أقلام وأراء

معين الطاهر يكتب – المظلم والمضيء في المشهد الفلسطيني

معين الطاهر*- 30/6/2021

قبل الدخول إلى عصر الديجتال والرقمنة، والولوج إلى عالم التصوير الإلكتروني، كانت أفلام التصوير هي السائدة، وكنا لا نحصل على الصورة المضيئة البرّاقة، بجمالها وألقها، إلاّ بعد “تظهيرها” عن نسخةٍ سوداء مظلمة تُسمّى “النيغاتيف”. وفي علم الثورات، معلومٌ أنّ الثورة لا تندلع وسط مجتمع العدالة والحرية المضيء، وإنّما تنطلق من الواقع الفاسد المظلم سعياً إلى تغييره، كما الشمس التي لا تشرق إلاّ بعد ظلام حالك.

بماذا نبدأ؟ بالجانب المظلم، أم المضيء؟ بالصورة الجميلة الواعدة، أم النيغاتيف الأسود الذي لا نلمح فيه إلاّ ظلالاً؟ سؤال توارد على الذهن قبل كتابة هذا المقال، إلى أن جاء خبر اغتيال نزار بنات ضرباً على أيدي مجموعة من الأمن الفلسطيني، دهمت بيتاً لأقاربه كان ينام فيه، في الساعة الثالثة والنصف فجراً، في منطقة جبل جوهر، جنوب الخليل التي تقع ضمن منطقة H-2 التي يُمنع على الأمن الفلسطيني دخولها، إذ تخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة. وهنا يبرز سؤال حول كيفية تمكن 27 فرداً من منتسبي الأجهزة الأمنية من دخول تلك المنطقة، بكامل عدّتهم وعتادهم! واللافت أنّهم لم يقرعوا باب المنزل، ولم يطلبوا إذناً لدخوله، وإنّما دخلوه على طريقة وحدات المستعربين والقوات الخاصة الإسرائيلية عند اقتحامها منازل المطلوبين الفلسطينيين المسلحين بتفجير أبوابها.

“معلومٌ حجم التنسيق بين الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال”.

معلومٌ حجم التنسيق بين الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال. ومنذ توقف الجولة العسكرية أخيراً، ازدادت وتيرة اعتقال الأجهزة الأمنية الناشطين الفلسطينيين بشكل واسع، لتشمل المئات، في محاولة استعادة سيطرتها وهيبتها بعد الهبّات الشعبية الواسعة التي رافقت معركة سيف القدس، ومن لم تعتقله أجهزة السلطة الفلسطينية اعتقلته السلطات الإسرائيلية.

نزار بنات، شخصية وطنية مستقلة، لا ينتمي إلى أيّ فصيل. يُقال إنّه كان ينتمي سابقاً إلى حركة “فتح” لكنّ المعروف عنه أنّه قومي بأفكاره، راكم شعبية جماهيرية عبر انتقاداته المتلاحقة ممارسات السلطة الفلسطينية، ما أدى إلى اعتقاله ثماني مرات، وقضى شهوراً طويلة في زنازين الأجهزة الأمنية. ترشّح لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وشغل المقعد الثاني على قائمة الحرية والعدالة التي شكّلها ناصر القدوة ومروان البرغوثي. وخلال هذه الحملة، أُطلقت النار على منزله في مدينة الخليل. وفي الأيام الأخيرة تلقي تهديدات علنية بتصفيته، بعدما نشر تعليقاتٍ تنتقد فساد مسؤولين في السلطة في قضية لقاحات كورونا، مستعيداً حادثة اختطاف مسؤول الاستخبارات العسكرية في منظمة التحرير الفلسطينية أيام بيروت، عطا الله عطا الله (أبو الزعيم) المعارض السعودي ناصر السعيد، وتسليمه للسلطات السعودية.

قد نتفق مع نزار بنات في ما قاله، أو نختلف مع بعض ما ذهب إليه، لكننا حتماً ندافع عن حقه وحق غيره في التعبير عن آرائهم بحرية كاملة، وندين الاعتقال السياسي، والاغتيال، والتعذيب، والقمع، من أيّ جهةٍ كانت، ولا تزر وازرة وزر أخرى؛ فلا نصمت عن إدانة الاغتيال إذا لم نوافقه الرأي أو الموقف، ولا نصمت عنه بذريعة الانتماء الفصائلي. ولا نبرّر أفعال سلطة رام الله بذريعة أنّ سلطة غزة قد ارتكبت أفعالاً مشابهة، فالموقف من الحرية والكرامة لا يتجزأ، ولا يتغيّر بتغير الجهة والمكان، فما عاد ثمة مجال للصمت. ولم يكن جيلنا يحلم بأنّ فلسطين ستغدو على هذه الحال، فقد عشنا في زمن الثورة ديمقراطية غابة البنادق، وفي زمن الردّة عن الثورة نعيش التنسيق الأمني مع العدو، وقمع الشعب، وامتهان كرامته. ولعلّ الكاريكاتير الساخر الذي يصوّر مواطناً فلسطينياً معصوب العينين، يُقاد إلى الاعتقال في الأرض المحتلة، وهو يتساءل عن هوية الجهة التي تعتقلته؛ هل هي الاحتلال أم أجهزة السلطة، قد تجاوز الخيال إلى الحقيقة المرّة.

“إسقاط الرئيس عباس، وتغيير وظيفة السلطة، ووقف التنسيق الأمني، وعزل رموزه شعبياً، لا تتم بالدعوة إلى تقسيم الصفوف”.

تدحرج حدث اغتيال نزار بنات، مثل كرة ثلج تكبر كلّ يوم عن سابقه، ويساهم في ذلك سوء أداء السلطة، وقمعها المستمر المتظاهرين السلميين، والذي طاول الصحافيين أيضاً، وعدم اتخاذها أيّ إجراءاتٍ من شأنها أن تطمئن الجمهور، عن عزمها الإفراج عن المعتقلين، ووقف حملات الاعتقال، أو وقف قمع التظاهرات، وتوقيف المتهمين بجريمة الاغتيال على ذمّة التحقيق، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة. على العكس من ذلك، بادرت السلطة إلى اتهام المتظاهرين السلميين بنيّتهم حرق الممتلكات وتخريبها، وإقحام حركة “فتح” في هذه المسألة عبر تنظيم مسيرات مضادّة تشتبك مع تظاهرات الاحتجاج، والتلويح بنزول عناصرها إلى الشارع، بذريعة حماية ما يصفونه بالمشروع الوطني، وتهديد المتظاهرين بالويل والثبور وعظائم الأمور، واتهامهم باتّباع أجنداتٍ خارجيةٍ تستهدف سرقة منظمة التحرير، والانقلاب على السلطة، وهي الاتهامات الممجوجة ذاتها التي دأب النظام العربي على إطلاقها ضد خصومه، ما يؤدّي إلى زيادة حدّة الاستقطاب، وتأجيج الفتنة، ورفع وتيرة الانقسام الداخلي. وترافق ذلك مع حملات الذباب الإلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي التي تُذكي هذه الفتنة، فتارّة يصدُر بيانٌ مجهول المصدر، موقّع باسم عشائر القدس، يقرّر منع عناصر حركة “فتح” من دخول المدينة، وتارة أخرى يظهر منشور يشير إلى أولئك الذين طُردوا من عمّان وبيروت وتونس، وقس على هذا المنوال ما تزدحم به مواقع التواصل، والتي لا يخفى على قارئٍ نبيه أنّها من صنع العدو الصهيوني وأعوانه.

نعم، من حق المتظاهرين أن يطالبوا بمحاكمة القتلة، ورحيل الرئيس محمود عباس، ووقف التنسيق الأمني، وحلّ السلطة، أو تغيير وظيفتها، وهي شعاراتٌ يزداد أنصارها كلّ يوم، بعد فشل ما يزعمون أنّه المشروع الوطني الفلسطيني، لكنّ الشرط الرئيس لتحقيق ذلك هو المحافظة على وحدة الشعب الفلسطيني، ورفض تقسيمه بين حركتي فتح وحماس، ومنع إشعال نار الفتنه في صفوفه. لن يستقيم أيّ تغييرٍ ما لم يشارك فيه أبناء “فتح” جنباً إلى جنب مع جميع القوى والتنظيمات، وقد شاهدنا بالأمس رئيس بلدية الخليل، تيسير أبو سنينة، الفتحاوي الذي قاد عملية الدبويا الشهيرة (مقتل 13 مستوطناً عام 1980)، وقضى أعواماً من عمره أسيراً ومبعداً، يقول: “إنّ الشهداء لم يحلموا أن تكون لنا سلطة تكمم الأفواه، وتقتل الروح النضالية لدى شعبنا” فالتغيير يجب أن يكون من صنع الشعب الفلسطيني كلّه، وهو اليوم أقرب إلينا من أي وقت مضى.

“ازدادت أخيراً وتيرة اعتقال الأجهزة الأمنية الناشطين الفلسطينيين بشكل واسع، لتشمل المئات”.

في الجانب المضيء من الصورة، نراقب في كلّ يوم المواجهة البطولية في بيتا قرب نابلس، وانتقال “عدوى” الإرباك الليلي من غزّة إليها، وهي فعاليات متواصلة، على الرغم من ارتقاء أربعة شهداء ووقوع نحو 400 إصابة في صفوف شباب البلدة. وقد بدأت السلطات الصهيونية تفكّر جديًا في إخلاء البؤرة الاستيطانية التي أُقيمت على مقربة من البلدة، تماماً كما اضطرت سابقاً إلى تأجيل قرار المحكمة العليا بشأن الاستيلاء على بيوت حي الشيخ جرّاح الذي يستمر صمود أهله فيه، ثم اختصار مسار مسيرة الأعلام، وتحديد زمنها وخط مسيرها. في حين نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” تقريراً لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) عن العمليات التي نُفّذت في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، في الضفة الغربية التي وقع فيها 592 هجوماً، منها 178 في القدس (مقابل 104 هجمات في إبريل/ نيسان، منها 24 في القدس)، تضمنت 401 انفجار حارق، و33 قنبلة أنبوبية، و87 حريقاً متعمداً، و47 إطلاق نار بأسلحة صغيرة، وهجوماً بقنبلتين يدويتين، وعمليات دهس بالسيارات، وطعن بالسكاكين. ومعظم هذه الهجمات نفذتها عناصر منفردة. كما قتل الجيش الإسرائيلي في الشهر نفسه 34 فلسطينياً بذرائع مختلفة.

إسقاط الرئيس عباس، وتغيير وظيفة السلطة، ووقف التنسيق الأمني، وعزل رموزه شعبياً، لا يتم بالدعوة إلى تقسيم الصفوف، ومن يدعون إلى الاحتراب الأهلي هم ذاتهم المستفيدون من نظام التنسيق الأمني، وبقاء السلطة على حالها. الطريق الأنسب إلى تحقيق هذه الأهداف يكون عبر مقاومة العدو الصهيوني، وقطع رأس الحية وليس ذيلها، وبذلك يمكن تمييز الغثّ من السمين، وعزل من يخدمون مخططات العدو، مع الاستمرار في رفع الصوت عالياً من أجل قيم الحرية والكرامة. أما القوى السياسية المنضوية تحت لواء السلطة وداخل منظمة التحرير، فعليها أن ترفع ذلك الغطاء عنها. وحسناً فعل حزب الشعب بقراره الانسحاب من الحكومة. على كوادر حركة فتح أن ترفع الصوت، مطالبةً بالتغيير الذي يعيد “فتح” إلى مواقعها الأولى، وعلى الجبهتين، الشعبية والديمقراطية، أن ترفعا الغطاء الذي تقدّمانه إلى إطار منظمة التحرير العاجزة، وأن تبدآ التشاور فوراً مع القوى والفصائل والشخصيات الوطنية، لبناء الجبهة الوطنية المتحدة، وإعادة إحياء المنظمة التي يقول الرئيس محمود عباس إنّه سيقاتل لمنع سرقتها، لكنّه لا يخبرنا أين هي ثلاجة الموتى التي وضع فيها منظمة التحرير الفلسطينية التي يستخدم اسمها فزّاعة في جميع المناسبات، لمنع إخراجها من حالة الموت السريري التي تعيشها.

*معين الطاهر  –  كاتب وباحث فلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى