هآرتس: إسرائيل وكأنها كتبت قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بيديها

هآرتس 21/7/2024، مردخاي كرمنتسر: إسرائيل وكأنها كتبت قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بيديها
فتوى محكمة العدل العليا حول مكانة المناطق التي احتلتها اسرائيل في حرب الايام الستة، الضفة الغربية، قطاع غزة وشرقي القدس، لا تعتبر وثيقة كاملة. فكل الاستنتاجات التي توجد فيها ليست متضمنة بما فيه الكفاية لحقائق مدققة؛ قضية أمن اسرائيل لا تأخذ دائما وزنها الصحيح، مثلا في سياق تقييد الحركة المفروض على السكان وعدم موافقة اسرائيل على الاجراء لا يحظى بمعاملة جيدة. ايضا الاجراء نفسه كان بعيد عن أن يتم بشكل مثالي: الاسئلة التي صاغتها الجمعية العمومية للامم المتحدة كانت متحيزة، ورئيس المحكمة اللبنانية، نواف سلام، الذي توجد له خلفية واضحة من العداء تجاه اسرائيل، كان يجب أن يقدم استقالته.
حيث أن كل هذا قيل فان معظم ما قيل في المحكمة يترسخ جيدا ويعكس كما ينبغي القانون الدولي، كما يفسره معظم الخبراء في هذا المجال. لذلك فان الفتوى تتجاوز امتحان النقد الحاسم ولن يساعد البكاء والعويل الحكومة ومؤيديها. رد بنيامين نتنياهو على الفتوى، الذي بحسبه لا يمكن التشكيك في قانونية الاستيطان خلف الخط الاخضر، هو كالعادة عكس الواقع. لأنه لا يمكن عدم التشكك بقانونية الاستيطان لأنه يعارض بشكل واضح القانون الدولي، الذي يحظر على الدولة المحتلة توطين مواطنيها في المناطق المحتلة. ادعاء بني غانتس أن اسرائيل تعمل في المناطق “مع الحرص على القانون الدولي” يدل على أمر من اثنين. إما أنه تبنى موقف نتنياهو من الحقيقة أو أنه يطور لديه حس دعابة.
الاغلبية الواضحة التي وقفت وراء الفتوى، على الاغلب 7 مقابل 4، يوجد فيها قضاة لا يمكن التشكيك في خبرتهم، استقامتهم وموضوعيتهم. ولا يقل عن ذلك اهمية هو أن ثلاثة من بين القضاة الاربعة في الاقلية أيدوا جزء جوهري في الفتوى، بما في ذلك عدم قانونية سياسة الاستيطان وحق الفلسطينيين في تقرير المصير – هكذا فان النتيجة لم تكن لتكون مختلفة حتى لو أنه ترأس هذه الهيئة ممثل لمنتدى كهيلت.
الرأي الوحيد الساذج لنائبة رئيس المحكمة، جوليا سبودنتا، يتناول “اطار المفاوضات المتفق عليه بين الطرفين” وكأنه حقيقي، وتتجاهل رفض اسرائيل اجراء بحسن نية مفاوضات مع الفلسطينيين. وعلى أي حال، جميع القضاة يؤيدون حل الدولتين، وهو الموقف الذي لا تستريح له الحكومة (ايضا الذين يمكن أن يكونوا معارضة).
الفتوى هي عقوبة لاسرائيل حصلت عليها بجدارة. خلال سنوات كثيرة تعاملت حكومات اسرائيل مع قضية المناطق عن طريق الطمس والاخفاء والخداع. ومهما كانت محمية من ناحية اخلاقية فان هذه السياسة حصلت بالفعل على نجاح لا بأس به. في السنوات الاخيرة رغم التحذيرات المتكررة فانه حل محل هذه التحذيرات الماكرة الغطرسة والوقاحة. مفترق الطرق يمكن رؤيته فيما سمي “قانون التسوية” الذي حتى بني بيغن تعامل معه كـ “قانون السلب”. اسرائيل اعترفت رسميا بأن المستوطنات ليست مبادرة خاصة، بل هي مشروع للدولة، وعملت بصورة حثيثة ومكشوفة لتوسيعه وفرضت قوانين في المناطق وكأنها بملكيتها – هكذا تنصلت من مباديء المؤقتية وامكانية التراجع عنها، وهو خط الدفاع الاكثر فائدة بالنسبة لها. في نفس الوقت تنكرت لحقوق الفلسطينيين في تقرير المصير واستبعدت اجراء المفاوضات معهم. قانون القومية رفع الى اعلى درجة من القانونية الاستيطان اليهودي، وفرض السيادة في المناطق كان احد الخطوط الاساسية للحكومة الحالية، والادارة العسكرية التي يقتضيها القانون الدولي تم استبدالها بالادارة المدنية، تم تعيين لها بتسلئيل سموتريتش. الصورة اكملها التنازل حتى عن الامر الشكلي البسيط لانفاذ القانون تجاه المشاغبين اليهود، الذين حولتهم القوة التي اعطيت لليمين المتطرف الى وكلاء للحكومة من اجل “تطهير” المناطق من العرب. في كل هذه الامور وكأن اسرائيل كتبت بيديها هذه الفتوى ضدها.
الضرر الكبير المتوقع لمكانة اسرائيل الدولية وعلاقاتها مع دول العالم يجب عدم عزوه لصالح المحكمة، بل لصالح الحكومة. لا مفر من الاعتراف بأن هذه تتصرف في هذا الشأن مثلما تتصرف مع حماس، ليس وكأنها تريد مصلحة الدولة، بل في افضل الحالات وكأن الامر اختلط عليها. مقلقة بشكل خاص حقيقة أن البديل السلطوي لنتنياهو، المعسكر الرسمي، انضم عشية نشر الفتوى للائتلاف وأيد التصريح التافه الذي يرفض اقامة الدولة الفلسطينية وينص فعليا على أن حماس هي الزعيم الوحيد للشعب الفلسطيني في هذا السياق، وأن الاختيار بين نتنياهو وغانتس واصدقاءه يبدو وكأنه اختيار بين السل والجذام.
عند قراءة الفتوى لا يمكن عدم المقارنة بين محكمة العدل الدولية في لاهاي وبين المحكمة العليا في اسرائيل، التي فشلت في كل ما يتعلق بالاراضي المحتلة. تملص المحكمة العليا من مناقشة قانونية المستوطنات شرعن فعليا الخرق المنهجي للقانون الدولي، الذي ينطوي على ضرر لا يمكن وصفه ولا يمكن اصلاحه لاسرائيل.
الاستيطان هو عائق اساسي امام التسوية مع الفلسطينيين، ومصدر لمعارضة كل اتفاق كهذا. هو يخلق مكانتين مختلفتين للناس، متفوقون ودون من خلال التنازل المسبق عن المساواة، حتى امام القانون. امام هذه الكارثة كان يجب على المحكمة أن تقف بثبات ولكنها لم تفعل ذلك.
في الوقت الذي يعرف فيه كل طفل بأن جدار الفصل استهدف ضم لاسرائيل فعليا المستوطنات بدرجة لا تقل عن هدف الدفاع عن اسرائيل، فان المحكمة العليا تمسكت بالكذب الفظ للاعتبارات الامنية “النقية” الى أن اضطر جهاز الامن نفسه الى الاعتراف بذلك. المحكمة أيدت الرؤية التي لا اساس لها والتي تقول بأن الاراضي غير المملوكة بملكية خاصة مثل الموارد الطبيعية في المناطق، ليست وديعة في يد الاحتلال لصالح السكان الواقعين تحت الاحتلال، المجموعة السكانية التي كان يجب عليها حمايتها، بل هي مورد مسموح استغلاله لاغراض واحتياجات المستوطنين.
المحكمة العليا لم تقف في وجه سياسة هدم البيوت – هي عقوبة للعرب فقط مفروضة على من لم يخطئوا، التي حتى في جهاز الامن شككوا في نجاعتها. بشكل عام المحكمة تقريبا لم تحرك ساكنا لضمان أن تسود في المناطق سلطة القانون. طوال هذا الوقت سمعتها الجيدة شكلت الدرع لاحتفاظ اسرائيل بالمناطق ومشروع الاستيطان واعمال الظلم لحكومات اسرائيل. لو كان لليمين الاسرائيلي ذرة من النزاهة والحكمة لكان عليه وضع المحكمة فوق رأسه بدلا من تحويلها الى عدو للشعب.
المجال هنا ضيق لتفصيل كل الاضرار التي تسببت سياسة الاستيطان لاسرائيل. أولا، هي اضرت بطابع الدولة الاخلاقي، التي وجدت نفسها في حرب ليست فيها هي الجانب المحق (طالما أن الفلسطينيين يناضلون من اجل حقهم بالدولة وليس من اجل تدمير اسرائيل). والى ذلك يجب اضافة التقليل الكبير في قيم الديمقراطية وحقوق الانسان ازاء الواقع الذي يناقشها تماما؛ التجنيد الواسع للخدمات العامة والقانونية بكل الفروع من اجل سياسة غير قانونية، مع التضحية بمهنيتهم (مثال على ذلك هو انضمام مجلس التعليم العالي لجهود شرعنة الكلية التي اصبحت الآن جامعة في اريئيل). يجب ايضا عدم تجاهل التأثير المفسد للجيش الاسرائيلي واجهزة الامن الاخرى. في واقع الاحتلال، مثلما اوضح المفكر الفرنسي – التونسي البير مامي، بأن الاحتلال يجعل الشعب الواقع تحت الاحتلال في نظر المحتل شعب دون. من هنا جاء الاستخفاف المحتم بالعدو، الذي جبى منا ثمن دموي فظيع، والذي يمكن أن يلحق بنا الدمار التام. تم التحدث كثيرا عن التغيير النظامي الانقلابي الذي تمر فيه اسرائيل، ولم يتم الاهتمام بما فيه الكفاية بالعلاقة بين هذا التغيير وبين سيطرتنا على المناطق وعلى الفلسطينيين الذين يعيشون فيها، الذي يهدف الى ابعاد الفلسطينيين.
أي دولة لن تستطيع السماح لنفسها بتجاهل الفتوى، وحتى الولايات المتحدة. تأثيرها على الصعيد السياسي وعلى كل مجالات الحياة يمكن أن يكون كارثي، لكن ربما يخرج الخير من الشر. وسيزداد الضغط على اسرائيل من اجل التوصل الى اتفاق سلام، الضغط الذي في ظل غيابه، هذا ما يجب الاعتراف به، ستبقى متخندقة في مواقعها. معنى هذا التخندق هو صراع عنيف ودائم مع الفلسطينيين الذين لن يتنازلوا عما لم يكن حتى الاسرائيليين سيتنازلون عنه، الحرية والكرامة والحقوق كأفراد وشعب. أي ديمقراطية لا يمكنها ادارة الى الابد مثل هذا الصراع، وأن تبقى ديمقراطية.
الفتوى تظهر المعضلة التي تقف امام اسرائيل، بين استمرار السياسة القائمة التي تقود الى هاوية العزلة الدولية وخطر وجودي ملموس وانعطافة حادة والعودة الى المفاوضات، التي هي وحدها ستخرجنا من هذه الضائقة. القضاة يختمون الوثيقة بدعوة لانهاء سريع للنزاع بين اسرائيل والفلسطينيين ويرسمون حلم لدولتين تعيشان بسلام الى جانب بعضهما، في حدود معترف بها وآمنة. من يحب اسرائيل ومن يعيش في الواقع وليس في الاحلام المسيحانية العبثية يجب أن يقف من وراء هذه الدعوة.