ناشيونال بابليك راديو : داريا ثم الغوطة.. كيف يواصل النظام السوري كسب أراضٍ جديدة؟
ناشيونال بابليك راديو – لما العريان و روث شيرلوك – 24/3/2018
ما أشبه اليوم بالبارحة، سيناريو داريا وغيرها من معاقل المتمردين، حصارٌ، فقصف، فإخلاء قسري، هكذا تكسب قوات الأسد وحلفاؤه أراضيَ جديدة. نشر موقع «ناشيونال بابليك راديو» تقريرًا كتبته «لما العريان» و«روث شيرلوك» المراسلتان من تركيا، حول احتمالات مصير الغوطة الشرقية، استنادًا إلى رواية أحد المنشقين عن الجيش السوري، وقائد المعارضين في داريا، فهل تلاقي الغوطة نفس مصير سابقاتها من معاقل المعارضة التي سيطر عليها الأسد؟
تقدم الأسد واستسلام المعارضة
يستهل التقرير بوصف مشهد تناولته وسائل الإعلام مؤخرًا، حيث يبتسم الرئيس السوري بشار الأسد أمام عدسات الكاميرات، مرتديًا بذلته السوداء، ليلتقط صور السيلفي مع جنوده، بينما في الخلفية أطلال مبانٍ محترقة ودبابات مدمرة، يحيط به حشد من الرجال، يبدون منهكين لكن مهللين بالشعار الذي لا ينفك يتردد في هذا الجزء من البلد: «بالروح بالدم نفديك يا بشار».
نشرت بعض وسائل الإعلام الموالي للنظام هذا الأسبوع، أشرطة فيديو وصورًا للأسد أثناء زيارته لما تزعم أنها بلدة وقعت في قبضة قوات النظام مؤخرًا في الغوطة الشرقية، شرق العاصمة دمشق، إلا أن الرسالة من التسجيلات والصور كانت واضحة مفادها أن الأسد يبدي ثقة كبيرة بأن المنطقة ستستسلم قريبًا وستقع تحت سيطرته.
وعلى الرغم من تحقيق النظام مكاسب في أماكن أخرى من البلاد، فإن عشرات الآلاف من المتمردين المدججين بالسلاح في الغوطة الشرقية، أي على بعد أميال قليلة من القصر الرئاسي في العاصمة، لطالما شكلوا تهديدًا خطيرًا. والآن، بعد سنوات من الحصار، والغارات الجوية، والهجمات بالقذائف التي شنها النظام وحلفاؤه على الغوطة، دُفِع بالقوات البرية لدخول الضواحي، ما أدى إلى تفتيت معقل المعارضة إلى أجزاء منفصلة. بدأت تعترف مجموعات المتمردين بالهزيمة بعد محاصرتها في الزاوية؛ فعلى سبيل المثال، استسلمت جماعة أنصار الشام، أول فصيل رئيسي من المقاتلين للجيش السوري، هذا الأسبوع، وذلك من خلال صفقة تنص على نقلهم وعائلاتهم إلى منفى في محافظة إدلب الشمالية.
يعقب ذلك استسلام جماعة أخرى مساء الخميس الماضي، فقد أبدت إحدى المجموعات الكبرى الأخرى استعدادها بأن تحذو حذو الأولى، إذ أعلن متمردو فيلق الرحمن توقفًا مؤقتًا عن القتال، واستعدادهم لبدء المفاوضات مع النظام وحلفائه، إلا أنه حتى الآن، فشل وقف إطلاق النار، واستمرت الضربات الجوية بلا هوادة، ولم يتوصل الطرفان إلى اتفاق.
ما أشبه اليوم بالبارحة
يذكر التقرير أنه إذا نجح النظام السوري في فرض سيطرته على الغوطة الشرقية، فسيتمكن من تدمير آخر معاقل المعارضة الرئيسية في دمشق، بيد أن مع تزايد احتمالية استسلام المتمردين، تبرز العديد من التساؤلات حول مستقبل أكثر من 350 ألفًا من السكان، وذلك حسب تقدير منظمات الإغاثة لأعداد السكان في الغوطة الشرقية، ولعل القضية الأساسية المطروحة في المفاوضات المكثفة تتمثل في هل سيسمح للمدنيين بالبقاء في منازلهم بعد فرض الحكومة سيطرتها على المنطقة أم سيتم نفيهم؟ وكذلك ما مصير المقاتلين المتمردين؟
تقبع تلك التساؤلات في كواليس المشهد الحالي، لكن حتى الآن يبدو أن مصير الغوطة الشرقية مشابه لما حدث في معاقل المتمردين الأخرى التي هزمت في دمشق وضواحيها، على سبيل المثال في قرية معضمية الشام اليرموك وداريا. يشير التقرير إلى أن تلك القرى تقف اليوم خاوية من سكانها الأصليين، لم يتبق فيها إلا طلقات الرصاص أسوارها ومبانيها مرصعة بنيران الدبابات، آثار في قرى أشباح خلفها حرب عنيفة في الماضي القريب.
يقول «سعيد نقرش» وهو أحد المنشقين عن الجيش السوري، وكان قائدًا لإحدى الجماعات المتمردة في داريا، جنوب غرب العاصمة: «كانت داريا أول مدينة في دمشق تقع تحت الحصار الشديد». تلقي روايته لما حدث في داريا أثناء قيادته للمتمردين هناك، ولما أدى إلى استسلام المتمردين في صيف عام 2016، بظلالها على الاستراتيجية العسكرية للنظام السوري وحلفائه.
وقعت داريا تحت حصار شديد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، تمامًا مثل ما حدث في الهجوم على الغوطة؛ وتضاءلت مخزونات الغذاء، يصف «نقرش» حال أهل داريا حينها بأنهم كانوا يلتقطون الحشائش التي كانت تنمو في الشقوق على جانبي الطرق من أجل إخراج الجزء الرطب الرقيق منها، وتطارده حتى الآن صور الأطفال الذين ماتوا من شدة الجوع.
يستكمل «نقرش» قائلًا إنه في حين ضيقت الحكومة السورية الخناق على داريا، وفصلتها عن العالم بالحصار الشديد، كانت ترسل مبعوثين بانتظام يعرضون صفقات استسلام المتمردين، لدرجة أن النظام في إحدى المرات أرسل المفتي العام السوري –وهو المرجع الديني الرسمي للمسلمين في سوريا – للتحدث معهم.
يقول «نقرش»: «رفضنا صفقة النظام»، وصمد المسلحون انتظارًا للوصول إلى حل عن طريق المفاوضات التي تزعمتها الأمم المتحدة في جنيف، كانوا يأملون أن استمرار سيطرتهم على داريا يشكل ضغطًا على النظام، ومن ثم تهديدًا له، وبالتالي يصبح بإمكانهم إجبار النظام على قبول صفقة تتضمن تنحي الأسد، إلا أن المفاوضات مثلها مثل محاولات فرض الهدنة، باءت بالفشل، وهو ما يحدث في الغوطة الشرقية حيث فشلت محاولات وقف إطلاق النار، وبالتالي فإن الجيش السوري ومليشيات حلفائه يكثفون من قصف البلدة.
يردف «نقرش» قائلًا إن في يونيو (حزيران) 2016، أدى الضغط بقرارٍ من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى دخول قافلة مساعدات واحدة إلى داريا، إلا أن لدى وصولها بدت كما لو كانت مزحة قاسية لأناس تحت الحصار، إذ صودرت كل المعدات الطبية عند نقاط التفتيش التابعة للنظام قبل وصولها داريا، ويستكمل حديثه بضحكة مريرة: «بعد كل ذلك، وبعد حصار دام أربع سنوات، تلقينا وسائل منع الحمل وناموسيات». وعلى نفس المنوال، صادرت نقاط التفتيش الحكومية المعدات الطبية في قوافل المساعدات المرسلة إلى الغوطة الشرقية.
يكمل «نقرش» روايته لما حدث في داريا، يذكر أن النظام زاد من شدة الحصار المفروض على داريا، وصار من الصعب الاستمرار في مقاومته، بل وصعد النظام السوري وحليفته روسيا الهجمات الجوية، وقُصفت المدينة قصفًا شديدًا لدرجةٍ أجبرت المدنيين على العيش داخل أقبية، باحثين عن أي حماية من القصف، يقول «نقرش»: «كانت الغارات والقصف تُشنّ يوميًا، تمامًا مثلما يحدث الآن في الغوطة»، مضيفًا «بدأنا في التراجع على الأرض». وبحلول يوليو (تموز) 2016، لم يقو السكان على التحمل أكثر، فتوسلوا للمتمردين – الذين أغلبهم من الحي نفسه – كي يعثروا على طريقة لوقف القصف.
يردف «نقرش» قائلًا «كنا نعلم أن الاستسلام هو الخيار الوحيد الآن، لكن القضية كانت كيفية استسلامنا». بعد أن خذلتهم إجراءات الأمم المتحدة، لجأ المتمردون في داريا إلى روسيا حليف الأسد، ووافقوا على السماح للكرملين بقيادة المفاوضات بينهم وبين الحكومة السورية، لكن يقول «نقرش» إن الوعود الكلامية لم تتحول في أي محاولة إلى أفعال على أرض الواقع. تمامًا مثلما يحدث في الغوطة الشرقية الآن، ستعد روسيا بدخولٍ آمن لقوافل المساعدات، لكنها ستفشل في تأمين مسارها على الأرض، ويقول «سرعان ما أدركنا أنهم كاذبون، أو ربما لم يكونوا قادرين على فعل أي شيء».
وحسب روايته، لم يتمكن المتمردون من الدفع بالحكومة السورية إلى مفاوضات جدية، إلا من خلال لجوئهم إلى حزب الله، المليشيات العسكرية التي تمولها إيران وتدعم الأسد. يؤكد التقرير على أن رواية «نقرش» لما تلا تلك الخطوة، تعد إحدى الرؤى النادرة لدينامية العلاقة بين الحليفين؛ النظام السوري وحزب الله، ففي حين أن الأسد وحزب الله في طرف واحد على صعيد الحرب الأوسع في المنطقة، يقول إنهما يتنافسان من أجل السيطرة في المعارك الفردية.
يقول إن في داريا، أراد كل طرف أن يكون صاحب نجاح تأمين استسلام المتمردين، وقد استغل المقاتلون المتمردون في داريا تلك النقطة للوصول إلى أفضل صفقة ممكنة. تلاعب المتمردون على الطرفين كمحاولة للوصول إلى شروط أفضل في كل جولة مفاوضات، وفي النهاية، وافقت الحكومة السورية على السماح بنفي المتمردين وأسرهم إلى إدلب، وهي إحدى المقاطعات التي يسيطر عليها المتمردون، علاوة على السماح لهم بأخذ أسلحتهم الخفيفة معهم.
إخلاء قسري لا إنساني
أما في الغوطة الشرقية، فيضغط النظام السوري وحلفاؤه من أجل التوصل لحل من شأنه السماح بإخلاء الغوطة من المتمردين وعائلاتهم. يقول «أحمد طه»، ممثل المجلس المدني الموالي للمعارضة في ريف دمشق، «إنهم يواصلون وضع التحذيرات والإنذارات، فيخبروننا مرارًا وتكرارًا أن يتعين علينا الإخلاء حتى يوقفوا القصف».
يشير التقرير إلى أن استراتيجة النظام بدأت تؤتي ثمارها؛ إذ استسلم متمردو أحرار الشام، وانطلق المقاتلون خارج معاقلهم رافعين أسلحتهم عاليًا، استقلوا هم وعائلاتهم الحافلات التي نقلتهم إلى إدلب، وحسب تقدير بعض وسائل الإعلام الروسية، فإن حوالي 1500 مقاتل و6 آلاف شخص من أفراد عائلاتهم سيغادرون المدينة بموجب الاتفاق.
يقول «طه» وهو من دوما – البلدة الرئيسية في الغوطة الشرقية – إنه شهد مقتل خمسة من أفراد عائلته المقربين أثناء الحصار، ويقيم الآن في تركيا، يقضي جل أيامه في مناشدة الدبلوماسيين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، من أجل التوصل إلى حل أفضل من الاستسلام، وإرسال المتمردين والمعارضة إلى إدلب.
يقول «طه» إن الإجلاء الجماعي القسري إلى إدلب الذي تمارسه الحكومة السورية «ليس إنسانيًا»، إذ يُنتزع الآلاف من المدنيين من منازلهم، ويرحلون قسرًا إلى مدينة أخرى دون أي احتمال بالعودة. فضلًا عن أن إدلب ليست ملجأ آمنًا لهم، إذ تؤوي المدينة ما يقرب من مليون نازح، أغلبهم من عائلات المتمردين الذين استسلموا في الحصارات السابقة، علاوة على أنها صارت محط تركيز حملات القصف الجوي التي يشنها النظام وحلفاؤه، ناهيك عن أن أجزاء كبيرة من المنطقة مزقتها بالفعل المعارك بين فصائل المتمردين؛ فيلخص «طه» الوضع قائلًا: «بإرسال الناس إلى إدلب، فأنتم ترسلونهم من نيران إلى نيران أخرى».