أقلام وأراء

منير أديب يكتب – أميركا بين إسقاط “داعش” وإعلان دولة “طالبان”

منير أديب 26/6/2021

قررت الولايات المتحدة الأميركية الانسحاب الكامل من أفغانستان، بعد مفاوضات مع حركة “طالبان” استمرت أكثر من عام شهدتها أروقة العاصمة القطرية الدوحة في 2020 ومطلع عام 2021، فبرغم أن أميركا غزت أفغانستان قبل عقدين من الزمان بهدف إسقاط حكمها، فإذا بالقوة العالمية الأكبر تفاوض هذه الحركة من أجل الخروج النهائي بعد غزو استمر 20 عاماً، حيث عدّت حربها في أفغانستان، بأنها أطول حرب خاضتها خارج أراضيها، ولذلك أرادت التخفف منها بالانسحاب النهائي والكامل برغم مخاطره.

انسحاب أميركا من أفغانستان بمثابة كارثة سوف تدفع واشنطن والعالم تبعاتها لاحقاً، فكل التقارير الاستخبارية وتقديرات المواقف ذهبت إلى أن “طالبان” سوف تسيطر على الحكم فور خروج القوات الأميركية وقوات الناتو، وأنها لن تتوانى عن فرض تصوراتها الدينية على كابول التي باتت في وقت من الأوقات، أحد أهم مراكز صناعة الإرهاب وتدريب المقاتلين “الإسلاميين”، وقد ساعدت الطبيعة الجغرافية والظروف السياسية أفغانستان كي تحتل هذا المركز في صناعة الإرهاب العالمي.

دخلت أميركا أفغانستان قبل عقدين من الزمان كي تقضي على حكم “طالبان”، وها هي تخرج الآن وهي تتفاوض معها، ومعظم التقارير الاستخبارية والتحليلات السياسية تذهب إلى أن الحركة سوف تبسط سيطرتها السياسية والعسكرية على كل الأراضي الأفغانية، فأي استراتيجية للولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب “المعولم”؟ وإلى أي مدى نجحت في القضاء على هذه الحركة التي وضعتها على قوائم الإرهاب وخاضت حرباً لإسقاطها؟

في الحقيقة، لا إجابة تفسر ما حدث غير انهزام القوات الأميركية وانكسارها أمام حركة “طالبان” التي سبق وأعلنت الولايات المتحدة أنها تحتضن تنظيم “القاعدة” على أراضيها، بعدما رفضت تسليم زعيمه أسامة بن لادن، وتحملت عبء مواجهة القوات الأميركية وغزو بلادها بدلاً من تسليم زعيم “قاعدة الجهاد” وقتها، وقد كان متهماً بتنفيذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، وها هي الآن تخرج برغم احتضان “طالبان” “القاعدة” حتى ولو بدا خلاف ذلك في الاتفاق المكتوب بينهما.

التراجع الأميركي أمام “طالبان” وتنظيم “القاعدة” في أفغانستان برغم نجاحها في القضاء على دولة “داعش” في 22 أيلول عام 2019، يؤكد أننا أمام مشهد جديد ربما تعود من خلاله “القاعدة” إلى واجهة العمل الجهادي، إما بمساعدة أميركية أو تراخي واشنطن في مواجهة الإرهاب، أو في غياب استراتيجية لمواجهة الإرهاب العابر الحدود والقارات، فلو سلّمنا بوجود هذه الاستراتيجية فإنه ثبت فشلها مع تنامي دولة “طالبان” في الأفق.

أفغانستان تستعد لكارثة بعد انسحاب كامل القوات الأميركية مع حلول الذكرى العشرين لتفجير برجي التجارة العالمية عام 2001؛ فقبل هذا التاريخ احتلت هذه الدولة بهدف إسقاط حكومة “طالبان” ومواجهة تنظيم “القاعدة” في جبال تورا بورا وتنصيب حكومة مدنية، والآن تخرج من أفغانستان بينما لم تقض على “طالبان” وإن أسقطت حكمها قبل عشرين عاماً، وما زالت “القاعدة” تدير عملياتها من أفغانستان وتتخذها مقراً لقيادتها، برغم أن أميركا نجحت في قتل زعيمها السابق أسامة بن لادن بعد 10 سنوات من طلب استهدافه!

الكارثة باختصار شديد أن أميركا بقوتها فشلت في تحقيق هدفها في حرب استمرت 20 عاماً، فـ”طالبان” ما زالت موجودة وتتفاوض معها أميركا، وقررت الانسحاب بعد تعهدات لم تلتزمها حركة “طالبان” ولن تلتزمها، فضلاً عن خروجها من أفغانستان التي يعيش فيها أيمن الظواهري وقيادات “القاعدة” من دون أن تصل اليهم أو تقضي عليهم، الانهزام والانكسار الأميركيان يبدوان واضحين، لكن الكارثة الأكبر هي أن أفغانستان سوف تصبح عاصمة الإرهاب من جديد، أمام تدشين دولة “طالبان” الجديدة بعد 20 عاماً من الحرب عليها، وهنا تهديد “القاعدة” و”طالبان” سوف يطاول العالم بأكمله وليس الحدود الجغرافية لأفغانستان.

الولايات المتحدة أرادت أن تحول كارثة ضرب برجي التجارة العالمية وأجزاء من البنتاغون ذكرى يتأذى منها العالم بأكمله، عبر تمكين حركة “طالبان” و”القاعدة” من أفغانستان، فكل المؤشرات تذهب إلى أن دولة “القاعدة” و”طالبان” يتم طبخها الآن، كما يتم تجهيز أعلامهما التي ترفرف على عاصمة الإرهاب الجديدة، وهنا تبدو معركة المجتمع الدولي أصعب بكثير من معركته السابقة للقضاء على مملكة “داعش” في الرقة والموصل والتي استمرت خمس سنوات كاملة، ويا ليتها قضت على التنظيم بالكامل، فما زالت خلاياه تضرب المكان الذي أعلنت واشنطن أنه حُرّر.

الكارثة التي يفيق عليها العالم لا ترتبط بمجرد تقصير في مواجهة تنظيم محلي أو إقليمي، بل إتاحة فرصة لتنظيم سبق وسيطر على السلطة ويرى قوته في وجود التنظيمات الدينية الأكثر تطرفاً مثل “القاعدة”، ويرى دوره أيضاً في دعم كل تنظيمات الإسلام السياسي المسلحة في العالم، وبالتالي سوف يعيد عمليات التدريب والاحتضان والدعم لهذه التنظيمات من جديد، ولكن علناً، وهنا سوف تحتل “القاعدة” و”طالبان” ما نجح فيه تنظيم “داعش” منذ أن أعلن دولته في 29 حزيران (يونيو) عام 2014، وهو ما يمثل خيبة أمل لكل من يحمل مشروعاً لمواجهة الإرهاب العالمي، الخطورة الحقيقية في تحول أفغانستان مركزاً للجهاد العالمي وانطلاق العمليات المسلحة لتنظيمات الإسلام السياسي إلى كل دول العالم من هذه الدولة التي يتم إعدادها وتأهيلها لهذه المهمة.

مبررات الولايات المتحدة بخصوص استمرارها في مواجهة أي خطر تمثلة “القاعدة” و”طالبان”مفهومة، ولكن غير متفهمة؛ فكل ما قالته واشنطن من أنها سوف تواجه خطر هذه التنظيمات عن بعد أمر غير متصوّر من الناحية العسكرية، ومكلف للغاية ولن يثمر أي نتائج مرجوة، فالتي فشلت في القضاء على زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري وقواتها منتشرة في أفغانستان لن تقضي عليه بعد الانسحاب، هذه القوات نفسها لن تكون قادرة على مواجهة خطر “طالبان” الذي فشلت في مواجهته على مدار عشرين عاماً من وجود قواتها على الأراضي الأفغانية.

معركة الإرهاب تشهد تراجعاً بعد انسحاب أميركا من أفغانستان، ودلالة هذا الانسحاب في ما استقر لدى هذه التنظيمات التي تشعر بالفخر والانتصار، وهو ما سوف يدفعها إلى مواصلة القتال ضد أميركا والأنظمة العربية والأوروبية، فانتصارها على أميركا، بحسب ما تترجمه هذه التنظيمات، سوف ينعكس على مواصلة القتال ضد دول العالم لتكراره، فنحن هنا أمام عقيدة قتالية لهذه التنظيمات تأخذ قي التنامي بسبب القرار الأميركي بالانسحاب.

نجحت “طالبان” في احتلال مديريات جديدة قبل خروج القوات الأميركية، وكأنها تريد أن تصل رسالتها الى العالم، بأن الخروج الأميركي ليس إلا استسلاماً وهزيمة، وأنها تحتل بقواتها مناطق استراتيجية في شمال أفغانستان قبل الانسحاب الأميركي ومن دون مواجهة، فكلما سيطرت “طالبان” على أراض أفغانية بخلاف تعهداتها السابقة، لم يغير هذا شيئاً من القرار الأميركي بالانسحاب، وهو دليل هزيمة وانكسار وخضوع لإرادة “طالبان” التي انتصرت بعد حرب العقدين.

تبعات الانسحاب سوف تظهر خلال أول عام من خروج القوات الأميركية، كما أن “طالبان” سوف تسيطر على أفغانستان بالكامل خلال عامين من دون أي منازع، وسوف يخوض العالم مواجهة إرهاب “القاعدة” و”طالبان” بعدما واجهه في دولة “داعش”، ولكنها سوف تكون مواجهة أصعب لعاملين، أولهما أنهما سوف يستفيدان من التجارب السابقة، سواء ما تعرضا له أو ما حدث لدولة “داعش”، وهنا يبدو إسقاط هذه الدولة أصعب بكثير مما عاناه المجتمع الدولي عندما قرر إسقاط “داعش”، فضلاً عن الدعم والتأييد الذي تتلقاه دولة “طالبان” من بعض الدول التي سمحت بإقامة سفارات لها، واضطرت هذه الدول للتعامل مع “طالبان” بهدف الحفاظ على مصالحها واستثماراتها الاقتصادية، وهو ما يعزز من قوة الدولة “الوليدة”، سواء الاقتصادية أم السياسية أم العسكرية.

أميركا تعيد بسياستها دولة “طالبان” التي أسقطتها من عشرين عاماً، كما تعيد بناء قدرات “القاعدة” التي سبق ودعمت مقاتليها الذين أنشأوا بناءها التنظيمي في الحرب الأفغانية عام 1979، أميركا تحمل رؤية مشوشة في مواجهة الإرهاب قد تنذر بعواقب وخيمة على العالم، ولعل هذه الكلمات تدق ناقوس الخطر للإرهاب القادم من أفغانستان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى