أقلام وأراء

نواف الزرو يكتب المدينة المقدسة تشتعل وتدق على جدران الصمت والتخاذل والتطبيع العربي؟!

نواف الزرو ٢٤-٤-٢٠٢١م

نعود ثانية لقراءة تطورات المشهد المقدسي في اطار رؤية استراتيجية تحليلة، فمن ضمن ما تتميز به المدينة المقدسة، إضافة إلى مقدساتها وتاريخها وتراثها وتفردها كعاصمة للسماء والأرض، أنها المدينة الأكثر سخونة واشتعالا واحتكاكا وانتفاضة واشتباكا مباشرا ما بين أهلها مع قوات ومستعمري الاحتلال، وذلك ليس صدفة، فدولة الاحتلال تشن على المدينة حربا تهويدية اختطافية شاملة، فهم يريدونها مدينة يهودية بالكامل، عاصمة سياسية سيادية لدولة “إسرائيل” إلى الأبد…!

بينما لم يجد أهل المدينة في مواجهة ذلك سوى إرادة التصدي والانتفاضة، وإن كانت في الراهن المقدسي انتفاضات وهبات متقطعة، إلا أنها تستحضر للجميع انتفاضة أطفال -جنرالات الحجارة- الذين لم يكلوا يوما عن التصدي لجيش ومستعمري الاحتلال.
ومعطيات المشهد المقدسي تنذر الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأن الانفجارات الدراماتيكية في مدينة القدس آتية دائما، بل إن أهالي القدس والأوقاف والعلماء وفعاليات المدينة يتحسبون من أن التطورات القريبة ستكون صعبة لاسيما على الأماكن المقدسة، حيث إن القوى الدينية الصهيونية المدعومة من حكومة نتنياهو تعد لانتقال نوعي للاعتداء على المسجد الأقصى وقبة الصخرة وساحات وعمائر ومرافق الحرم القدسي الشريف، في الوقت الذي تشن فيه حملات تهويدية لا تتوقف، وعلى مختلف الجبهات، إن على الأرض أو في الإعلام أو في المشاريع والمخططات، أو على المستوى الدولي، بل إن عملية التهويد وصلت اليوم إلى مرحلة متقدمة وخطيرة جدا. وكل ذلك في إطار مخططات صهيونية إستراتيجية مؤدلجة تستهدف تهديم المشهد المقدسي العربي الإسلامي لصالح مشهد صهيوني استعماري جديد.
فحملات الإخلاء والإجلاء والتهويد التي تشنها دولة الاحتلال في القدس في الشيخ جراح وسلوان وغيرهما حقيقية وخطيرة ومتلاحقة وفي إطار مخطط مبيّت مع سبق الإصرار، ترمي من ورائه إلى إحكام سيطرتها الإستراتيجية على المدينة المقدسة، وعلى هذه الخلفية نقرأ ونتابع المعارك الجارية المتحركة على مدار الساعة على امتداد مساحة الحرم القدسي الشريف، ومن حي إلى حي ومن زقاق إلى زقاق .. ومن بيت إلى بيت.. سواء في داخل البلدة القديمة أو خارجها.
والمعارك اليومية في المشهد المقدسي تفاصيلها كثيرة كثيرة، ربما تحتاج إلى مجلد موسوعي كبير للإحاطة بها، فما تتعرض له المدينة المقدسة في هذه الآونة، ربما يكون الأخطر منذ احتلالها عام 1967، وهذا ليس كلاما إعلاميا أو للاستهلاك العام، فحملات الإخلاء والإجلاء والتهويد التي تشنها دولة الاحتلال في المدينة حقيقية وخطيرة ومتلاحقة وفي إطار مخطط مبيّت مع سبق الإصرار، ترمي تلك الدولة من ورائه إلى إحكام سيطرتها الإستراتيجية على المدينة المقدسة، وإخراجها من كافة الحسابات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية، وذلك عبر تهويد الجغرافيا والديمغرافيا وإقصاء الرواية العربية الإسلامية تجاه القدس واستبدالها بروايتهم المزيفة.
وفي ذلك، ذهب الباحث الإسرائيلي المعروف ميرون بنفنستي –في هآرتس- في احد مقالاته إلى عمق ما يجري في المشهد المقدسي وما يحلم به المستعمرون الجدد موضحا “في هذا المشهد الذي تكشف أمام ناظريهم، بحثوا عن بقايا لا تزال موجودة من حلمهم، ورويداً رويداً رسموا لأنفسهم خريطة جديدة، غطت المشهد المهدد، ولكن لم يكن هذا مجرد خريطة من الورق والأوهام، فقد أصروا على أن يصمموا الواقع، المشهد المادي، وفقاً لرؤياهم وأحلامهم، فقد حطموا المشهد الفلسطيني وبنوا مكانه مشهدهم الخاص، حيث تشكل الأسطورة العتيقة مبرراً وذريعة”.
وتقوم دولة الاحتلال في سياق ذلك بتصعيد عملية تهويد القدس: جغرافياً، ديمغرافياً، سياسياً، تشريعياً، قانونياً، عسكرياً، ثقافياً، تعليمياً، عمرانياً، تراثياً وأخلاقيا وبشكل متسارع ومتصاعد.
وتحت وقع حملات التهويد وغبار المعارك المتحركة من باحات الأقصى وحارات البلدة القديمة المحيطة، إلى الشيخ جراح فشعفاط فحي الصوانة، ثم إلى حي الطور، فرأس العامود، فسلوان والبستان وبطن الهوى، ثم باب العامود تحرص الدولة الصهيونية على أن توفر الغطاء الأيديولوجي لمشاريعها في القدس، فكان هناك كم هائل من الأدبيات التي تسوغ لهم ما يقترفونه هناك من تهديم وتهويد.
وما خطاب نتنياهو الذي ألقاه أمام “مؤتمر هرتسليا للمنعة القومية الإسرائيلية” في مطلع فبراير/ شباط 2010 الذي تحدث فيه عن ترميم وصيانة وإحياء التراث اليهودي المزعوم إلا نقطة الاندفاع الجنوني في حرب التهويد والتزييف واختطاف الأرض والرواية، والذي زعم فيه ” أن هنالك حوالي 30 ألف معلم تاريخي يهودي يجب إحياؤها من جديد،  نتنياهو أمام هرتسليا الأربعاء 3/2/2010.
وفي أعقاب ذلك ارتفعت وتيرة المخطط والهجوم الإسرائيلي التراثي على المواقع الدينية والتراثية العربية الإسلامية كما تجلى ذلك بقرار حكومة نتنياهو اعتبار الحرم الإبراهيمي الشريف ومسجد بلال بن رباح وأسوار القدس من المعالم التراثية اليهودية، كما ارتفعت وتيرة الهجوم على المدينة المقدسة، وبات الاحتلال يستهدف المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والبلدة القديمة بشكل مباشر، وتوفر حكومة الاحتلال لهذه الهجمات والمعارك مسوغين سياسي وأيديولوجي.
ويجمعون في الكيان الصهيوني على ربط ثلاثية القدس بتوراتهم وأساطيرهم المزيفة، فالواضح أن الدولة الصهيونية تشن حملات إعلامية تزييفية على المستوى الدولي، بغية ترويج الرواية الصهيونية بأساطيرها الثلاث المتعلقة بالقدس العربية الإسلامية، بهدف قلب الحقائق رأسا على عقب، وإقناع العالم بأن هذه القدس إنما هي قدس يهودية.
فهم يعملون من أجل اختلاق وصناعة قدس يهودية ومملكة توراتية كما اختلقوا وصنعوا دولة “إسرائيل”، غير أن تلك الدولة من وجهة نظرهم لا تكتمل إلا بتكريس”القدس يهودية عاصمة أبدية لهم”.
 ومن أخطر الوسائل والمزاعم التي تلجأ إليها تلك الدولة ما يتعلق بتاريخ اليهود أو حقهم التاريخي المزعوم في القدس حسب توراتهم، غير أن الكثيرين من الباحثين العرب والأجانب، وحتى بعض اليهود، فضحوا زيف ادعاءاتهم، وفككوا روايتهم الصهيونية، وأثبتوا بأن التوراة كتاب أدبي قصصي مبني على الأساطير والخرافات في معظمه وليس كتاب تاريخ يمكن الاستناد إليه كمرجع للأصول التاريخية والإثنية للشعوب والأمم (بعض الكتاب مثل توماس ثومبسون، مايكل برايور، كيث ويتلام، فراس السواح وغيرهم).
في هذا الصدد وفي واحدة من أهم الشهادات الإسرائيلية الموثقة شكك عالم الآثار الإسرائيلي المعروف “إسرائيل فنكلشتاين”في أسطورتي الملك داود وسليمان الحكيم موردا قراءة جديدة لهما على ضوء أبحاث علمية مفادها أن داود كان ربما مجرد قاطع طريق وسليمان كان حاكما على القدس في زمن لم يكن عدد سكانها يتعدى بضعة آلاف “.. كما شكك في أسطورة خروج العبرانيين من مصر إلى أرض كنعان، كما أكد على عدم وجود أي دليل أثري على ما ورد في التوراة، وقال في صحيفة معاريف العبرية “آسف لا يوجد أدلة أثرية على هذه الحكاية الهامة والجميلة” -أى حكاية خروج شعب اليهود العبيد من أرض مصر إلى أرض الكنعانين”، وخلص فنكلشتاين إلى القول “مقابل الادعاء المعروف القائل إن كل ما ورد في التوراة يقف على أرض صلبة، أقول أنا الآن ، الأمر ليس على هذا النحو وأنا أعلم أنني زرعت بذور الشك”. كما قال عالم آثار آخر وهو ردفريك “أسف ولكن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا في هذه الصورة”.
وتنطوي شهادة فنكلشتاين هنا على أهمية علمية ووثائقية وتاريخية وقانونية وأخلاقية بالغة الأهمية، وتعد إسهاما محترما في كشف زيف تاريخ اليهود وزيف ادعاءاتهم.
وتقف وراء أجندة حفريات ومخططات التزوير والتزييف أجندة أخرى سياسية سيادية، تبيت دولة الاحتلال من ورائها إلى ترويج وتكريس روايتها وتبرير سياساتها أمام الرأي العام العالمي، باعتبار القدس عاصمة موحدة يجب أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، وخلاصة القصة بالنسبة لهم هي السيادة على القدس.
فها هو جلعاد شارون نجل “ملك إسرائيل” المجلوط أرييل شارون يكثف في يديعوت أحرونوت الفكر الصهيوني في هذا الصدد فيقول “البلدة القديمة كلها، ومساحتها أقل من كيلومتر واحد مربع واحد، وجبل البيت ومساحته أقل من 150 دونما، هذا هو قلب الموضوع، وخلاصة القصة، اليهود ما كانوا ليأتوا إلى البلاد والصهيونية ما كانت لتقوم دون صهيون، وكل ما حصل هنا ما كان ليحصل”.
وبينما يعتبر نتنياهو القدس تجسيدا للأبدية اليهودية قائلا “الأبدية تتجسد في القدس والناس يتوجهون للعاصمة ويدركون استمراريتنا وتاريخنا”، كان سيلفان شالوم وزير الشؤون الإستراتيجية سابقا وأبرز الوجوه المتشددة في الليكود سابقا اعلن”إن المعركة بدأت لفرض السيادة الإسرائيلية على القدس وبشكل خاص جبل الهيكل-المسجد الأقصى/ الإذاعة الإسرائيلية”.
إلى ذلك هناك كم هائل من الأدبيات السياسية والتوراتية الأخرى التي تتحدث عن جوهر الصراع، ورسائلهم واضحة تماما، بأن ما يجري في القدس وتحت الحرم القدسي الشريف إنما هي مسألة سيادية إسرائيلية وإنه لا علاقة للعرب والمسلمين بها.
فما يجري إذن على أرض المدينة المقدسة إنما هو صراع حقيقي ضار ومحموم ليس حول الأرض والمساحات والعقارات والاستيطان والميزان الديمغرافي فقط، وإنما حول ما يترتب على ذلك في مسألة الهوية والسيادة والمستقبل.
وما يجري على أرض المدينة المقدسة على أيدي دولة “إسرائيل” إنما هو سطو مسلح على المدينة في وضح النهار.. فحتى يوسي بيلين كان وصف ما يجري في القدس بأنه “سطو إسرائيلي” على أراضي القدس…!
فالقدس هي التاريخ والتراث والدين والحضارة والسيادة والحاضر والمستقبل.
وفي ظل هذا المشهد المقدسي المثخن بالجراح والمعاناة، والمعبأ بمناخات الغضب الانتفاضي، فإن المدينة المقدسة تدق على مدار الساعة على جدران الصمت والتهاون والعجز العربي والإسلامي.. متطلعة إلى خطاب ودور عربي إسلامي حقيقي.. وإلى إرادة وأجندة سياسية أخرى مختلفة وأعمق ارتباطا ومسؤولية عربية قومية حقيقية…ّ!
فماذا العرب والمسلمون فاعلون إذن…؟!
وإلى أي مدى يا ترى يمكن أن يكون العرب جادين من أجل إنقاذ القدس؟، وهل ينتقل العرب حقا من لغة الكلام والبيانات إلى لغة القرارات والإجراءات والإرادة السياسية الحقيقية؟ ولعل السؤال الكبير يبقى: كيف يمكن أن ينقذ العرب القدس…؟!
نحتاج عربيا إلى العمل الدؤوب المتواصل سياسيا وإعلاميا وقانونيا على مختلف المستويات الدولية من أجل تهديم الأساطير الصهيونية المزيفة المتعلقة بيهودية المدينة المقدسة.
وتحتاج القدس في مقدمة ما تحتاجه في هذه الظروف العربية المؤسفة إلى أدوات حقيقية وجادة وفاعلة ومجدية تلبي استغاثة القدس والأماكن المقدسة تلبية مقنعة تقود في الحصيلة والحاصل الإستراتيجي إلى وقف بلدوزر الاستيطان والجدران والتهويد والابتلاع أولا، ثم إلى إنقاذ وتحرير المدينة ثانيا.
ونعتقد بقناعة كبيرة راسخة أننا لو كنا في زمن عربي وإسلامي ودولي آخر مختلف عما نحن فيه اليوم بسبب الأوضاع والهزائم والإرادات السياسية العربية والإسلامية المغيبة أو المعتقلة او المطبعة الخيانية، لكان من شأن ما يجري على أرض القدس من اجتياحات واعتداءات وهجمات تهويدية منهجية سافرة أن يقيم العالم العربي والإسلامي ولا يقعده أبدا…!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى