ترجمات عبرية

هآرتس: الاحتلال يجرّد شعب إسرائيل من الحرية

هآرتس 2023-02-18، بقلم: شلومو زاند: الاحتلال يجرّد شعب إسرائيل من الحرية

ثمة ضجيج وضوضاء في دولة اليهود. انطلقت النخب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلى حرب ضروس ضد المحاولة المتعمدة لتقليص الليبرالية، التي قيّدت حتى الآن بشكل كبير منظومات القوة التعسفية للنظام. ترفع هذه اليقظة الجارفة والمفاجئة ضد الشعبوية اليمينية العنصرية المعنويات الإنسانية، وتشجع على الشعور بالتضامن الإسرائيلي الجديد والأصيل الذي لم يكن لدينا حتى الآن.

لكن في الوقت ذاته تطرح أيضاً تحفظاً، سواء من عدد غير قليل من الراديكاليين المتشككين أو من المثقفين الفلسطينيين الإسرائيليين: هل حقاً يمكن الدفاع عن ديمقراطية ليبرالية في الوقت الذي تشجع فيه هي نفسها وتستنسخ منذ 55 سنة وضعاً كولونيالياً واضحاً؟ لنضع جانباً المقولة غير الراسخة جداً وهي أن إسرائيل في حدود 1967 كانت ديمقراطية – على حد علمي لا توجد اليوم ديمقراطية واحدة في العالم لا تتفاخر بتمثيل وخدمة وتحقيق للمساواة بين كل مواطنيها دون تمييز في الجنس والأصل والإيمان. ولكن كيف يمكننا اليوم النضال من أجل هيكليها العظمي الليبرالي وفي الوقت ذاته مواصلة السيطرة على مجموعة سكانية مختلة ليس لها أي حقوق؟

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال يجب الرجوع إلى الخلف، وأن نجر إلى مركز النقاش التاريخ المضطرب والممل الذي لم نحظ بالتعرف عليه في المدرسة. يجدر تذكير القراء: ظهرت الليبرالية في العالم في نهاية القرن السابع عشر وطوال القرن الثامن عشر مع ازدياد قوة واتساع الاستغلال والمتاجرة بالعبيد، حيث لم تكن معروفة من قبل في الغرب الحديث. كانت العبودية حتى مرحلة معينة جزءاً من تعزز القوة الاقتصادية التي ساهمت، ضمن أمور أخرى، في ترسخ الليبرالية أو ظاهرة التصنيع. بعد نحو 100 – 150 سنة تبلورت أيضاً الديمقراطية الليبرالية. قبل نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سلمت دول الغرب بالطابع المعروف لنا حتى الآن. حق الانتخاب العام والتعددية (في هذه الأثناء فقط للمواطنين وليس للمواطنات) تحول بعد ذلك ذخراً مهماً للغرب المتطور.

لكن كل وردة وشوكها. جاءت ذروة تبلور الديمقراطية الليبرالية في موازاة ذروة الكولونيالية الغربية التي سيطرت على أرجاء العالم. أصبحت بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا إمبراطوريات محتلة واستغلالية، تسيطر على جميع القارات. الاستغلال، القمع، وحتى الإبادة الجماعية (في الكونغو البلجيكية وحدها تمت إبادة نحو 6 ملايين إفريقي في عبودية شاقة في المناجم)، جاء في الوقت ذاته مع توسع الحقوق السياسية والمدنية في العواصم الكبرى الثرية في الغرب. من فيكتور هوغو وحتى تشارلز ديكنز، أيد أفضل المثقفين في الإنسانية، احتلال الأراضي الواسعة وامتلاكها.

كمثال على الازدواجية الأخلاقية المدهشة هذه يمكن إيراد قضية درايفوس. أبطال هذا النضال الحازم في نهاية القرن التاسع عشر من أجل حقوق الإنسان والمواطن ضد تعسف النظام والجيش لم يكونوا أبداً معادين للكولونيالية (باستثناء ربما جورج كلمنسو). أيد رجال بارزون في اليسار، من جان زورس في فرنسا وحتى جورج برنارد شو في بريطانيا، في ذلك الوقت تعزيز المستوطنات، التي حسب رأيهم كان يمكن أن تدفع قدماً بثقافة الشعوب الأصلية.

إذا كان الأمر هكذا، فإنه يبدو أن المعسكر الإسرائيلي الكبير، الذي يحارب ضد تقليص الأسس الليبرالية في دولة اليهود، محق، مع تجاهل مطلق تقريباً للاحتلال ومصادرة الحقوق الأساسية لشعب كامل. في نهاية المطاف فإن مقاومة هذا الشعب العنيفة ضد الحكم الأجنبي فقط تعيق النضال العادل ضد الانقلاب القضائي في الدولة القومية اليهودية. أي عملية تعزز الهستيريا الشعبوية المناوئة للعرب وتضعف المعسكر الديمقراطي.

لكن بداية القرن الواحد والعشرين، بقيمه المقبولة، تختلف عن ليبرالية القرن الثامن عشر وعن عصر ولادة الديمقراطية في نهاية القرن التاسع عشر. الآن مثلاً، لا أحد يخطر بباله أنه يمكن الحفاظ على وتطوير ليبرالية بالاندماج مع تجارة العبيد. القلائل سيخطر في بالهم، الآن، بعد عصر محاربة الاستعمار، أنه يمكن التفاخر بالديمقراطيات ومواصلة السيطرة لمدة تزيد على نصف قرن على مجموعة سكانية مسلوبة الحقوق الأساسية.

عندما سيطرت الصين الديكتاتورية بشكل وحشي وبالقتل على التيبت، الخطوة الأولى التي فعلتها كانت إعطاء المواطنة لأبناء التيبت. فقط، مؤخراً، عندما ضم بوتين الرهيب شبه جزيرة القرم واحتل شرق أوكرانيا، كان واضحاً له أن عليه منح المواطنة الروسية لكل من احتلهم. وعندما صعد مناحيم بيغن، الذي لم يعترف في أي يوم بحقوق الشعب الفلسطيني وواصل طوال حياته الحلم بـ “أرض إسرائيل الكاملة”، إلى الحكم في 1977، اقترح فوراً على العرب الواقعين تحت الاحتلال حقوقاً مدنية كاملة ومتساوية مع حقوق الاسرائيليين. فقد فهم جيداً أن عصر الكولونيالية المباشرة والفظة أو نظام الأبارتهايد لم يعد شرعياً. واصل اليسار الليبرالي في المقابل التشدق بدولتين لشعبين، حيث ساهم فعلياً في ضم القدس العربية، وتوسيع المستوطنات ومواصلة مصادرة حقوق الواقعين تحت الاحتلال. مثلما قال في حينه ليفي أشكول، واصل اليسار الصهيوني القتال من أجل المهر دون أن يرغب في الحصول على العروس. كان المهر بالطبع “يهودا والسامرة” والعروس هي السكان الفلسطينيون.

الاندماج الآخذ في الازدياد بين الشعبين، الاندماج الذي كما يبدو لا يمكن فكه، لم يغير دفاعية اليسار بالنسبة للديمقراطية اليهودية المحبوبة. مع عدم فهم للخطوات التي تحدث حوله فقد خشي فجأة من أن عدداً كبيراً من الشباب الإسرائيليين في الجيش أو بعد أداء الخدمة العسكرية وبعد أن نكلوا بصورة يومية بالسكان غير المحميين، سيصوتون بجموعهم للأحزاب التعسفية لإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وسيرون في الليبرالية القضائية تدليلاً للنخب المنافقة.

نعم، يجب مواصلة الدفاع عن هذه الليبرالية، رغم الأنانية القومية الضيقة التي تكتنفها. ولكن يجب فعل ذلك دون أوهام. الآن، خلافاً للسابق، فإن الشعب الذي يحتل شعباً آخر لا يمكن أن يكون شعباً حراً. أحد مصادر الاستبداد الآخذ في التسرب لنظام الحكم في إسرائيل هو الاحتلال المستمر. أيضاً يجب التذكر بأن هذا ليس السبب الوحيد لانقضاض المنتخب الشعبوي في الانتخابات الأخيرة على مؤسسات الحكم وعلى كيان فصل السلطات وعلى بقايا العلمانية الإسرائيلية. التنازل العميق لليسار الصهيوني وقع في 1948 للأحزاب الدينية واستعداده لأسباب مركزية العرق – القومية (ليست إيمانية) للامتناع عن فصل الدين عن الدولة مع منح هيمنة لمؤسسات الدين على القوانين الشخصية، هي أيضاً عامل مهم في تعزز المعسكر المناهض لليبرالية في السياسة المحلية.

هناك أسباب أخرى بالطبع لضعف الليبرالية والإنسانية الإسرائيلية، بدءاً من الأساطير العميقة بشأن “الشعب المختار” التي تملأ المناهج التعليمية بدرجة لا بأس بها، وحتى الدعاية اليومية في وسائل الإعلام، التي ترى في كل نقد لإسرائيل تعبيراً عن اللاسامية الأبدية – صورة العالم للعديد من الإسرائيليين الشباب تميل أكثر فأكثر إلى انغلاق وطني متطرف، ضيق وخطير. الانتخابات الأخيرة هي نوع من إشارة تحذير.

إن هذه الملاحظات الانتقادية لطابع علاقات القوى الفكرية والسياسية في إسرائيل ليس في نيتها انتقاد المقاومة الواسعة للنظام الحالي، بل هي محاولة متواضعة لإضاءة عدد من نقاط الضعف التي توجد فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى