أقلام وأراء

نبيل عمرو يكتب –  حكاية المستشفى الأميركي في غزة

نبيل عمرو 2/12/2019 

أعلنت حركة «حماس» صاحبة القرار الأول والأخير في غزة، أنها وافقت على إقامة المستشفى الأميركي الميداني، وأنها ستراقب أداءه، أي أنها على نحو ما ستشارك في إدارته.

السجال الذي اشتعل منذ أعلن عن قرار إقامة المستشفى، أظهر أن الانقسام الفلسطيني وجد زيتاً إضافياً يصب على ناره المشتعلة، ما زاد العلاقات المتوترة بين طرفي الانقسام تعقيداً، وليمتد إلى العلاقات بين «حماس» ومن معها من الفصائل المقيمة في غزة، التي أنكرت مجرد علمها بصفقة المستشفى، وبالتالي أعفت نفسها من تهمة الترحيب بإقامته.

حين يقع حدث كهذا ونحن حيال تنافس شديد وتفصيلي بين «فتح» و«حماس»، فبوسعنا تخيل إلى أين ستصل الاتهامات التي هي أصلاً، وفق الفلكلور الفلسطيني وحتى العربي، قاسمها المشترك الخيانة العظمى.

المستشفى الأميركي الذي أعلنت «حماس» عن موافقتها عليه، وأظهرت مزاياه على المستوى الصحي، يقع ضمن شريط جغرافي وأمني يتطلب موافقة إسرائيلية على إقامته، مع تقديم التسهيلات اللازمة لتشغيله. 

إذن لا يجوز منطقياً أن يُقدم للفلسطينيين، على أنه مجرد عمل خيري وإنساني، فكل أمر يتصل بغزة هو سياسي بامتياز، بدءاً من سماح إسرائيل لإبر الخياطة بالدخول إلى القطاع، وليس انتهاءً بضخ حمولة مئات شاحنات البضائع التي تعبر من إسرائيل للقطاع بصورة يومية.

صحيح أن المراقب يشاهد سيل الشاحنات المتدفق يومياً، ويشاهد في الوقت نفسه الـ«F16» وهي تقصف في محيطها، إلا أن تجاور المشهدين لا يفسد رعاية الأمور المشتركة بين الجانبين، فأهل غزة بحاجة إلى الشاحنات، وإسرائيل بحاجة للضغط والردع والترويض.

في رام الله تجري معالجة واقعة المستشفى الأميركي كقرينة على أن «حماس» ماضية قدماً في تعزيز سيطرتها على القطاع إلى مستوى يقترب كثيراً من الاستقلال التام، حتى لو تطلب الأمر التحالف مع الشيطان، وطريقة رام الله في إيراد القرائن تجنح إلى عرضها بالتقسيط، مع أن «حماس» تستقل في غزة بالجملة، فليس المستشفى الأميركي هو القرينة الأقوى؛ بل مجمل السياسة الحمساوية الداخلية والخارجية.

على الصعيد الداخلي فلا وجود لغيرها في مؤسسات الحكم من الألف إلى الياء، وعلى الصعيد الخارجي فصلاتها بجهات إقليمية ودولية عربية وأجنبية تمارس بصورة علنية، صحيح أنها بلا سفارات ولا اعترافات ولا نشيد وطني ولا بسط حمراء تفرش تحت أقدام الوفود، إلا أن مصطلح ضرورة التواصل مع سلطة الأمر الواقع في غزة يكفي ويزيد. ومن أجل غسيل ذلك فبوسع السلطة المعترف بشرعيتها في رام الله أن تأخذ علماً.

في الآونة الأخيرة، بدأت سلطة «حماس» عملية تجديد وتنقيح لسياساتها، بما في ذلك تطلعها لمد نفوذها من غزة إلى الضفة، فالتقطت مبادرة الرئيس عباس بإجراء الانتخابات العامة، وأعلنت موافقتها عليها ومشاركتها فيها، ولمَ لا ما دامت ستوفر لها شرعية انتخابية تحسن من وضعها داخل الوطن وخارجه. كذلك أقدمت وبمفاجأة مدوِّية على وقف فعاليات يوم الجمعة، والامتناع عن الدخول في المعركة الأخيرة التي سجلت من أولها إلى آخرها على حساب «الجهاد الإسلامي» وحدها. ذلك لا يشير إلى استيقاظ متأخر على أهمية الانتخابات العامة، ولا على أهمية حقن دماء المتظاهرين على الشريط الحدودي مع إسرائيل؛ بل هو إشهار واضح لسياسة جديدة أو غلافها جديد، تكون المرونة والاعتدال مؤهل قبولها محلياً وخارجياً.

حكاية المستشفى الأميركي تبدو قرينة من العيار المتوسط، بالقياس للقرائن القوية التي أفرزتها سياسة «حماس» سراً وعلناً منذ استيلائها على غزة.

أخيراً ما إن يبدأ المستشفى الأميركي في العمل، فسوف يستقبل المرضى بحكم الأمر الواقع، وبالحكم ذاته لن يقاطعه حتى الجرحى الذين يصابون بالقصف الإسرائيلي؛ لأن المستشفى الأميركي ومع الإقرار بكل أبعاده ومحاذيره السياسية، سيكون بحكم الأمر الواقع، تطويراً للعلاقات الطبية بين المتحاربين (!) وصرحاً متقدماً للمستشفيات الإسرائيلية التي ما كفت عن استقبال مرضى وجرحى غزيين. وسقى الله ورعى مصطلح «الأمر الواقع» الجاهز على الدوام لتبرير الشيء ونقيضه. وبالسلامة يا مرضى وجرحى غزة، وليرحم الباري – عز وجل – شهداء الجدار وكل الشهداء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى