نوار الصمد: تداعيات تراجع المساعدات الألمانية على مستقبل الدعم الأوروبي لأوكرانيا
نوار الصمد 29-8-2024: تداعيات تراجع المساعدات الألمانية على مستقبل الدعم الأوروبي لأوكرانيا
تعتزم ألمانيا، وهي ثاني أكبر داعم لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة، خفض إنفاقها المخصص لأوكرانيا في العام 2025 بمقدار النصف مما يُشكل نقطة تحول مهمة قد تؤثر بشكل كبير على ديناميات الدعم الأوروبي لأوكرانيا. كما أن هذا التراجع يطرح تساؤلات حول قدرة أوكرانيا على مواصلة الصمود في ظل انحسار الدعم المالي، خصوصاً أن هذا التخفيض مخطط له أن يزداد بشكل تدريجي في العامين 2026 و2027.
مراجعة مالية
تراجع المساعدات الألمانية لأوكرانيا يأتي نتيجة لعدة أسباب رئيسية:
1- التوصل إلى اتفاق حكومي لضبط النفقات: في إطار سعي الحكومة الألمانية لتحقيق وفورات في موازنة العام 2025، تم الاتفاق بين المستشار الألماني أولاف شولتز ووزير المالية كريستيان ليندنر -المنتمي إلى الحزب الليبرالي- على عدم تقديم أية مساعدة إضافية لأوكرانيا تفوق مبلغ الأربعة مليارات يورو المدرجة في مشروع الموازنة. كما لن يكون هناك أيضاً أي إنفاق إضافي خلال ما تبقى من عام 2024 زيادة على الثمانية مليارات يورو المتفق عليها مسبقاً، مما يعني وقف تمويل نظام مضاد الطائرات من نوع IRIS-T لكييف، بالإضافة إلى ذخائر المدفعية والطائرات بدون طيار، والتي كان يبحث تمويلها من خارج ميزانية 2024.
وتبرر بعض الآراء هذه الخطوة الحكومية بأن ألمانيا تواجه حالياً تحديات اقتصادية ضخمة كالتضخم وارتفاع كلفة المعيشة؛ حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023 بنسبة 0.3% مقارنة بعام 2022، الأمر الذي يؤثر على قدرتها على تقديم مساعدات كبيرة للخارج.
2- ضغوط سياسية محلية:تمارس بعض الأحزاب السياسية في ألمانيا ضغوطاً محلية من أجل تقليص المساعدات لأوكرانيا تحت حجة أنها تؤثر على الوضع الداخلي الألماني. وترى بعض التحليلات أن تخفيض المساعدات العسكرية لأوكرانيا من قبل الحكومة هو تنفيذ لما يطالب به حزب “البديل لأجل ألمانيا AFD” وحزب “تحالف سارة فاجنكنشت من أجل العقل والعدالة” (BSW) (بقيادة سارة فاجنكنشت المنشقة عن حزب داي لينك Die Linke)، في حين أن تحليلات أخرى ترى أن شولتز أراد بذلك استهداف وزير دفاعه بوريس بيستوريوس المنتمي أيضاً إلى الحزب الاشتراكي، والذي يُعتبر من أكبر المؤيدين لدعم أوكرانيا، خصوصاً بعد أن أصبح الشخصية المفضلة لدى الألمان.
وتُشير صحيفة “فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج” (Frankfurter Allgemeine Zeitung) إلى أنّ شولتز بات أكثر تماشياً مع أفكار وزير ماليته كريستيان ليندنر المهووس باحترام سياسة شولدنبريم Schuldenbremse (كبح الديون) والذي كان يبحث عن سد فجوة 12 مليار يورو، كما أن خطته المستقبلية تهدف إلى خفض المساعدات لأوكرانيا إلى 3 مليارات يورو في عام 2026، وإلى نصف مليار يورو في العام 2027.
3- تأثير الحسابات الانتخابية:هاجم الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض خطوة تخفيض المساعدات الألمانية لكييف، معتبراً أن الحكومة تمارس السياسة على طريقة دونالد ترامب؛ حيث يتم إيقاف المساعدات لأوكرانيا من أجل استغلال ذلك في الصراعات الداخلية، ولكن مع فارق أن دعم أوكرانيا بالنسبة لألمانيا هو استثمار في أمنها الخاص.
كما اعتبر الحزب الديمقراطي المسيحي أن نضال أوكرانيا من أجل الحرية سيعاني بسبب النزاع المستمر بين أركان ائتلاف “إشارات المرور”، وهو الاسم الذي يطلق على التحالف المكون للحكومة الألمانية الحالية. كما أن هذه الخطوة تأتي قبل أيام قليلة من إدلاء الناخبين الألمان بأصواتهم في الانتخابات الإقليمية في ثلاث ولايات في شرق البلاد هي: ساكسونيا وتورينجيا (في 1 سبتمبر) وبراندنبورج (في 22 سبتمبر)، حيث ترتفع في هذه الولايات نوايا التصويت للحزبين السياسيين اللذين يؤيدان وقف الدعم العسكري لأوكرانيا، أي حزب البديل من أجل ألمانيا (يمين متطرف)، وحزب سارة فاجنكنشت (يسار راديكالي). في حين أن الأحزاب المنضوية في الائتلاف الحاكم تشهد تراجعاً في نوايا التصويت، لذلك فإن لدى أركان هذا الائتلاف مصلحة مشتركة في توخّي الحذر فيما يتعلق بمسألة دعم أوكرانيا.
4- تزايد الشكوك حول مدى فاعلية المساعدات المقدمة لكييف: على الرغم من أن الرأي العام الألماني ما زال بأغلبيته مؤيداً لدعم أوكرانيا، غير أن نسبة التأييد هذه بدأت بالانخفاض. فوفقاً لاستطلاع للرأي نُشر في نهاية شهر مايو 2024، لا يزال 53% من الألمان يؤيدون الدعم العسكري لأوكرانيا ولكن بنسبة أقل 10% عما كان الحال عليه في مايو 2022، علماً أن الأغلبية القاطنة في مناطق ألمانيا الشرقية تعارض هذا الدعم. كما تتساءل بعض الآراء الألمانية عن مدى فاعلية المساعدات المقدمة لأوكرانيا، خصوصاً أنها فشلت في تحقيق نتائج ملموسة حتى الآن.
انعكاسات أوروبية
قد يواجه مستقبل المساعدات الأوروبية لأوكرانيا تحديات كبيرة بعد تراجع الدعم الألماني، نذكر منها:
1- إمكانية التأثير على التضامن الأوروبي: ترى بعض الأوساط أن تراجع المساعدات الألمانية لأوكرانيا قد يُضعف من وحدة وتضامن الدول الأوروبية حيال الأزمة الأوكرانية، لأن ألمانيا تلعب دوراً محورياً في الاتحاد الأوروبي، وأي تغيير في سياساتها قد يؤثر على الموقف الأوروبي الجماعي. وفي هذا السياق، اعتبر السفير الأوكراني في ألمانيا أوليكسي ماكييف أن أمن أوروبا يعتمد على قدرة ألمانيا وعلى إرادتها السياسية في مواصلة لعب دور قيادي في دعم أوكرانيا. كما اعتبرت بعض التقارير الإعلامية الألمانية أن خفض المساعدات الألمانية سيؤدي إلى تكاليف لاحقة أعلى بكثير من تلك التي سيتم توفيرها، خصوصاً مع احتمال حصول تدفقات كبيرة للاجئين الأوكرانيين إلى أوروبا في حالة انتصار بوتين.
2- زيادة الضغوط على دول أوروبية أخرى:قد تعطي الخطوة الألمانية زخماً قوياً لوجهة النظر التي يدافع عنها أنصار دونالد ترامب حول الجدوى من استمرار المساعدة الأمريكية لأوكرانيا في الوقت الذي بدأ فيه الأوروبيون بالتوقف عن ذلك. ولقد غابت التعليقات الأوروبية حول هذه الخطوة حتى الآن وذلك رغبة في عدم زيادة تعقيد الوضع السياسي الألماني، وعلى أمل أن تسمح المناقشات داخل البوندستاغ قبل نهاية العام الحالي بتعديل هذا الإجراء. ثمة آراء تفترض أن بعض الدول الأوروبية التي ما زالت مقتنعة بتقديم كامل الدعم لأوكرانيا، سوف تࣳحمّل نفسها المزيد من الأعباء لسد الانسحاب الألماني، الأمر الذي قد يعرضها لضغوط داخلية متزايدة، وإلى زيادة توترات داخل الاتحاد الأوروبي نفسه. في حين ترى آراء أخرى أن هذا التقليص هو وسيلة تتبعها الحكومة الألمانية لجعل المساهمين الآخرين يواجهون مسؤولياتهم، وخاصة فرنسا، التي تتهمها برلين بـالتحدث كثيراً، ولكنها لا تقدم سوى القليل.
3- محاولة برلين التخفيف من حدة الانتقادات الموجهة لها:في مواجهة الضجة التي أثارتها هذه الخطوة اعتبر وزير المالية الألماني أنه مستعد لدراسة توفير موارد إضافية على المدى القصير لتوفير احتياجات أوكرانيا. كما أشار المستشار الألماني شولتز إلى أنّ ألمانيا تقف بقوة إلى جانب أوكرانيا، وهي كانت أكبر مساهم لها في أوروبا من حيث المساعدات المالية والاقتصادية والعسكرية وستبقى.
وتقول الحكومة الألمانية إنها تعوّل على الجهاز الذي تعتزم مجموعة السبع G7 والاتحاد الأوروبي إنشاءه والقائم على استخدام الأصول الروسية المجمدة والتي تبلغ قيمتها حوالي 300 مليار دولار من أجل دعم كييف. وعلى الرغم من أنه حتى الوقت الراهن، لم يحصل أي تقدم ملموس في هذا الاتجاه؛ غير أن برلين تعتبر أن هذه الأموال ستكون قابلة للاستخدام اعتباراً من عام 2025. هذا وترى بعض الأوساط المدافعة عن خطوة الحكومة الألمانية أن هذا التخفيض ليس انتهاكاً للوعود الممنوحة لأوكرانيا، لأن استخدام الأصول الروسية المجمدة سيضمن أن تحصل أوكرانيا على أموال أكثر في العام المقبل (2025).
4- الدفع المحتمل نحو إعادة تقييم السياسات الأوروبية: قد تبدأ بعض الدول الأوروبية في إعادة تقييم سياساتها تجاه أوكرانيا، خاصة إذا استمرت الحرب لفترة طويلة، خصوصاً أن بعض الأصوات الأوروبية بدأت ترتفع للمطالبة بالتوصل إلى اتفاق مع روسيا عبر تكثيف الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة، كما تدعو أصوات أخرى إلى ضرورة إرسال قوات أممية للفصل بين المتحاربين بديلاً عن تحميل الأوروبيين كلفة صمود أوكرانيا. وفي المقابل، فإن بعض الآراء ترى أن تقليص الدعم الألماني سيكون له تأثير على أوكرانيا فقط من الناحية المالية، لأنه بالنسبة للمساعدات العسكرية فإن بولندا تتقدم على ألمانيا في ذلك.
5- مضاعفة التحديات أمام التحركات العسكرية الأوكرانية: يأتي قرار ألمانيا بالتقليص التدريجي لدعمها لأوكرانيا، بالتزامن مع معاناة فرنسا من أزمة سياسية عطلت عملية تشكيل الحكومة الجديدة فيها، ومع انشغال الولايات المتحدة بفترة الحملات الانتخابية للمرشحين الرئاسيين، ومع تركيز الحكومة البريطانية الجديدة على معالجة آثار اندلاع عمليات العنف العنصري الأخيرة. وفي هذا السياق يرجح أن يؤدي القرار الألماني إلى مضاعفة الضغوط على كييف، وخاصة في ظل العملية العسكرية التي تنفذها في كورسك، وبالتالي قد تسعى إلى إيجاد مخرج سريع للصراع تخوفاً من تبني دول غربية أخرى نفس المسار الألماني.
وفي هذا الصدد، يمكن تفسير تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي، يوم 27 أغسطس 2024، حول استعداده لتقديم خطة للرئيس الأمريكي جو بايدن لإنهاء الحرب خلال زيارته إلى واشنطن في شهر سبتمبر 2024. وذكر أن الهجوم الذي شنته أوكرانيا عبر الحدود في منطقة كورسك الروسية هو جزء من الخطة.
ختاماً، يمثل انتقال الحكومة الألمانية من مقولة “مساعدة أوكرانيا طالما كان ذلك ضرورياً” في أول الأزمة إلى “لن تكون هناك مساعدات إضافية خارج موازنة 2025” تحولاً من شأنه أن يغير المشهد الأوروبي المتعلق باستمرار الدعم لأوكرانيا. كما يبرز هذا التحول الحاجة الأوروبية إلى بلورة استراتيجيات بديلة لضمان استمرارية هذا الدعم، بالإضافة إلى أنه يفتح المجال أمام مراجعة السياسات الدفاعية الأوروبية الحالية.
https://www.interregional.com/article/%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%8A%D9%86:/2676/Ar