنين في النشاطات الإنسانية وكان ضمن أمور أخرى منسق النشاطات الإنسانية في سورية، وصف في تقريره كيف أن قوات الصرب في البوسنة تعودت على سرقة قوافل الغذاء والأدوية التي كانت مخصصة لسكان البوسنة في الدولة، وإملاء شروط لتوزيع المساعدات، من بين ذلك توزيعها بشكل متساو بين الصربيين والسكان الذين يتعرضون للهجوم. في حالة واحدة على الأقل، في 1995، مئات الرجال من قوة حفظ السلام تم اختطافهم على أيدي قوات الصرب في البوسنة بعد عمليات القصف التي نفذها الناتو ضد قواعد للصرب. حتى أنهم قاموا بتكبيل المخطوفين في المواقع التي كانت مخصصة للقصف من أجل أن يكونوا دروعاً بشرية.

في سورية نظام الأسد هو الذي يضع شروط دخول قوافل المساعدات، وهذه تشمل ضمن أمور أخرى، وجوب العمل بوساطة منظمات مساعدة تابعة للنظام ونقل جزء من المساعدات إلى الجنود السوريين أو المليشيات التي يشغلها النظام. حسب التقديرات، فإن نصف إجمالي المساعدات وجدت الطريق إلى مخازن النظام أو إلى المليشيات التي تعمل لصالحه. خلال سنوات الحرب في سورية خصصت الإدارة الأميركية وحدها نحو 16 مليار دولار لغرض المساعدات الإنسانية للدولة. إزاء حجم السرقة والتلاعب الذي ضخ للأسد نحو 100 مليون دولار من أموال المساعدات فقط في الأعوام 2019 – 2020، فقد طلب الكونغرس من الإدارة الأميركية وضع إستراتيجية جديدة تزيد من نجاعة توزيع المساعدات وتمنع نقل أجزاء منها إلى جيب الأسد. هذه الإستراتيجية ما زالت تنتظر الصياغة.

غزة نموذج باهت مقابل حجم القتل والكارثة الإنسانية التي دمرت سورية. ولكن الفرق بينها وبين الوضع الذي تطور في البوسنة وسورية هو أنه في هاتين الدولتين كانت هناك على الأقل جهة يمكن إدارة المفاوضات معها حول توزيع المساعدات الإنسانية – هكذا، حتى بعد أن سرق النظام في سورية أو قوات الصرب في البوسنة نصيبهم فإن كمية معقولة من المساعدات نجحت في الوصول إلى هدفها.

في غزة ليس فقط لا يوجد حكم محلي يتحمل مسؤولية هذه المهمة، بل أيضاً لا توجد قوة دولية، عربية أو فلسطينية، مستعدة لتحمل هذا العبء. إسرائيل ترفض في الواقع السماح للسلطة الفلسطينية بالدخول إلى القطاع حتى لو من أجل توزيع المساعدات. لكن حتى السلطة الفلسطينية تضع شروطاً سياسية من أجل دخولها. وقد أوضحت السلطة أنه دون البدء في العملية السياسية أو على الأقل عقد رمزي لمؤتمر دولي يضع على جدول الأعمال حل الدولتين، هي لن تعمل في غزة.

الولايات المتحدة من ناحيتها تضع شروطاً ثقيلة عندما تطلب من السلطة الفلسطينية إجراء إصلاحات سياسية وإدارة كشرط لتأييد نشاطات السلطة في قطاع غزة. هذه الشروط تشمل تقليص صلاحيات الرئيس محمود عباس، وتشكيل حكومة تكنوقراط غير متماهية مع “حماس” أو “فتح”، وهذا شرط غير منطقي، وإجراءات لاجتثاث الفساد. من الجدير التذكير أن شروطاً مشابهة، التي ستسمح بتشغيل آليات المساعدات الإنسانية، لم يتم وضعها أمام نظام الأسد أو اليمن أو السودان. السخرية هي أن إسرائيل هي التي تملي شروط إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، لكن “حماس” وغيرها من العصابات المسلحة الأخرى ما زالت هي صاحبة البيت في مسألة كيفية توزيعها.

في ظل غياب برنامج عمل لإدارة الحياة المدنية ومنظومة توزيع المساعدات الإنسانية، وإزاء كارثة الموت الفظيع لـ 118 شخصاً، الخميس الماضي، في شمال القطاع، وعلى خلفية الفوضى “العادية” التي ترافق توزيع المساعدات، فإن الإدارة الأميركية ستضطر في القريب إلى اتخاذ قرار حول نشاطات السلطة في غزة، حتى دون تطبيقها لـ”شروط القبول” المطلوبة.

مشاهد إنزال رزم الطعام والأدوية الذي نفذته حتى الآن الأردن ودولة الإمارات، الذي انضمت الولايات المتحدة إليه، لا يعتبر حلاً حقيقياً. فالكمية التي يتم إنزالها حتى لو وصلت بسلام إلى غزة ولم تسقط في البحر أو في أراضي إسرائيل، لا يوجد فيها ما من شأنه أن يوفر الاحتياجات الكبيرة. طائرة هيركوليز يمكن أن تنزل شحنة تساوي من حيث حجمها حمولة شاحنة واحدة، أي أنه من أجل تحقيق الحد الأدنى الذي اتفق عليه، 200 شاحنة في اليوم، فإنه مطلوب قطار جوي غير مسبوق في حجمه بمجال جوي صغير نسبياً وبتكلفة هائلة.

الوسيلة الأخرى هي فتح معبر “إيرز” ومعبر “كارني”، إضافة إلى معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم. لكن حتى لو تم فتح جميع المعابر ستبقى مشكلة توزيع المساعدات قائمة، التي تحتاج فتح ممرات آمنة وبالأساس قوة مرافقة عسكرية وشرطية ناجعة بحيث تؤمن مرور القوافل ونقاط توزيعها.

رجال الشرطة في غزة، الذين عملوا لصالح “حماس”، يرفضون الانضمام لحماية القوافل خوفاً على حياتهم. وهكذا أيضاً الموظفون في هيئات الإغاثة الذين قتل كثيرون منهم في الحرب. السؤال الذي سيطرح في القريب هو: هل جنود الجيش الإسرائيلي سيصبحون موظفي إغاثة ويساعدون ليس فقط في مرافقة قوافل المساعدات، بل أيضاً في توزيعها. هناك شك كبير في ما إذا كانت هذه هي صورة النصر المطلق التي يتطلع إليها نتنياهو.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى