نيويورك تايمز – الخليل : المدينة المقدسة ذات الشوارع المقفرة
نيويورك تايمز – روجر كوهين* – 20/1/2018
الخليل، الضفة الغربية – يقف الجندي الإسرائيلي عند مدخل شارع الشهداء. والشارع مهجور، محلاته مقفلة، أغلِقت مصاريع أبوابِها بالِّلحام. وكان مركز مدينة الخليل القديمة مدينة أشباح لسنوات عديدة. وتشير قوات الدفاع الإسرائيلية هنا إلى شوارع جُعِلت “عقيمة” مجدبة، لأنه لا يُسمح لأي فلسطيني بارتيادها، سواء كان ذلك في سيارة أو سيراً على الأقدام.
الآن، أصبح عُمر احتلال الضفة الغربية نصف قرن. وهو وقت طويل. وفي الأصل، لم يذهب اليهود إلى الأرض المقدسة من أجل أن نشروا إلى شعب آخر تلك المجازات البيولوجية للعنصرية الكلاسيكية التي رافقت اضطهادهم على مدى قرون. لكن ممارسة القوة الساحقة تُفسد، إلى درجة أن الشوارع “العقيمة”، التي يفترض أنها حُرِّرت من سكانها الأصليين المثقلين، دخلت معجم المفردات.
الجندي عند الحاجز شاب بابتسامة جاهزة. يخبرني أنه زار نيويورك. يسألني من أين اشتريتُ ساعتي. وأنا أسأله عما فعله حتى استحق عقوبة الخدمة في الخليل. يضحك بشيء من عدم الارتياح. إنه غير مرتاح بوضوح لمهمته، حيث يفرضُ العزل بينما يريد الاتصال. ولا شك أنه كان ليفضل أن يكون على الشاطئ في تل أبيب، يستمتع باحتساء البيرة.
إذا كان ثمة مكان تتجسد فيه الفكرة النهائية للمنطق الرهيب لاحتلال تقوده في جزء منه حركة استيطان متعصبة تساعدها وتحرضها دولة إسرائيل، فإن هذا المكان هو المركز التاريخي لمدينة الخليل. المكان الذي كان ذات مرة موطناً للتبضع وسوقاً للمجوهرات، ومتاهة صاخبة للتجارة، أصبح الآن بقعةً مروعة تشبه دمار يوم القيامة. الأسلاك تتعلق متدلية من الجدران المتداعية. والقمامة تتراكم. والاختلاط معدوم. فالأمن يتطلب الفصل.
يتحدث الجندي المسلح ببندقية (م – 16) إلى صديق لي يتحدث العبرية. يقول إنه من الجيد أننا نرى الجنود بما هم عليه حقاً. وما هم عليه في الواقع، يُتَرجَم، في كثير من الأحيان، إلى شباب إسرائيليين يوضعون في أوضاع مستحيلة لأداء واجبهم الوطني، لكنهم يعانون ويضطربون مما يرون. وأتذكر ابن عمي الذي خدم في الخليل في أوائل التسعينيات، حين كان يقول لي: “إنكَ تعامل العائلات الفلسطينية بطريقة لا تريد أن تُعامل بها عائلتك. الأمر بهذه البساطة”.
كنت هنا آخر مرة في العام 2004. لكن الأمور ازدادت سوءاً الآن. وكنتُ قد كتبتُ في ذلك الحين: “كل خسارة يجري اعتناقها كدليل على بربرية العدو غير القابلة للشفاء. والماضي يجري استحضاره بعمق، وهو مستودع هائل للدم المسفوك الذي يبرر المزيد من سفك الدماء”. الخليل، موطن حوالي 215.000 فلسطيني، وحوالي 8.000 مستوطن بين مستوطنة كريات أربع المجاورة والمدينة نفسها، تغلي وتتقيح. الوضع الراهن ليس ثابتاً. والجميع يعرف أن هناك انفجاراً آخر قادماً على الطريق. وإنما لا أحد يعرف متى.
ثمة صاعق التفجير ماثل في المدى. أطفال فلسطينيون يرمون الحجارة؛ وجيش الدفاع الإسرائيلي يرد. الجندي ينتظر مكالمة هاتفية من قائده. وحتى تأتيه المكالمة، لا نستطيع أن نمر ونواصل طريقنا.
أقف عند نقطة التفتيش مع يهودا شاؤول، الذي خدم في المشاة في الخليل وأصبح فيما بعد مؤسساً لمنظمة “كسر الصمت”، مجموعة المناصرة التي تجمع شهادات من جنود إسرائيليين سابقين عانوا واضطربوا بسبب خدمتهم في الجيش. وشاؤول شخصية معروفة في الخليل. يتصل بمحامٍ لمنظمته. وبعد نصف ساعة، يُسمح لنا بالمضي في طريقنا.
أبراهام مدفون في الخليل. وهو أول بطريرك لليهود. أما بالنسبة للمسلمين، فهو نبي يُدعى إبراهيم ونموذج للبشرية. وبالنسبة للمستوطنين، هذه أول مدينة يهودية في تلال يهودا التوراتية. وبالنسبة للأغلبية الفلسطينية، فإنها موطنهم ومنزلهم منذ قرون، والذي يرزح تحت ثقل الاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه.
ومثل كل موضع جدال إسرائيلي – فلسطيني، فإن هذا الوضع ليس له أي حل. ربما سوى القول بأن الماضي قد ذهب، وأن ما يهُم هو المستقبل.
ثمة دوامات عُنفٍ دائماً في الوراء: قتل على غرار الإعدام الميداني بلا محاكمة لمهاجم فلسطيني عاجز على يد جندي من جيش الدفاع في العام 2016؛ وطعن حتى الموت لفتاة يهودية بعمر 13 عاماً في كريات أربع على يد مهاجم فلسطيني؛ مقتل 12 إسرائيلياً على أيدي قناصة فلسطينيين في العام 2002؛ مقتل 29 مسلماً أثناء أدائهم الصلاة على يد باروخ غولدشتاين في العام 1994. لافتة في شارع الشهداء تقول: “سرق العرب هذه الأرض بعد قتل 67 من يهود الخليل في العام 1929”.
لن تكون ثمة نهاية لهذا من دون قيادة.
جاء شاؤول إلى الخليل كجندي في جيش الدفاع الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية. وهو يتذكر بيان المهمة المكتوب على الجدار: “حماية سكان الطائفة اليهودية في الخليل والدفاع عنهم”. وصدرت إليه الأوامر بإطلاق نيران مدفعه الرشاش على منطقة سكنية فلسطينية مكتظة بالسكان. ورأى عيادة طبية فلسطينية وهي تُدمَّر. وتصاعدت فيه الشكوك.
“إنه ليس دفاعاً، أو وقاية. إنه اعتداء وجريمة ضد الاستقلال الفلسطيني. هذه هي المهمة”، كما يقول شاؤول. “الفكرة هي أن هناك في المسافة بين النهر والبحر مجالٌ لدولة واحدة فقط، ولذلك من الأفضل أن تكون نحن”. وبشكل محتم، يصبح المستوطنون، مهما كانوا متطرفين، أداة لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.
يواصل شاؤول: “ليس لدى الناس أي دليل يسترشدون به. يتم إرسالنا للقيام بالمهمة. ولكن، لا أحد يعرف ما هي المهمة. المهمة تبقى هنا”.
تبعد تل أبيب مسافة 90 دقيقة بالسيارة عن هذا المكان. وقريباً بما يكفي، سأكون قد أصبحت على الشاطئ مرة أخرى، متسائلاً عما إذا كنتُ أتخيل كلَّ هذا فقط.
*كاتب في الشؤون الدولية والدبلوماسية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Holy City of Sterile Streets
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 27/1/2018