منى قشطة: عملية نوعية دلالات هجوم داعش على ولاية بونتلاند في الصومال
نفّذ تنظيم داعش في 31 ديسمبر 2024، هجومًا نوعيًا، استهدف قاعدة عسكرية في منطقة بونتلاند شمال شرق الصومال، ما أسفر عن مقتل نحو 20 شخصًا وإصابة آخرين. وقد أعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجوم في اليوم التالي في بيان بثّته وكالة أعماق الإخبارية الداعشية. فيما أعلنت قوات بونتلاند تمكنها من صد الهجوم، وقتل جميع مُنفذيه. وفي ضوء حرص تنظيم داعش مؤخرًا بشكل لافت على تنفيذ هجمات نوعية مؤثّرة تكون تفاصيل وتكتيكات تنفيذها على درجة عالية من الدقة، وتنطوي على جملة من الرسائل والأهداف التي يُريد إيصالها، تُقدم هذه الورقة رؤية تحليليّة حول الهجوم المذكور، من خلال تشريح كيفية تنفيذه، والوقوف على أبرز الرسائل والدلالات التكتيكية والزمانية والمكانية التي يمكن استنباطها من المعلومات المُتوفرة بشأنه.
تشريح الهجوم
جاء الهجوم على غرار تكتيك “الهجوم الانغماسي” – أحد التكتيكات الرائجة التي ينتهجها داعش لإحداث تأثيرات واسعة النطاق – حيث قام 12 من مُقاتلي التنظيم مُسلحين بـرشاشات خفيفة ومتوسطة وقذائف صاروخية وقنابل يدوية وأحزمة ناسفة بتنفيذ الهجوم بشكل مُركّب، بدأ بتفجير انتحاري بسيارة مُفخخة في مقر إمداد لقوات بونتلاند بقرية درجالي بمنطقة إسكوشوبان، تلى ذلك قيام 5 انغماسيين من التنظيم بمهاجمة تمركز للقوات قرب مقر الإمداد بعد التفجير الأول، فيما قام انتحاريان آخران بقيادة سيارة مُفخخة ثانية، وفجراها في مُعسكر رئيس القوات، تبع ذلك اقتحام 4 انغماسيين للمعسكر واشتبكوا مع قوات الأمن. وتُثبت التفاصيل المذكورة أن الهجوم جاء على درجة عالية من الدقة والتدريب والإعداد المُسبق للتنفيذ، وكذا الانسجام المُمنهج في تحركات العناصر المنفذة له.
كما لوحظ أن مُنفذّي الهجوم ينحدرون من 7 جنسيات مُختلفة عربيّة وأفريقيّة (من بينها: اليمن، تونس، المغرب، الجزائر، تنزانيا)، وهنا يمكن الوقوف على عدد من الملاحظات الهامة: أولها، حرص داعش على أن تكون هويات وعرقيات وجنسيات منفذي هجماته حاملةً لرسائل عديدة. وفي الهجوم موضع التحليل يرغب التنظيم في استعراض تنوع جنسيات عناصره، وجاذبية أيديولوجيته لدى أتباعه في شتى أنحاء العالم، ولذا كان حريصًا على إبراز معلومة تعدد جنسيات منفذي هجوم بونتلاند في التفاصيل التي أعلنها بعد الهجوم، وكذا قامت منصاته الإعلامية بنشر صورًا لهم بأسمائهم وجنسياتهم. وثانيها، يُؤشّر تنوع جنسيات منفذي هجوم بونتلاند إلى “ازدواجية هيكل ولاية داعش الصومال الجامعة بين العناصر المحلية والأجنبية”، ما يُسهم من الناحية الاستراتيجية في تعزيز قدرتها على البقاء والتكيف بسرعة مع الضربات الأمنيّة التي تتلقاها سواء من قوات الأمن الصومالية، أو من منافسها الجهادي الرئيسي (حركة الشباب الصومالية التابعة لتنظيم القاعدة).
وثالثها، يُستدل من هويّة مُنفذي هجوم بونتلاند المتنوعة، على امتلاك داعش لشبكة مُيسرين ومُهربين قويّة تُتيح له نقل عناصره من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للقتال في صفوف فرعه بالصومال. ويعزز من صحة هذه الفرضية، إعلان شرطة بونتلاند خلال عام 2024 عن إلقاء القبض على بعض العناصر الداعشية حملة الجنسيات الأجنبية، إلى جانب وجود تقارير أممية حديثة تُفيد بأن فرع داعش الصومال شهد نموًا مُتزايدًا وتضاعفت أعداده (600 – 700 مقاتل) بسبب تدفق المقاتلين الأجانب من الشرق الأوسط وأفريقيا (لاسيما من سوريا واليمن وإثيوبيا، والسودان، والمغرب، وتنزانيا) إلى بونتلاند الصومالية باستخدام الطرق البحرية والبرية. وقد أسهم تدفق هؤلاء في تطوير القدرات العسكرية للتنظيم وتعزيز وضعه الميداني بشكل لافت خلال عام 2024، خاصة في جبال ميكساد في بونتلاند. ومن المرجح أن يستغل داعش التطورات الأخيرة الحاصلة على الساحة السورية في نقل المزيد من عناصره إلى ولاية الصومال خلال الفترة المُقبلة، وربما يستغل التنظيم كذلك وجود عناصر أجنبية في صفوفه لتوسيع نطاق نشاطه خارج الجغرافيا الصومالية، ليشمل دولًا أخرى.
دلالات عديدة
ينطوي هجوم تنظيم داعش الأخير في ولاية بونتلاند الصومالية على جملة من الدلالات المرتبطة بالسياق الذي نُفذ فيه، ويمكن الوقوف على أبرز ها كالتالي:
• تحدي جهود مكافحة التنظيم: يأتي الهجوم في خضم كثافة التحركات العسكرية لقوات بونتلاند خلال الأيام الماضية، استعدادًا لشن عمليات أمنية موسعة ضد مسلحي داعش الذين يتخذون من المناطق الجبلية ملاذًا لهم، وعليه، يرسل التنظيم من وراء اختيار توقيت هجومه الأخير رسالة تفيد بقدرته على الصمود أمام الضربات الأمنية، ويستغل ذلك لصالح إثبات عجز الحكومة الصومالية عن توفير الأمن، بما يسهم في شحن معنويات أعضاءه من ناحية، ويحفز المزيد من العناصر على الانضمام لصفوفه من ناحية أخرى.
• التنافس على النفوذ: يتزامن الهجوم مع مرحلة تشهد فيها أفرع داعش المختلفة حالة من الصحوة العملياتية في مناطق انتشارها، كفرع موزمبيق، وفرع خراسان، وعليه، فثمّة أبعاد تنافسية يُمكن قراءتها في حسابات وأهداف داعش الصومال من وراء تنفيذ هجمات نوعية مركبة على غرار الهجوم موضع التحليل؛ حيث يتنافس مع باقي أفرع داعش لتأمين المزيد من الدعم والموارد، وكذا مع باقي التنظيمات الإرهابية الأخرى النشطة في أفريقيا وفي مقدمتها خصمه المباشر، حركة الشباب المجاهدين التابعة لتنظيم القاعدة.
• مساعي إثبات الحضور وفعالية النشاط: يندرج هجوم بونتلاند مُضافًا إلى بعض الهجمات الأخرى التي نفذتها أفرع وخلايا داعش مؤخرًا – كحادث الدهس الذي شهدته مدينة نيو أورليانز الأمريكية يوم 1 يناير – ضمن مساعي تنظيم داعش لإثبات حضوره القوي في خارطة النشاط الجهادي لعام 2025، وقدرته على تنفيذ هجمات نوعية، وحشد أعضائه ومؤيديه لضخ دماء جديدة في صفوفه، خاصة بعد أن تعرض خلال عام 2024 المُنقضي، لعمليات استهداف كبدته بعض الخسائر في موارده المالية وكوادره القيادية، ما جعل التنظيم في حاجة إلى شن هجمات كبيرة تثبت قدرته على الاستمرار رغم ما يتلقاه من ضربات، وتُشكل رافعة معنوية لأعضائه وعناصره للاستمرار في ولائهم له.
• تصاعد مخاطر ولاية الصومال: يُضاف هجوم بونتلاند إلى جملة المؤشرات الدالة على تصاعد المخاطر المرتبطة بعودة نشاط تنظيم داعش في الصومال، والتي تم رصدها من خلال متابعة تطورات التحركات الميدانية للتنظيم خلال عام 2024، ويأتي في مقدمتها تمكّن داعش من إعادة ترتيب صفوفه في مناطق سلسلة جبال المكساد الممتدة من الشرق إلى الشمال في الصومال، مُستغلًا تراجع العمليات العسكرية المحلية والدولية ضد معاقله بالصومال، وحالة الانشغال الدولي الراهنة في بؤر الصراع المختلفة، وكذا تراجع نفوذ حركة الشباب بسبب الضغوط العسكرية الحكومية في الأقاليم الجنوبية في الصومال، والتي دفعتها إلى سحب مقاتليها من المناطق الشمالية لتعزيز جبهة مقاومتها ضد القوات الحكومية، ما أتاح للتنظيم فرصة ومساحة حركة للتحرك والسيطرة على جبال المكساد بعد دخوله في عدة معارك مع الحركة. كما زاد نفوذ داعش في مدينة بوساسو الساحلية والقرى النائية المُحيطة بها في منطقة قندلة. وبشكل عام، ساعدت التضاريس الوعرة في شمال الصومال تنظيم داعش على توفير مخابئ ومعسكرات تدريبية لمقاتليه، وأعطته ميزات تكتيكية عززت من قدرته على المناورة في معاركه مع الجيش وحركة الشباب.
ورغم أن معدلات النشاط العملياتي لفرع داعش الصومال تبدو محدودة، إذا ما قورنت بأفرع داعش الأخرى، غير أنه يتفوق في درجة المخاطر والتهديدات المرتبطة به. ولا تقتصر تلك المخاطر على منطقة القرن الإفريقي فحسب، بل تمتد كذلك على الصعيد العالمي، وذلك إذا ما اخذنا في الاعتبار أن الصومال أصبحت منذ عام 2022 موطنًا لمكتب الكرار (أحد المكاتب الإقليمية التسعة التابعة لداعش، والمسؤولة عن تقديم وتوجيه الدعم المادي واللوجيستي لأفرع التنظيم المختلفة)، ويعتبر هذا المكتب – على وجه التحديد – أكثر مكاتب داعش قوة، ويعمل بشكل لا مركزي، يُصعّب من محاولات ضربات قوات الأمن لتعطيل نشاطه. ورغم أن عدد عناصر ولاية داعش الصومال صغيرة نسبيًا – عند مقارنتها مع بعض أفرع داعش الأخرى – إلا أن ذلك أعطاها ميزة نسبية من الناحية التمويلية، إذ ساعدها على توفير الدعم المادي لها، ووفر فائض في الإيرادات لتصدريها لباقي الأفرع من خلال مكتب الكرار.
• توسيع النشاط العملياتي: يتبيّن من مُتابعة حالة فرع داعش الصومال خلال الأعوام الماضية، أن نشاط التنظيم كان يغلب عليه الطابع القيادي أو الإداري ممثلًا في عمله كقاعدة رئيسية لجمع الأموال للتنظيم، وحلقة وصل نشطه بين أفرعه المُختلفة، أكثر من اهتمامه بشن هجمات ميدانية كباقي أفرع داعش. غير أن هجوم بونتلاند، وطبيعة نشاط التنظيم خلال عام 2024، وبعض النجاحات الميدانية التي حققها – حتى وإن كانت محدودة مُقارنةً بالوضع الميداني لحركة الشباب القاعدية – ربما تُؤشّر على اتباع داعش الصومال لاستراتيجية جديدة في الوقت الراهن، يركز فيها على تكثيف نشاطه ذو الطابع الحركي، جنبًا إلى جنب مع ممارسة دوره الأهم في ضخ الموارد المالية للأفرع المختلفة.
ختامًا،
يشهد نشاط داعش بأفرعه المختلفة صحوة عملياتية لا تقل خطورة عن مرحلة ذروة نشاط التنظيم عند نشأته قبل عقد من الزمن، وليس من قبيل المبالغة القول إن هذا الاتجاه سوف يشهد منحى صاعدًا خلال المرحلة المقبلة في ضوء استمرار المتغيرات الدولية والإقليمية المحفزة لهكذا صعود وفي مقدمتها استمرار بؤر التوتر والصراع في مناطق جغرافية عديدة أبرزها الحرب في غزة والحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن الانشغال الدولي بالصراعات الجيوسياسية على حساب الجهود المعنية بمكافحة الإرهاب، وتُعتبر الساحة الصومالية أحد المسارح المرشحة بقوة لتنامي النشاط الإرهابي ليس فيما يتصل بتنظيم داعش فحسب، وإنما فيما يتعلق أيضًا بتصاعد تهديد حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة التي تسعى هي الأخرى لتعزيز نفوذها على الساحة الجهادية في الصومال.