ناشيونال إنتريست : هل تتفاوض الولايات المتحدة مع داعش؟
واشنطن – وكالات – 17/12/2017
فى 28 يناير 2017، بعد شهور من تعهد المرشح الرئاسى ـ آنذاك ـ دونالد ترامب بإزالة الدولة الإسلامية من على وجه الأرض وقصف الجماعة حتى تصير فتاتًا، أصدر رجل الأعمال المتحول إلى رئيس مذكرة رئاسية يوجه فيها وزير الدفاع جيم ماتيس إلى أن يقدم للبيت الأبيض ـ بالتشاور مع غيره من أعضاء المجلس الوزارى المعنيين بالأمن الوطنى ـ خطةً حربيةً شاملةً فى غضون ثلاثين يومًا. كانت مذكرة الرئيس واضحةً وضوح بيت من زجاج: “إن سياسة الولايات المتحدة هى أن تُمْنَى داعش بالهزيمة. فكان واجب البنتاجون أن يرد باستراتيجيةٍ من شأنها أن تسارع بالحملة العسكرية وتقرِّب الولايات المتحدة من ذلك الهدف. وفى حين ابتعدت المذكرة عن دائرة الضوء فى غضون يومٍ واحدٍ بإعلان ترامب أول حظر للسفر، ظل الأمر التنفيذى الصادر فى 27 يناير مع ذلك بيانًا عامًا إلى الشعب الأمريكى مفاده أن الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة سوف يقدم كل الموارد التى يحتاج إليها القادة للانتصار فى الحرب.
غير أن من دأب الخطط الحربية أن تضطرب فى الميدان أمام ما ينشأ من ظروفٍ طارئة. وبرغم إعلان وزير الدفاع ماتيس فى الربيع الماضى أن التحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة سوف يحاصر مقاتلى داعش الأجانب ويضيق الخناق على حريتهم فى الحركة، ويقتل كل واحد فيهم قبل أن تسنح له الفرصة للهرب من سوريا أو العراق، فإن واقع الوضع أكثر اهتزازًا. ففى حالات عديدة كان يُسمح لمقاتلى داعش الأجانب بالرحيل بأسرهم من المدن المحاصرة إلى مناطق أكثر أمنًا على الحدود السورية العراقية. وفى حالةٍ واحدةٍ على الأقل كشفت عنها بى بى سى وأيدته رويترز الأسبوع الماضى، لم تكن واشنطن على علمٍ فقط بهذه الخطط للإخلاء، بل كانت تسمح بحدوثها.
ينكر مسئولون فى البنتاجون إنكارًا شديدًا أى إشارة إلى أن الولايات المتحدة تتفاوض مع الدولة الإسلامية بأى صورةٍ من الصور. وعلى المستوى الرسمى لم تزل الخطة الحربية مماثلةً لما أعلن عنه عند أداء ترامب للقسم الرئاسى: خنق داعش عسكريًا، ومحاربة أيديولوجيتها الفاسدة سياسيًا، وإضعاف قوة دعايتها وتحريضها على العنف من خلال الإنترنت والحد من مصادرها التمويلية. غير أن هذا العام شهد حالاتٍ قام فيها وسطاء محليون لهم نفوذٌ على الأرض، وبعضهم مدعومٌ من الولايات المتحدة، بإبرام اتفاقاتٍ مع مقاتلين من داعش منهكين ومنخفضى المعنويات على إخلاء منطقةٍ معينةٍ فى مقابل ضماناتٍ بعدمِ مهاجمتهم فى أثناء الإخلاء.
وفى تقريرٍ مسهبٍ لكوينتين سومرفيل وريام دلاتى فى بى بى سى الشهر الماضى، سُمِحَ لما يصل إلى 4000 مقاتل من داعش وأسرهم بالخروج على شاحنات من مدينة الرقة والسفر إلى أراضى داعش فى دير الزور. كان بوسع المقاتلين أن يصطحبوا سلاحهم معهم، وإن طولبوا بعدم رفع أعلام داعش على قوافلهم لكى لا يثيروا الشكوك. أجرى مراسلا الإذاعة البريطانية حواراتٍ مع سائقى القافلة (ويتردد أنها بلغت خمسين شاحنة، وثلاثة عشر أتوبيسًا، وأكثر من مائة سيارة مملوكة لجماعة الدولة الإسلامية مكدسة بالأسلحة)، وقد باع صاحب متجر فى الصحراء أطعمةً للمقاتلين فى أثناء رحلتهم، وأدخل مهربون البعض منهم إلى تركيا، واعترف متحدثٌ عسكرىٌ أمريكىٌ باسم حملة مقاومة داعش أن طائرات التحالف الحربية كانت تراقب القافلة من أعلى. وشهد أحد المهربين ـ ويدعى عماد ـ أنه نقل عددًا من الجهاديين الأجانب إلى تركيا. “بعضهم … يتكلمون الفرنسية، وبعضهم الإنجليزية، وآخرون لغات أجنبية”.
وعلمت رويترز الأسبوع الماضى من طلال سيلو المتحدث السابق باسم القوات الديمقراطية السورية ـ وهى القوات الأساسية التى جمعها ائتلاف محاربة داعش لاسترداد المنطقة من الجماعة الجهادية فى شمالى وشرقى سوريا ـ أن مسئولاً عسكريًا أمريكيًا كان حاضرًا صفقة الإخلاء منذ البداية. وقال إنه تم إبعاد الصحفيين عن المنطقة بذريعة وجود قتال عنيف ضد داعش داخل مدينة الرقة، فى حين كانت تلك الإجراءات الأمنية فى واقع الأمر حيلةً لضمان عدم وصول اتفاقية الانسحاب للإعلام. وصف مسئولون عسكريون أمريكيون قصة سيلو بـ”الزائفة والمختلقة”، ولكن رواية المتحدث السابق باسم القوات الديمقراطية السورية تتسق على أقل تقدير مع بعض ما سبق وأوردته الـ”بى بى سى”.
وسواء أقرت واشنطن أم لم تقر بانسحاب داعش المتفق عليه، فليست الأحداث التى وقعت قرب نهاية هجوم الرقة إلا مثالاً واحدًا على إبرام هذه النوعية من الاتفاقات التكتيكية. فعلى مدار سنوات الحرب السبع فى سوريا، كان مقاتلون من نظام الأسد والميلشيات الكردية وقوات الدفاع الشيعية المنظمة والممولة من إيران يجدون من مصلحتهم أن يسمحوا لأعدائهم بالتفاوض على الاستسلام بدلاً من إكمال الأهداف عسكريًا.
كان نظام الأسد ينزع إلى استعمل هذا التكتيك بسبب نقص القوة البشرية المتاحة على الأرض. فيما وُصِفَ عن جدارةٍ بـ”حصار الجوع أو الاستسلام” للأماكن التى تسيطر عليها المعارضة، تخصَّص الجيش السورى وأنصاره من ميلشيات الشيعة فى تجويع المدنيين حرفيًا حتى الموت لكسر إرادة المتمردين الذين يقاتلون الحكومة. فكانت الأحياء تُحاصَر ويُمنَع المقيمون فيها من الهرب، وتُمنع عنها الإخلاءات الإنسانية، والأطعمة والماء والمعدات الطبية ويستمر القصف إلى أن تتصل القوة المحاصَرة بدمشق وتوافق على الاستسلام فى مقابل الانسحاب الآمن إلى قسمٍ آخر من البلد. ومثل هذا الاتفاق هو الذى يطلق عليه النظام السورى اتفاقيات المصالحة، ولكن المصطلح لا ينطلى على أحد، فهى فى واقع الأمر لا تعدو إزاحةً قسريةً للمقاتلين المناهضين للحكومة والمدنيين ممن أشقاهم الحظ بالحياة معهم.
فى منطقة الحدود اللبنانية السورية فى صيف هذا العام، توصل الجيش اللبنانى وحزب الله والحكومة السورية والدولة الإسلامية إلى اتفاقٍ مماثلٍ. وبعد شهور من العجز عن إزاحة الجهاديين من المنطقة الجبلية الواقعة على الحدود اللبنانية السورية، قبلت بيروت وحزب الله فكرة مقترحة من بقايا مقاتلى داعش مفادها السماح لهم بركوب أتوبيسات والانتقال إلى محافظة دير الزور، ويتلقى لبنان موتاه وأسراه المحتجزين لدى داعش فى فترة القتال. وقبلت الصفقة، ورحل مئاتٌ من مقاتلى داعش. وفى حين كانت الولايات المتحدة تعارض بشدة الخطة وتراها غير عادلة وتمثل تنازلاً خطيرًا لجماعةٍ يُفترَض أن المنطقة تحاول القضاء عليها، اختار مسئولو الولايات المتحدة العسكريون ـ بطلبٍ من روسيا ـ عدم قصف القافلة وهى تفر عبر الحدود السورية (غير أن طائرةً أمريكيةً جعلت الطريق نفسه أكثر وعورة بأن قصفت الطريق الرئيس نفسه).
وليست وحدات المعارضة السورية الرامية إلى الإطاحة ببشار الأسد محصنة من مثل هذه الصفقات هى الأخرى. ففيما أشير إليه بـ”اتفاقية البلدات الأربع”، اتفق الجهاديون السُنَّة وحزب الله ووحدات الجيش السورى على الإخلاء المتزامن للمدنيين السُنَّة المحاصَرين فى بلدتى مضايا والزبدانى اللتين يسيطر عليهما المتمردون فى مقابل إخلاء المدنيين السنة فى بلدتى الفوعة وكفريا اللتين تسيطر عليهما الحكومة. وقد هاجمت الأمم المتحدة حركة السكان معتبرةً إياها ترحيلاً قسريًا جبريًا يخالف القانون الدولى وقوانين الحرب، حتى وإن رأى المقاتلون أن هذه هى الطريقة الوحيدة لطرد المسلحين بدون إراقة المزيد من الدماء وإزهاق المزيد من الأرواح.
من وجهة نظر الولايات المتحدة فإن كل انسحابٍ لداعش من منطقةٍ تتعرض فيها لضغطٍ عسكرىٍ شديد هو أمرٌ غير ملائمٍ بالمرة، ويرقى إلى حياةٍ ثانيةٍ توهَب لرجالٍ كانوا قبل ثلاث سنوات فقط يستعبدون الأيزيديات ويبيدون الأقليات فى العراق ويذبحون العديد من الصحفيين الأمريكيين وعمال الإغاثة الغربيين. وفى واقع الأمر تعطى هذه الترتيبات لداعش الفرصة للهرب والحياة للقتال ليومٍ آخر (بل والفرصة لمن لديه الموارد الكافية منهم للهرب عبر الحدود إلى تركيا). ولكن عمليات نقل السكان هذه تبدو للمقاتلين المحليين على الجبهة أفضل من المزيد من الهجوم على عدوٍ متمترسٍ على نحوٍ قوى فى مواقعه ويؤثر الموت على الأسر.
ومثلما فى الحياة، حيث لا مكان لك تقف فيه إلا المكان الذى تكون جالسا فيه. ففى مواجهة الاختيار بين الموت الشقى الأليم أو الهرب بالحياة لإعادة شحن البطاريات والتخطيط للمستقبل، حتى الدولة الإسلامية ليست معصومةً من المفاوضات التكتيكية فى بعض الحالات.