ترجمات أجنبية

ناثان براون يكتب – فوائد الاقتراع

ناثان براون *- 29/3/2021

قد تبثّ الانتخابات بعض الحياة في الحوكمة الفلسطينية، على الرغم من وجود جهات معارِضة لها. يبدو أن الانتخابات الفلسطينية لا صديق لها. ولكننا دعونا زميلتي زها حسن وأنا، في مقال نُشِر مؤخرًا، إلى الحد قليلًا من التشكيك.

ظل الفلسطينيون، أقلّه حتى الآونة الأخيرة، يشككون في إمكانية حدوث الانتخابات. فنظرًا إلى العوائق القانونية والسياسية التي تفرضها الانقسامات الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، سيكون من الصعب تنظيم عملية انتخابية سليمة، حتى لو بذل القادة جهودًا حازمة ومصمِّمة في هذا الصدد. في الواقع، كان هذا التصميم غائبًا حتى فترة ليست ببعيدة. وقد عبّر جميع الأفرقاء ذوي الهواجس المختلفة، بينهم مَن يتخوّفون من أن الانتخابات ستتسبب باستفحال الانقسامات، ومَن يعارضون إشراك حماس، ومَن يعتبرون أنه يجب أن ينصبّ الاهتمام على الإصلاحات في مجالات أخرى، عن شكوك عميقة بشأن الفائدة من إجراء الانتخابات كما هو مقرر.

صحيح أن هؤلاء المحللين لا يسعهم سوى الانتقاد، غير أن الأفرقاء السياسيين النافذين الذين يمكنهم التحرك بناءً على شكوكهم، قد يتدخلون لقطع الطريق على الانتخابات بضربة على الحافر أو على المسمار. فقد يلجأ القادة الفلسطينيون المتخوّفون من أن الانتخابات قد تنحرف عن المسار المرسوم لها أو تفلت من قبضتهم، إلى إجهاضها؛ بدورهم، يمكن أن يعمد المسؤولون الإسرائيليون إلى تعطيلها بطرق كثيرة؛ وقد يجرّدها الدبلوماسيون الأميركيون والأوروبيون من الحماية الدولية التي تحتاج إليها كي تكون فعّالة.

لكن ماذا لو تمّت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي هو بمثابة برلمان السلطة الفلسطينية، وفقًا لما هو مقرّر؟ ماذا سيكون تأثيرها على الحوكمة الفلسطينية؟ في المجمل، قد تبثّ القليل من الحياة في كيانٍ سياسي راكد، وتساعد على صوغ أداةٍ يستطيع الفلسطينيون استخدامها لإدارة خلافاتهم. ثمة أسبابٌ ثلاثة تقود إلى هذه الخلاصة.

أولًا، على الأرجح أن النتائج ستكون مختلفة عما كانت عليه خلال الدورتَين الانتخابيتين الأخيرتين. فمعظم القوى السياسية سوف تشارك في الانتخابات، على خلاف ما جرى في العام 1996. وغالب الظن أن النظام الانتخابي الذي يعتمد حصرًا على التمثيل النسبي البحت سيحول دون حصول أي كتلة على أكثرية واضحة، وذلك خلافًا لما حدث في انتخابات 1996 و2006. في الواقع، من المستحيل توقُّع النتائج، وهذا مؤشّر جيد نوعًا ما، إذ إن الانتخابات التي تكون نتائجها محسومة سلفًا تكاد تكون انتخابات غير ديمقراطية بحكم التعريف. من جهتها، قد تكون الاستطلاعات أقل موثوقية بعض الشيء، لأن العوائق التي تعرقل التصويت ستختلف اختلافًا كبيرًا بحسب المكان. حتى إنه ليس واضحًا بعد ما هي الخيارات التي ستكون متاحة أمام الناخبين.

لا تزال القوائم الانتخابية قيد التشكيل، وقد يعمد المنشقّون عن حركة فتح إلى تشكيل قائمة أو قائمتَين في مواجهة قائمة فتح الرسمية. وربما تدفع الانقسامات داخل فتح بالقيادة إلى البحث عن طريقة لإلغاء الانتخابات. ففي العام 2006، وقعت أعمال عنف بين مرشحي فتح المتنافسين، ويمكن أن تتجدد الآن. لكن إذا شاركتْ في الانتخابات كتلةٌ إسلامية، وقائمة تمثّل حركة فتح، وقائمة (أو قائمتان) تمثّل المنشقّين عن فتح، وقائمة يسارية، وربما بعض القوائم الأخرى، فعلى الأرجح أننا سنكون أمام مجلس تشريعي تمتلك فيه أحزاب عدّة أصواتًا إنما من دون التمتّع بسلطة تعطيلية. كان لبرلمان 1996 خطٌّ مستقل (انتُخب عدد كبير من المرشحين المتحدرين من فتح بصورة مستقلة)، إلا أنه لم يكن منظَّمًا في إطار كتل واضحة، وكان يصعب الحصول على أكثريات متماسكة دعمًا لأي خطوة.

يطرح ذلك جانبًا ثانيًا بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، فالنوّاب المنتخَبون سينضوون في إطار مؤسسة بات لها تاريخٌ واضح، وأساس دستوري، ومجموعة من القواعد الإجرائية. لقد أُنشئ برلمان 1996 من الصفر، وشهد منذ البداية خلافات على خلفية أداء القسَم الوظيفي. أما المجلس التشريعي الجديد فسوف يكون له مسارٌ أوضح، على الرغم من أنه لن يكون مسارًا سهلًا. فالقانون الأساسي الفلسطيني، وهو عبارة عن نظام داخلي وضعه المجلس التشريعي الفلسطيني الأول ومكاتب الدعم التابعة له ويعكس تقاليد المجلس، كان أداؤه في السابق منقوصًا في أفضل الأحوال، ولم يخضع، في بعض النواحي، للاختبار. وفي حال كان المجلس التشريعي منقسمًا إلى كتل متنافسة، فقد يؤدّي ذلك إلى شلل عمله. ولكن حتى لو كان البرلمان عاجزًا وتسوده خلافات ومشاحنات، فهذا لن يمنعه من تحقيق خرق في جدار المأزق الذي يتسبب به قيام وصوليين متقدّمين في السن وغير خاضعين للمساءلة باحتكار عملية صنع القرارات في الدوائر المغلقة. في الوقت الراهن، لا تستطيع فلسطين اتخاذ قرار من أي نوعٍ كان. ولذلك فإن وجود برلمان منقسم ورئيس متقدّم في السن وحكومة عالقة بين الاثنَين قد يشكّل في الواقع خطوة نحو الأمام.

وهذا يقودنا إلى عامل التحسّن الثالث، ويتمثل في أنه ستكون هناك هيكلية واضحة تتيح للعناصر المختلفة في المجتمع الفلسطيني التوصل إلى مقاربات توافقية، وتتيح للأكثرية الحصول على إذن للتحرك في حال تبيّن أن التوافق مستحيل. وتتجلى الخلافات السياسية بين حماس وفتح (وحاليًا بين فصائل فتح) بشكل واضح، وقد ساهمت في الانحلال السياسي على رأس المجتمع الفلسطيني. ليس الانقسام بين غزة والضفة الغربية جغرافيًا وحسب، بل أصبح الآن جزءًا لا يتجزأ من الروابط الاجتماعية، والأطر القانونية، والآفاق السياسية.

لا بد من أن نضيف أن ثمة هوّة في المجتمع الفلسطيني لا تلقى الاهتمام الدولي اللازم، وهي الهوة بين الأجيال، لكنها تبرز تقريبًا في جميع النقاشات التي تدور في المجالس الخاصة بين مجموعات صغيرة من الفلسطينيين. فالتاريخ الذي عاشه الجيل القديم، أي تاريخ النضال الوطني و”الثورة” وبناء منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من المؤسسات، وتأمين الدعم الدولي، يبدو وكأنه انتهى كليًا في نظر عدد كبير من الشباب الفلسطيني.

ولكنْ ثمة سببٌ يُفسّر لماذا لا تُسمَع النقاشات التي تدور بين الأجيال خارج غرف الجلوس في المنازل الفلسطينية. فالجيل الشاب يفتقر إلى تحركات واضحة، واستراتيجات، وشخصيات قيادية. لا شك في أن الشباب ناشطون، إنما ليس في القنوات القديمة للحركة القومية. لقد انبثق عن الموجات السابقة للحراك الفلسطيني منظمات وأفراد يتزعّمون حاليًا بتعثّرٍ شديد الحركة الوطنية الفلسطينية. ولكن حتى أولئك الذين كانوا يُسَمّون “الحرس الشاب” قبل عقدَين من الزمن أصبحوا الآن على أبواب التقاعد. لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنه من شأن انتخابات تساهم في انتقال بعض الوجوه والأفكار الشابّة الجديدة من مواقع التواصل الاجتماعي إلى المجلس التشريعي أن تؤدّي إلى ربط المؤسسات السياسية الفلسطينية بالمجتمع بطرقٍ أكثر حيوية إلى حد كبير مقارنةً مع القنوات الجامدة القائمة حاليًا. وهذا قد يُحقّق نقلةً في السياسة من النقاشات اللامتناهية إلى انطلاق آلية حقيقية لصنع القرارات.

يُشير الفلسطينيون المشكّكون بالانتخابات إلى القيود التي ستتحكّم بمجريات العملية الانتخابية (في حال حدوثها)، والحاجة إلى الإصلاحات وتوظيف الجهود في مجالات أخرى، وإلى الانقسامات التي تتسبب بها الانتخابات، والمناورات التي يلجأ إليها القادة الذين يبدو أنهم يتبنّون العمليات الانتخابية ويطيحون بها لأسباب تكتيكية. لا يصحّ القول هنا إن السعي إلى الكمال هو عدوّ الجيّد، لأنه لا وجود للخيارات الجيّدة. فالخيار المتوافر أمام الفلسطينيين يتراوح بين وضع سيّئ مع بعض مؤشرات التحرك وبين جمود متجذّر مقرون بتدهور بطيء. لقد عاش الفلسطينيون مع الخيار الثاني لأكثر من عقد من الزمن، لذلك قد يبدو الخيار الأول جذّابًا بالنسبة إليهم.

*ناثان ج. براون  باحث أول غير مقيم برنامج الشرق الأوسط ،  أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى