هآرتس: إنجازات بوتين تدفع قدما برؤياه: نظام عالمي جديد
هآرتس 8/8/2024، ليزا روزوفسكي: إنجازات بوتين تدفع قدما برؤياه: نظام عالمي جديد
الجيش الروسي يواصل التقدم البطيء في شرق اوكرانيا ويزيد الضغط على الجنود الاوكرانيين المنهكين على طول خطوط الجبهة. الانجازات الجغرافية في الواقع ضئيلة، وابعاد القتل في الطرف الروسي كبيرة. ولكن خلال الاشهر الاخيرة فقدت اوكرانيا عدة بلدات وهي تخشى من أن تضطر مرة اخرى للدفاع عن مناطق رمزية تم تحريرها من يد الروس في الخريف قبل سنتين تقريبا، من بينها مدينة كوفيانس في اقليم خاركوف، وهذه الخسارة هي انجاز للمعنويات الروسية.
في منتصف شهر تموز الماضي المح الرئيس الاوكراني، فلوديمير زيلانسكي، بأنه مستعد للانضمام بمحادثات سلام بمشاركة مباشرة من روسيا، وحتى أنه معني بذلك. هذه هي المرة الاولى التي عبرت فيها اوكرانيا عن مثل هذا الاستعداد منذ تفجر المفاوضات بين الدولتين في ربيع 2022. في حزيران الماضي عقدت في سويسرا مؤتمر قمة للسلام، الاول من نوعه، لكن روسيا لم تتم دعوتها اليه. وفي مؤتمر صحفي قال زيلانسكي بأنه يعتقد أن موسكو يجب عليها أن تكون ممثلة في مؤتمر القمة الدولي الثاني، الذي تأمل اوكرانيا عقده قبل شهر تشرين الثاني القادم.
بعد ذلك، في مقابلة مع وسائل الاعلام الفرنسية قبل اسبوع، تحدث بشكل صريح اكثر وقال إنه بسبب أن معظم دول العالم تريد رؤية روسيا في محادثات السلام، فان اوكرانيا لا يمكنها معارضة ذلك. اضافة الى ذلك المح الى أن انسحاب روسيا من اراضي اوكرانيا التي احتلت منذ العام 2014 لم يعد شرطا مسبقا للمحادثات. هذا حدث رغم أنه في خريف 2022، بعد اعلان بوتين عن ضم الاقاليم الاوكرانية الاربعة خلافا للقانون الدولي، وقع زيلانسكي على أمر يعلن بأن اوكرانيا لن تجري المفاوضات مع روسيا تحت رئاسة بوتين.
خلال اشهر كثيرة نثر الكرملين تصريحات حول الاستعداد لمحادثات سلام، لكنه الآن غير مستعجل في الرد على الدعوة. وحتى لو كان يصعب الافتراض أن بوتين لا يسارع الى الذهاب الى أي مكان، إلا أن هذا هو الانطباع الذي يحاول خلقه. بعد أن اكتسب صورة “المجنون العالمي المناوب” الذي يده على الزر النووي عندما أمر في شباط 2022 بالغزو الواسع لاوكرانيا، فان بوتين يحاول العودة وترسيخ صورته في الغرب وفي العالم كزعيم براغماتي، وربما حتى متزن.
صفقة ضخمة
في الاسبوع الماضي تم اجراء صفقة مؤثرة لتبادل الاسرى بين روسيا وروسيا البيضاء من جهة والدول الغربية من جهة اخرى، على رأسها الولايات المتحدة والمانيا. في وسائل الاعلام تم وصفها بـ “الصفقة الاكبر منذ فترة الحرب الباردة”. لكن عمليا الحديث يدور عن الصفقة الاكبر في نوعها منذ الأزل. بالاجمال تم اطلاق سراح 24 سجين، 16 من يد الجانب الروسي، واحد من يد بلاروسيا و8 من يد الغرب. باستثناء صحفي الـ “وول ستريت جورنال”، ايفان كيرشكوفيتش، سلمت روسيا للغرب بعض الشخصيات الرمزية في المعارضة الروسية المنحلة. والبارز من بين هذه الشخصيات، السياسيون والمقاتلون بدون وجل ضد نظام روتين، فلادمير كارا مورزا وايليا ياشين.
بعد عملية التحرير صرح ياشين بأنه عارض تضمينه في الصفقة، وأنه يعتبر تحريره طرد من الدولة. السجناء المحررون ايضا طلبوا من الغرب مواصلة النضال لانقاذ سجناء سياسيين آخرين من روسيا، الذين عددهم اكثر من 700 سجين، هذا حسب منظمة حقوق الانسان الروسية “ممورئيل”. الرئيس الروسي السابق دمتري ميدييديف اضاف ملاحظة خاصة به عندما قال في تهديد صريح له بأنه من الافضل ينضم الخونة الى برامج حماية الشهود.
بوتين من ناحيته تسلم عدد أقل من الجواسيس والمحتالين الرئيسيين، والقاتل فادين كارسكوف، الذي اغتال في 2019 القائد السابق في جيش المتمردين الشيشان زليمخان خنغوشفيلي في برلين. من ناحية بوتين فان عميل جهاز الامن الفيدرالي الروسي (اف.اس.بي) كرسيكوف، هو أخ في السلاح، وتحريره كان بالنسبة اليه موضوع كرامة ومكانة. المحللون يتناقشون الآن حول أي جانب ربح أكثر في الصفقة. ولكن واضح للجميع بأن بوتين سجل انجاز مهم. فقد اثبت أنه يمكن عقد صفقات معه، وأن الغرب ما زال معني بذلك. كل ذلك والعدو اللدود في الداخل، الكسيه نفلاني، الذي كان يجب شمله في صفقة التبادل، لم يعد من بين الاحياء ولن يتم اطلاق سراحه أبدا.
الشرق الاوسط الذي يوجد على شفا الاشتعال الاقليمي وفر لبوتين نجاح دولي آخر. ففي الوقت الذي فيه التوتر في ذروته، هبط في طهران سكرتير مجلس الامن القومي الروسي ووزير الدفاع السابق سرجيه شفيغو، حيث التقى هناك مع نظيره الايراني ومع الرئيس الايراني الجديد مسعود بزشكيان.
الى جانب التقرير الذي نشر في “نيويورك تايمز” بأن ايران طلبت، وحتى بدأت، الحصول على منظومات دفاع جوية روسيا قبل هجوم اسرائيلي محتمل، فان تقرير وكالة الانباء “رويترز” بأن بوتين بالذات نقل للزعيم الروحي الاعلى علي خامنئي رسالة تصالح. حسب التقرير بوتين طلب بواسطة شفيغو أن تكتفي ايران برد منضبط على اغتيال اسماعيل هنية في طهران، وأوصى بعدم مهاجمة اهداف مدنية في اسرائيل. هكذا نجح بوتين في أن يظهر في نفس الوقت وكأنه يقف الى جانب حليفته ايران في ازمتها، وكعامل تهدئة ومصالحة، الذي من شأنه ربما يمنع التدهور الى الحرب الشاملة.
خلال فترة طويلة بعد هجوم 7 تشرين الاول امتنع بوتين عن التماهي علنا بأي شكل مع اسرائيل، واكتفى بـ “التعبير عن القلق” والدعوة الى وقف اطلاق النار وتأييد اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. عودة حقيقية الى فترة الحرب الباردة، حيث أيد الاتحاد السوفييتي سابقا نضال الدول العربية والفلسطينيين ضد “العدوان الاسرائيلي”. بعد اسبوع صرح للمرة الاولى بأنه يوجد لاسرائيل حق في الدفاع عن نفسها، ولكن في نهاية نفس الشهر استضافت وزارة الخارجية الروسية في موسكو بعثة لحماس برئاسة موسى أبو مرزوق.
في كانون الثاني الماضي وصلت بعثة لحماس الى موسكو في زيارة ثانية منذ بداية الحرب، بعد أن حصلت روسيا على رصيد تحرير مخطوفين يحملون الجنسية الروسية في الصفقة بين اسرائيل وحماس، التي خرجت الى حيز التنفيذ في نهاية تشرين الثاني. الآن جاءت المناورة العسكرية – الدبلوماسية الجديدة لروسيا. فمن جهة، هي تعزز التحالف مع ايران وترد لها الجميل على ارسالية المسيرات التي تخدم روسيا بشكل دائم في هجماتها ضد المدن الاوكرانية. ومن جهة اخرى، التلميح بأنها البالغ المسؤول في الشرق الاوسط. نوع من انعكاس الرعاية التي توفرها الولايات المتحدة لاسرائيل وللحلفاء الآخرين في المنطقة.
بمعنى معين روسيا تحاول تجسيد الدور الذي لعبته تركيا في النزاع بين روسيا واوكرانيا. فبيد باعت السلاح لاوكرانيا وباليد الثانية ادارت علاقات تجارية متشعبة مع روسيا وساعدتها على تجاوز العقوبات الغربية (التجارة التي تقلصت في بداية السنة بضغط من امريكا). وفي نفس الوقت عملت كوسيط سواء في محادثات السلام الفاشلة في الاسابيع الاولى للحرب أو في “صفقة الحبوب” التي مكنت اوكرانيا من تصدير المحصول عبر البحر الاسود أو في تبادل الاسرى بين الطرفين المتقاتلين.
مشكوك فيه اذا كانت المكانة الدولية المتضعضعة لروسيا ستوفر لها هامش عمل يشبه هامش عمل تركيا، العضوة في الناتو. ولكن هناك شيء واحد مؤكد وهو أن أي اسفين ينجح بوتين في دقه في الشرق الاوسط يعزز نظريته التي بحسبها العالم “متعدد الاقطاب” اصبح موجود هنا، وأن هيمنة الغرب على قيمه هي أمر من الماضي. من هنا فان كل شيء نسبي. فمن يأتي في البداية ومن هو قوي هو الذي يكسب.