أقلام وأراء

مقال بقلم د. لبيب قمحاوي لعبة الكلمات المتقاطعة : العرب والإسلام وفلسطين


د. لبيب قمحاوي
* سيا سي واكاديمي اردني* القدس العربي * 2012-11-27

ما يجري الآن على الساحة العربية والإقليمية من تطورات يؤشر إلى مرحلة مقبلة من الأزمات والتغييرات التي قد تعصف بالمشهد العام في المنطقة ويعيد تشكيله وبالتالي يعيد تشكيل التحالفات وموازين القوى الإقليمية. وهذا يتطلب مراقبة ما يجري في كل دولة مؤثرة في الإقليم على حدة وتقييم أثر التطورات الداخلية فيها على الوضع الإقليمي وبالعكس. ويُخشى أن يؤدي عدم وضوح اتجاهات هذه التطورات إلى الإطاحة بالأهداف المنشودة للربيع العربي، كون الأمور لم تحسم حتى الآن بشكلها النهائي المنشود وهو انتصار الديمقراطية وسيطرتها على واقع الأمور في الدول المعنية. فالوضع في سوريا لم يحسم حتى الآن والحسم لا يلوح في الأفق ولا يوجد على ما يبدو حل نظيف للمعضلة السورية. والوضع الفلسطيني خرج من سبات مقلق ليتحرك في اتجاهات لا يعلم أحد إلى أين منتهاها. والوضع في الأردن يقفز من أزمة إلى أزمة مع إصرار خارجي واضح على إبقاء الحكم في حالة قوية ومتماسكة نظراً لارتباط وجوده بقضايا أخرى إقليمية أكثر أهمية من حقوق الأردنيين. أما في مصر التي خرجت أخيراً من أزمة غزة بمؤخر الصداق الفلسطيني الغزاوي كاملاً لا نقص فيه، فإن التطورات الأخيرة قد عجّلت في الصدام المتوقع بين القوى الإسلامية الحاكمة والمجتمع المدني المصري واختلطت الأمور بين من يعتبر ذلك تسرعاً من قبل الرئيس مرسي لاستغلال النجاح الدولي الذي حققه في تعامله مع ملف غزة ورغبته في قطف الثمار مبكراً حتى لو كانت تلك الثمار فجة ضروساً، وبين من يعتقد أن ما فعله مرسي كان جزءاً من صفقة متفق عليها مع الأطراف الإقليمية والدولية.

أمور شائكة ومتشابكة تتطلب وعياً وإلماماً بطبــــيعة العلاقة التي تربط أطراف المعادلة الإقليمية الظاهر منها والخفي.

دعونا ننطلق معاً في محاولة لفهم واستيعاب حقيقة ما يجري في دول التغيير العربي وتـَرَابُطِه مع أطراف المعادلة الإقليمية والأهداف المتوخاة من كل ذلك.

الأردن، وهو الطرف الأضعف والأفقر قد يكون أكثر أهمية في المعادلة الإقليمية نظراً لموقعه الجغرافي المتوسط من جهة، ولكونه المدخل والحاضنة لأي محاولة لفرض حل دولي لقضية فلسطين وهي القضية الأهم في العالمين العربي والإسلامي، من جهة أخرى. إن ما يجري الآن في الأردن، على قلة أهميته في الموازين الواقعية للدول الفاعلة في المنطقة، يبقى مرتبطاً بشكل رئيسي فيما هو مخطط للأردن للقيام به. وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن النظام في الأردن يشعر بنوع من المنعة والقدرة على مقاومة الضغوط الداخلية للإصلاح، وعلى التلاعب بالمطالب الشعبية وإعادة تشكيلها بما يناسبه انطلاقاً من قناعته بأن الضغوط الخارجية والإقليمية على الأردن للانخراط في عملية إصلاح حقيقية سوف تكون ضغوطاً شكلية كون الأولوية هي لبقاء النظام قوياً بدرجة كافية لتمرير ما هو مطلوب منه خارجياً، والذي قد يشمل، بالإضافة إلى الملف السوري آنياً، وتسوية ما في الضفة الغربية سوف تكون بالتأكيد على حساب الفلسطينيين والأردنيين. وما جرى ويجري في غزة الآن وعلاقتها مع مصر قد يكونا أمرين ليسا ببعيدين عن أهداف هذا المسار.

إن إنشاء مظلة إسلامية عربية تستبدل المظلة القومية العربية جاء منسجماً مع الرؤيا الإقليمية والدولية التي ارتأت أن تخلق نمطاً جديداً من التحالفات مع التيارات الإسلامية التي تعكس واقع التغييرات التي أعقبت ثورات الربيع العربي. وقد ساهم في تكريس ذلك الاستعداد المبكر الذي أبدته بعض الحركات الإسلامية، خصوصاً في مصر وإلى حد ما في قطاع غزة، للتعامل الإيجابي مع الرؤيا الأمريكية المتعلقة بإسرائيل وأمنها. وقد حاز النظام الإسلامي في الدولة الأكبر والأهم وهي مصر على شهادة حسن سلوك أمريكية وغربية في أقل من عام وهو أمر لا يمكن تجاهله أو إنكاره. وقد جاء هذا منسجماً مع هدف الالتفاف على صعوبة ودقة وضع القضية الفلسطينية من خلال خلق كيانات أكبر تستطيع تدريجياً استيعاب أوصال الوطن الفلسطيني المبعثرة قطعة قطعة ضمن هوية ومظلة أوسع من الهوية الوطنية الفلسطينية وبما يؤدي في النتيجة إلى حل المشكلة الإسرائيلية عوضاً عن حل القضية الفلسطينية.

إن أي حل للقضية الفلسطينية يتطلب التعامل المباشر مع المكونات الأساسية لهذه القضية وأهمها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق السيادة الوطنية الكاملة للشعب الفلسطيني على أرضه وممارسة حق العودة. أما حل المشكلة الإسرائيلية فيتطلب بكل بساطة الالتفاف على تلك المكونات بشكل يؤدي إلى الاكتفاء بالإعلان عن حل القضية الفلسطينية عوضاً عن حلها فعلاً وذلك من خلال تطبيق سياسة الإلحاق، أي إلحاق ما تبقى من الأراضي الفلسطينية بكيانات سياسية عربية أخرى أو إعادة إحياء الروابط الخاصة التي كانت سائدة عشية حرب 1967 والتي تهدف إلى إعادة ربط بعض تلك الأراضي ببعض تلك الدول. وبحديث آخر قطاع غزة مع مصر وأشلاء من الضفة الغربية مع الأردن.

إن إعادة خلق وتكريس العلاقة الخاصة بين مصر وقطاع غزة لا يأتي الآن، كما كان عليه الحال، ضمن سياق الرابطة القومية العربية والتي شكلت مظلة لشعوب الأمة العربية، ولكنه جاء هذه المرة ضمن سياق الرابطة الإسلامية بين نظامي حكم إسلاميين في مصر وفي قطاع غزة!

لقد جاء انتقال حركة حماس المبكر من الحضن السوري إلى الحضن القطري هاماً واستراتيجياً باعتباره لبـــنة أساسية في أي ترتيب إقليمي مقبل. فحركة فتـــح التي أفسدتها السلطة وأهلكها الترهل والفساد المالي والسياسي والاسترسال في مسلسل التنازلات المجانية لصالح إسرائيل أصبحت تمثل الماضي، في حين أن حركة حماس أصبحت تمثل المستقبل وإرادة المقاومة التي ضربت إسرائيل بصواريخها في العمق. لا يستطيع أحد أن يزاود على حركة حماس الآن تماماً كما كان وضع حركة فتح وياسر عــــرفات عشية أوسلو بفضل الانتفاضة الفلسطينية. ولكن حماس، على ما يبدو، لم تتعظ من دروس حركة فتح التي أكلها الإسرائيليون لحماً ورموها عظماً، وهي تسير الآن في نفس المسار مستندة إلى سمعتها المقاومة ومحمية بمظلة إسلامية تنطلق من أكبر دولة عربية.

تسير الأمور الآن، وإن كان بشكل مستتر، في اتجاه خلق معسكر إسلامي ملتزم بالرؤيا الأمريكية في احترام اتفاقيات السلام مع إسرائيل مع السماح لذلك المعسكر بأن يتعامل مع هذا الالتزام بشكل لبق وغير محرج. وفي هذا السياق سارعت أمريكا في إدانة لفظية لحماس في العدوان الإسرائيلي الأخير، ولكنها اتخذت مع حلفائها في المنطقة وعلى رأسهم قطر وتركيا إجراءات سريعة وعلى الأرض لدعم دور مصري فاعل وناجح في التوسط لوقف إطلاق نيران بين حركة حماس وإسرائيل ساهم في تعزيز الوضع الشعبي والاعتباري لحركة حماس وبالتالي تعزيز قدراتها على التوصل إلى اتفاق ما مع إسرائيل دون اتهامها بالتفريط أو ما شابه ذلك.

مصر الإسلامية أعلنت التزامها بقطاع غزة الإسلامي. وإعادة العلاقة بينهما كما كانت قبل عدوان عام 1967 أصبحت بذلك أكثر احتمالاً ومنطقية وإن اختلفت التفاصيل. فقطاع غزة الفلسطيني سوف يصبح سياسياً أقرب إلى مفهوم قطاع غزة المسلم والذي سيكون امتداده السياسي والسكاني داخل الأراضي المصرية وباتجاه واحد فقط بالرغم من نفي الرئيس محمد مرسي في خطابه المرتجل يوم الجمعة الموافق 23/11/2012 عندما أكد أن سكان قطاع غزة موجودون على أرض قطاع غزة وليس في أي مكان آخر (أي في صحراء سيناء). وهو بذلك كان أقرب في حديثه إلى المثل العربي القديم الجديد القائل: ‘كاد المريب أن يقول خذوني’. إن إعادة إحياء هذه الرابطة سوف تعزز الانقسام الفلسطيني إلى الأبد. فإسرائيل غير راغبة في الاحتفاظ بقطاع غزة ولكنها راغبة في تهويد وهضم معظم أراضي الضفة الغربية باستثناء مناطق التجمعات السكانية الفلسطينية مما يؤدي إلى تقطيع أوصالها. وهكذا فإن الانقسام الواقعي فلسطينياً والمنشود إسرائيلياً سوف يترك هذه الأشلاء في مهب الريح إلا إذا تم إلحاقها بكيان سياسي آخر تربطه بإسرائيل اتفاقية سلام، وهو في هذه الحالة الأردن. معادلة شيطانية يتم التخطيط لها أمريكياً وإسرائيلياً.

ومن المعلوم أن مثل هذا المخطط كان لا يمكن تنفيذه في ظل وجود سوريا القوية المتعافية ذات الحضور الإقليمي القوي الذي يعتبر ما يجري في فلسطين جزءاً من الأمن القومي السوري. وهكذا أصبح إضعاف سوريا وإنهاكها إلى حد الاستنزاف الكامل أمراً أساسياً وضرورياً لإنجاح هذا المخطط. ومن العجيب أن النظام السوري قد خانته الحصافة في فهم مجريات الأمور نتيجة أنانيته المفرطة حيث أخذته العزة بالإثم من خلال رفضه إعطاء أي تنازلات حقيقية للشعب السوري المطالب بالديمقراطية وتداول السلطة وسيادة القانون والشفافية وبالتالي إنقاذ سوريا من أتون الحرب الأهلية.

ما يجري الآن أساسه الجوع إلى السلطة إلى حد الكفر بالثوابت. وكل ما نحن فيه الآن أساسه غياب الديمقراطية التي يحد تداولها للسلطة من جموح الحكام نحو ارتكاب المعاصي للاحتفاظ بالسلطة. واستعمال مظلات متنوعة لخدمة هدف واحد هو فن أجادت إسرائيل استغلاله في التعامل مع كل العرب. مظلة العروبة ومظلة الإسلام ومظلة النفط كان من المفروض أن تكون مظلات لتعزيز وضع الأمة وليس وسيلة للقفز فوق مصالحها. والنفط الذي هو مصدر الخير للشعوب الأخرى التي تملكه أصبح وبالاً ووسيلة لقهر إرادة الأمة وشراء ذمم أبنائها. ولكن يبقى السؤال، ما الجديد في كل هذا؟ شيء واحد بالتأكيد ان الأمور تزداد سوءاً وانتصار شعب مصر في مسعاه نحو الديمقراطية الحقيقية والفاعلة أصبح أمراً مصيرياً ليس لمصر فقط ولكن للأمة العربية كلها. ففي مصر البداية ومن مصر النهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى