نيويورك تايمز: ألمانيا والصين إعادة ضبط العلاقات للتكيف مع عالم متغير
نيويورك تايمز 2-8-2023، بقلم : ألمانيا والصين إعادة ضبط العلاقات للتكيف مع عالم متغير
عندما أطلقت ألمانيا والصين تشاورات حكومية بينهما قبل عقد، كانت أنجيلا ميركل لا تزال مستشارة، وبدا أن العلاقات بينهما تحمل في طياتها فرصا لا حصر لها للتجارة والربح. كانت الحوارات وقتاً لاستعراض الاحتفالات الفخمة وعقد صفقات تجارية ومراسم التوقيع وبسط السجاد الأحمر.
وتعود ألمانيا والصين اليوم إلى طاولة المحادثات بينما تسيطر عليهما حالة من الاغتراب، بسبب التوتر الذي شاب العلاقات جراء الحرب الروسية في أوكرانيا، وتنامي مساعي التودد من جانب بكين تجاه موسكو، علاوة على توتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، أهم حلفاء ألمانيا.
في هذا السياق، علق ثورستين بينير، مدير المعهد العالمي للسياسات العامة في برلين، على الأمر بقوله: «تبدو هذه المشاورات غير متوافقة مع العصر الراهن. وعادة ما تكون المشاورات بين – الحكومية أمراً تفعله مع حلفاء ديمقراطيين. ويكمن التحدي هنا في تحقيق توازن بين الواقعية الجديدة التي نواجهها اليوم والأسلوب القديم الذي قادته أنجيلا ميركل في عقد تشاورات مع الصين».
ومن المقرر أن تكون هذه هي المشاورات الأولى التي يخوضها شولتز، كما أنها ستشهد أول زيارة يجريها لي لبرلين بصفته رئيساً لوزراء الصين، ويرافقه في زيارته وفد كبير من الوزراء. والمؤكد أن ثمة خلافات كثيرة قائمة بين الجانبين، حتى في وقت يسعيان فيه لخلق مساحات من المصالح المشتركة بينهما.
فيما يخص ألمانيا، سيشكل اللقاء فرصة للتأكيد على موقف جديد، تمثل الصين في إطاره واحدة من أهم الشركاء الاقتصاديين لبرلين، لكنها في الوقت ذاته «منافس منهجي». ويعني ذلك أن برلين ستعمل على حماية تكنولوجياتها الحيوية، وتشجيع شركاتها على تنويع تعاملاتها بعيداً عن بكين.
أما الصين، فإن اللقاء يحمل لها فرصة لإقناع أكبر شريك تجاري أوروبي لها بالتمسك بإدارة الشؤون بينهما على المعتاد، ودق إسفين بين برلين وواشنطن.
وسيتعين على ألمانيا تحقيق توازن من خلال الحفاظ على العلاقات الاقتصادية الضرورية بالصين، في ظل ضغوط واشنطن المتزايدة للوقوف إلى جانبها ضد بكين – توازن ما تزال ألمانيا تناضل من أجل إتقانه.
اليوم، تدرك ألمانيا جيداً أن واشنطن الضامن الأمني لها، ولم يعد مسؤولوها يملكون اليوم رفاهية التعامل مع المصالح الاقتصادية والسياسية على نحو منفصل.
واللافت اليوم أن العلاقات التي تعاملت معها ألمانيا في السابق بوصفها ثنائية ومنفصلة عن غيرها ــ العلاقات الألمانية – الصينية، والألمانية – الأميركية، والأميركية – الصينية، تشعر اليوم أنها باتت متشابكة جميعاً. كما تغولت المخاوف الأمنية على الطموحات الاقتصادية على نحو لم تشهده ألمانيا من قبل.
وأجبر الغزو الروسي لأوكرانيا، ألمانيا على إعادة النظر في علاقات اقتصادية كانت تعدها أمراً مفروغاً منه، مثل اعتمادها على الغاز الرخيص القادم من روسيا، والذي كان يوفر لها في وقت مضى 50 في المائة من مجمل إمداداتها. وبالفعل، نجحت ألمانيا في التحول نحو الاعتماد على مصادر إمدادات أخرى، وتحاشت بذلك بشق الأنفس أزمة طاقة حادة، لكن هذا لم ينقذها من قبضة الركود.
بالمقارنة، فإن حدثاً مثل شن هجوم صيني على تايوان يسفر عن مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والصين، سيكون أشد إيلاماً بكثير. ويرى مسؤولون ألمان أنهم، في هذه الحالة، سيضطرون إلى التدخل، بعد أن ضغطوا بشدة على دول آسيوية لدعم أوروبا في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا، بوصفه انتهاكاً للسيادة الإقليمية.
أما العواقب الاقتصادية، فستكون أكثر خطورة: أكثر من مليون وظيفة ألمانية تعتمد بشكل مباشر على الصين، وأكثر بكثير بشكل غير مباشر. وتكشف الأرقام عن أن نحو نصف جميع الاستثمارات الأوروبية في الصين، تأتي من ألمانيا. كما يعتمد نحو نصف شركات التصنيع الألمانية على الصين في جزء من سلسلة التوريد الخاصة بها.
على الجهة المقابلة، فيما يخص الصين، فإن هذه لحظة عصيبة لها.
جاء الانتعاش الاقتصادي بعد الجائحة أبطأ مما كان متوقعاً. كما أبدت بعض الشركات الغربية حذرها تجاه ضخ استثمارات جديدة في الصين؛ حيث يشرع الرئيس شي جينبينغ، هذا العام، في حملة لتعزيز الأمن الوطني ـ بما في ذلك توسيع نطاق قوانين مكافحة التجسس التي زادت من تدقيق وتفحص الشرطة للشركات الغربية داخل الصين.
وتتسم العلاقات بألمانيا بأهمية خاصة للصين؛ فهي أكبر شريك تجاري أوروبي للبلاد، ومصدر للاستثمار الأجنبي الأوروبي.
في هذا الإطار، قال هو تشونتشون، البروفسور المساعد بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية: «حديث ألمانيا عن النأي عن المخاطرة أو تقليل الاعتماد على السوق الصينية، يثير قلق الصين بطبيعة الحال».
خلال المحادثات التي تستضيفها برلين، الاحتمال الأكبر أن المسؤولين الألمان سيطرحون على الجانب الصيني فكرة عامة بخصوص ما ستتضمنه الورقة الاستراتيجية المتعلقة بالصين التي طال انتظارها. جدير بالذكر أن إعلان الورقة تأخر شهوراً بسبب خلافات داخل الحكومة الألمانية حول إلى أي مدى ينبغي أن يتسم الموقف الألماني بالحزم. الآن، من المتوقع إعلان الورقة في يوليو (تموز).
وعكست المسودة الأصلية المسربة خطأ أكثر صرامة تجاه الحاجة إلى تنويع المصالح الاقتصادية بعيداً عن الصين، خاصة في مجالات مثل البنية التحتية الحيوية، والمواد الخام اللازمة للتقنيات الضرورية لاقتصاد محايد في انبعاثاته الكربونية، مثل الوحدات الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية.
المتوقع أن تكون هذه النغمة قد جرى تخفيفها إلى حد ما تحت ضغط من شولتز، الذي يساوره القلق إزاء حدوث صدمة كبيرة لاقتصاد يعاني الركود.
وعلى ما يبدو، سيحرص المسؤولون الألمان على التأكيد على عزمهم على عدم المساس بسياسة «الصين الواحدة»، وإقرارهم لهدف بكين المتمثل في الاتحاد مع تايوان، مع الإبقاء على علاقات «ودية، ولكن غير رسمية» بالتايوانيين.
أيضاً، سيؤكدون على رسالة شدد عليها شولتز مراراً: أن ألمانيا ليس لديها خطط للابتعاد عن الصين، مثلما حث مسؤولون أميركيون ذات مرة. بدلاً من ذلك، سيميلون نحو مفهوم «تجنب المخاطرة».
ويرى محللون أن المشكلة تكمن في تحديد معنى «تجنب المخاطرة» على أرض الواقع.
في هذا الصدد، تساءل بينير: «هل يعني ذلك التخلص من المخاطر تماماً أو تقليصها؟ ما سرعة تنفيذ ذلك؟ ثمة كثير من الفسحة في هذا المصطلح. والمؤكد أن شولتز يسير على خيط رفيع».
في أبريل (نيسان)، أعرب مسؤولون صينيون أمام ألمانيا عن قلقهم بخصوص أنباء حول تفكير برلين تقليص بيع مواد كيميائية تستخدم في صناعة أشباه الموصلات لبكين.
جدير بالذكر أن الولايات المتحدة سعت لضم حلفاء أوروبيين وآخرين لجهودها لمنع وصول بكين لتكنولوجيات حيوية، مثل أشباه الموصلات، الأمر الذي أثار غضب بكين.
فيما يخص ألمانيا، ربما يكون التحدي الأكبر أمامها ليس التعامل مع بكين، وإنما مع شركاتها؛ بمعنى البعث برسالة واضحة لهذه الشركات مفادها أنه في المستقبل، يجب عليها المضي قدماً في اعتمادها الاقتصادي على الصين على مسؤوليتها الخاصة. ومن شأن ذلك جعل الطريق أمام ألمانيا لإحداث تحول في علاقاتها بالصين ممكنة، لكنها محفوفة بالمخاطر.