نبيل فهمي يكتب – كيف يتجنب العالَم العربي السقوط في الهاوية؟
نبيل فهمي * – القاهرة – 7/12/2017
كشفت سلسلة من الأحداث المروعة التي شهدها شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عن الحال المزرية التي انتهى إليها العالَم العربي. فقد أعلن رئيس الوزراء اللبناني استقالته من خارج لبنان، ولكنه تراجع عن تصريحه في وقت لاحق. كما أُطلِق صاروخ من اليمن باتجاه الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية. ونفذت القيادة السعودية حملة كبرى لمكافحة الفساد والتي أثرت على عشرات الشخصيات البارزة. وفي الوقت نفسه، شهدت مِصر أسوأ هجوم إرهابي في الذاكرة الحية، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 300 مدني فضلا عن عشرات المصابين. وأكَّدَت مقاطع الفيديو لمزادات بيع العبيد المزعومة في ليبيا على الفوضى المستمرة هناك وسط انهيار كامل للدولة الليبية.
لم تفعل الانتصارات العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” والتقارب بين الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية شيئاً يُذكَر لتخفيف الشعور الجمعي بالقلق في المنطقة. ولم تُلهِم هذه التطورات الإيجابية الثقة في قدرة العالَم العربي على سحب نفسه على نحو أو آخر بعيداً عن حافة الهاوية. فقد أصبح التدخل الأجنبي ممارسة روتينية في سورية ولبنان والعراق واليمن. وتأتي المناقشات الجارية حول سياسات الهوية والحدود في بلاد الشام كمقدمة لتحديات جوهرية بالغة الخطورة في المستقبل.
وليس الوضع القائم في الشرق الأوسط الآن مفاجئاً. ففي السنوات الأخيرة، لم تُقدِم أي دولة عربية على قيادة أي محاولة لحل الصراعات الجارية في ليبيا وسوريا واليمن، ناهيك عن معالجة القضية الفلسطينية الإسرائيلية. وكان تأثير الأجانب على الكثير من هذه الصراعات أعظم كثيراً من تأثير العرب عليها.
تاريخياً، كانت منطقة الشرق الأوسط هدفاً للعديد من الغزوات الأجنبية، من الحملات الصليبية إلى الاستعمار الأوروبي. وقد اغتُصِبَت موارد المنطقة الطبيعية بكل شراهة وجشع، وكانت مسرحاً لحروب بالوكالة خلال فترة الحرب الباردة. وحتى يومنا هذا، ما تزال أراض عربية تحت الاحتلال.
ولكن، على الرغم من الأسباب الوفيرة التي تبرر إلقاء اللوم على قوى أجنبية عن الأوضاع الخطيرة في المنطقة، فإن إلقاء اللوم على آخرين -أو حتى تبادل الاتهامات- لن يحل أي شيء. ذلك أن العالَم العربي يعاني من مشاكل عديدة محلية المنشأ أيضاً، بما ذلك الحكم العاجز العقيم، والتحالفات الشريرة، والقدرات الوطنية غير المستثمرة.
تقبع الكوارث في انتظار أي منطقة عاجزة عن تشكيل مستقبلها بنفسها؛ حيث يشعر أغلبية المواطنين بالحرمان من حقوقهم. وعلى الرغم من أن العالَم العربي يشتهر تقليدياً بأنه محافظ، فإن ما يقرب من 70 % من مواطنيه دون سن الخامسة والثلاثين، ويعاني الشباب من أعلى معدلات البطالة في أغلب الدول. ولا تُعَد هذه الحال إهداراً هائلاً للموارد فحسب، بل وتفرض أيضاً مشكلة اجتماعية سياسية طويلة الأجل وبالغة الخطورة. ولكنها مع ذلك ليست سوى أحد التحديات المحلية العديدة التي تواجه المنطقة.
يتعين على العرب أن يتحملوا المسؤولية عن إدارة أجندتهم بأنفسهم، وأن يصبحوا القوة الأساسية التي تحدد مستقبلهم ومستقبل أوطانهم. وينبغي لهم بطبيعة الحال أن يواصلوا العمل مع العالَم الخارجي وتعزيز علاقاتهم وتحالفاتهم الاستراتيجية. ولكن يتعين عليهم أيضاً أن يحدوا من اعتمادهم على الآخرين.
بادئ ذي بدء، تحتاج حكومات المنطقة إلى تطوير قدراتها في مجال الأمن الوطني، للدفاع عن نفسها ضد تهديدات غير وجودية والتوسعية المهيمنة. وهذا بدوره كفيل بتعزيز نفوذهم السياسي ومنحهم المزيد من الأدوات الدبلوماسية لمعالجة المشاكل الإقليمية ومنع الصراعات العسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، يتعين على العرب أن يدافعوا عن هوياتهم الوطنية. صحيح أن نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط ليس مثالياً، ولكنه أفضل من الطائفية الدينية أو العِرقية، التي تهدد بالمزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة. ولتجنب هذه النتيجة، تحتاج الدول القومية في المنطقة إلى مؤسسات قوية لتوفير الحكم الصالح الفعّال والشمول الاجتماعي. ولكن من المؤسف أن أغلب المؤسسات في الدول العربية لا تقترب حتى من القدرة على الوفاء بهذه الضرورة الحتمية.
استشرافاً للمستقبل، ينبغي للعرب أن يدركوا أن الإصلاح الداخلي هو أفضل وسيلة لمنع التدخل الأجنبي والدفاع عن المصالح الوطنية. فقد كشفت الصحوات العربية على مدار السنوات القليلة المنصرمة عن طبقة متوسطة ذات توجهات وسطية وتتوق إلى التغيير. وقد حاولت أحزاب انتهازية الاستفادة من البيئة المضطربة الناجمة عن التغيير الفجائي. ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن هذه الحركات كانت استجابة لحكم أبدي رديء وفشل القادة العرب في ملاحقة الإصلاح التدريجي.
يحتاج العرب أيضاً إلى إعطاء أنفسهم مجموعة أكبر من الخيارات الاقتصادية والسياسية والأمنية، حتى يتسنى لهم التكيف مع الظروف المتغيرة. فلم يَعُد العالَم مكاناً ثنائي القطبية أو أوروبي التوجه. وحتى نظام دولة ويستفاليا ذاته، وليس فقط النموذج الجيوسياسي الذي ساد في فترة ما بعد الحرب، هو الذي يخضع الآن للاختبار في مواجهة تغيرات تكنولوجية واقتصادية واجتماعية سريعة.
أخيراً، يتعين على العالَم العربي أن يواجه مواقف الهيمنة الإقليمية والاحتلال غير المشروع للأراضي العربية. ولا بد أن يحترم أي حل للمشاكل الحالية تطلعات الناس لاستقلال الدولة وسيادتها، في حين يتجاوز الأساليب التكتيكية أو القائمة على الصفقات والتي لا توفر سوى انفراجات قصيرة الأمد. وفي نهاية المطاف، لن تتمكن أي سياسة تتقاعس عن حماية الحقوق الأساسية من إحراز النجاح.
تحتاج الدول العربية، فرادى ومجتمعة، إلى استراتيجية مصممة بالكامل لمواجهة التهديدات الأجنبية والمحلية الوجودية لسيادتها وأمنها في السنوات المقبلة. وقد آن الأوان لأن يضع القادة العرب الخطوط العريضة لرؤية واضحة للعلاقات العربية في المستقبل، وأن يخططوا للتواصل مع جيرانهم من غير العرب بشأن الفرص والتحديات الإقليمية. وأخيراً وليس آخراً، يتعين على القادة العرب أن يوضحوا كيف يعتزمون توفير إدارة محلية أفضل لشعوبهم.
إذا كان العالَم العربي راغباً في الإدلاء بدلوه في صياغة وتشكيل مستقبله، فلا يجوز له أن يظل على استسلامه لحالة الرضا عن الذات في الوقت الحاضر. ويتعين على القادة والشعوب أن يشرعوا في التخطيط الآن.
*وزير سابق للخارجية المصرية وسفير مصر السابق إلى الولايات المتحدة واليابان. هو أستاذ في الجامعة الأميركية في القاهرة.
*خاص بـ”الغد”، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.