أقلام وأراء

نهاد أبو غوش يكتب – تنقيط حقوقنا الوطنية والمعيشية بالقطارة!

بقلم نهاد أبو غوش* – 29/8/2021

ترغب دولة الاحتلال الإسرائيلي في تقمص دور الأم تيريزا وإضفاء صبغة إنسانية على طريقة تعاملها معنا، لعل ذلك يغطي على بشاعة الجرائم اليومية التي تقترفها في الأراضي المحتلة، وتطال الإنسان والأرض والزرع والضرع والتراث والتاريخ، حتى الأمل الساكن في صدور الشباب لا يكاد يفلت من الاستهداف.

آخر الأخبار هو ما ادعته القناة 12 العبرية عن قرض بقيمة ثمانمئة مليون دولار ستقدمها إسرائيل للسلطة الفلسطينية لمساعدتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية القاسية، وشح الموارد وعدم وفاء الجهات المانحة بتعهداتها تجاه السلطة الفلسطينية. وترافق هذا الخبر مع حديث المصادر الإسرائيلية عن جملة من “التسهيلات” التي ستقدمها لقطاع غزة المحاصر من قبل إسرائيل نفسها، وتشمل هذه التسهيلات المزعومة، إدخال بعض المعدات والمواد اللازمة للمشاريع المدنية، وفتح معبر كرم أبو سالم، بالإضافة لزيادة عدد تصاريح العبور لرجال الأعمال لتصل إلى ألف تصريح، علما بأن معظم التسهيلات المقدمة لرجال الأعمال هؤلاء هي في الحقيقة لعمليات استيراد البضائع الإسرائيلية، والسماح بتجارة الذهب واستيراد كميات من السيارات الجديدة!

ومع أن وزيرا فلسطينيا نفى صحة القرض، إلا أن هذا الأسلوب سبق أن اتبعته إسرائيل مع بداية تفشي جائحة الكورونا، فهي تصادر الأموال الفلسطينية المحتجزة ثم تفرج عنها أو عن بعضها. ولا يرتبط الأمر باتفاق رضائي أو تعاقدي بين الطرفين، فإسرائيل ليست بنكا ولا مؤسسة مصرفية ولا مؤسسة تعاون دولية، وهي حين تسطو على أموال المقاصة، وتتحكم بكل تفاصيل حياتنا الاقتصادية فهي تفعل ذلك كدولة احتلال، ومن باب رغبتها في إدامة الاحتلال والسيطرة، توطئة للسيطرة على قرارنا السياسي ومصادرة طموحاتنا الوطنية.

أما موضوع التسهيلات فهو ليس أكثر من تخفيف للقيود التعسفية التي فرضتها إسرائيل مؤخرا بعد الحروب المتتالية وآخرها أيار الماضي، فهي تعمد مثلا إلى تقليص مساحة الصيد البحري، ثم تصوّر عودة الأمور إلى ما كانت عليه وكأنه تسهيلات، أي كأنها تقدم لنا أشياء من عندها، وتمنّ بها علينا عربونا على خطوات إعادة بناء الثقة، وهذا ينطبق على عدد الحواجز العسكرية في الضفة التي يجري تخفيضها، والمداهمات والاعتقالات والاقتحامات التي يمكن تقليص عددها، كما ينطبق على القيود المشددة على السفر والحركة، والاستيراد والتصدير وخلافه.

هذه التسهيلات ليست معزولة عن لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بالرئيس الأميركي جو بايدن، وتظاهر الأول بحرصه على الاستماع لنصائح الثاني الذي أوفدت إدارته حتى الآن ثلاثة مبعوثين هم هادي عمرو، ووزير الخارجية انتوني بلينكين، ورئيس وكالة المخابرات المركزية ويليام بينز. كل هؤلاء المبعوثين أوصوا باتخاذ خطوات لمنع تفاقم الأوضاع في الأراضي الفلسطينية والحيلولة دون انهيار السلطة.

عمرو شبّه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية بغابة حطب جاف، لا تحتاج إلا لشرارة كي تشتعل. هذه التحذيرات والتوصيات مقرونة كذلك بتحذيرات الأوساط الأمنية الإسرائيلية، التي عبر عنها مرارا وزير الجيش الاسرائيلي بيني غانتس بعد الحرب الأخيرة على غزة، من تنامي قوة ونفوذ الجهات التي تصفها إسرائيل بالراديكالية والمتطرفة.

اللافت أن التسهيلات التي يجري الحديث عنها منذ عقدين على الأقل، لا ترقى ولا تهدف أصلا، إلى إحداث تغيير جوهري في الأوضاع الفلسطينية من زاوية تمكين الفلسطينيين من إدارة مواردهم أو الاستيراد والتصدير مع العالم الخارجي، أو إجراء اي تعديل ولو طفيف على بروتوكول باريس الاقتصادي، فهي دائما تسهيلات من نوع التنازل عن بعض القيود والشروط، والمعيقات المفتعلة التي فرضتها سلطة الاحتلال التي تواصل التعامل مع الفلسطينيين بالقطارة، تماما مثلما يتعامل سجّان مع أسير لديه مقيّد بالأصفاد، فيحرمه من الطعام والماء حتى يشرف على الهلاك جوعا وعطشا، وعندها فقط يلقي إليه ببضع قطرات تبقيه على قيد الحياة.

إسرائيل إذن تستخدم ما تسميه التسهيلات والقيود كأداة للتحكم في الفلسطينيين، فليس من مصلحتها انهيار السلطة، ولا مواجهة الفوضى التي يمكن أن تنشأ عن ضعف السلطة أو انهيارها، أو تحمل أعباء إدارة الشؤون الحياتية لخمسة ملايين فلسطيني، ولكنها في الوقت نفسه لا تريد للسلطة الفلسطينية أن تكون قوية فيشتد عودها وتكون قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية من قبيل وقف التنسيق الأمني.

الفلسطينيون وسلطتهم عالقون في هذا الفخ منذ بدء تطبيق اتفاق أوسلو، ويوما بعد يوما يزداد ارتباطهم وارتهانهم لهذا الفخ وللشروط التي يفرضها الاحتلال، وكل يوم جديد يمضي يرسخ هذا الارتهان، وإذا ما طبقت إسرائيل الرؤية التي يتبناها بينيت أو جزءا منها وهي رؤية “تقليص الصراع” أي خفض الاحتكاك اليومي مع الفلسطينيين، مع الاحتفاظ بالسيطرة عليهم وعلى الأراضي المحتلة، فنحن ذاهبون حتما إلى تكريس الاحتلال باعتباره قدرنا النهائي على الأقل في المدى المنظور. وحدها الرؤية التي صاغها المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثالثة والعشرين (نيسان- أيار 2018) وقبلها قرارات المجلس المركزي يمكن لها أن تكسر هذه الحلقة الجهنمية، فتعيد صياغة العلاقة مع الاحتلال كما هي بالضبط أي: شعب محتلة ارضه في مواجهة دولة الاحتلال، بكل ما يترتب على هذه المعادلة من خيارات كفاحية ومن إعادة صياغة وظيفة السلطة ودورها وما يمليه ذلك من استحقاقات على طريقة إدارة شؤوننا وحياتنا الداخلية.

* عضو المجلس الوطني الفلسطيني .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى