معهد INSS – بقلم ساره فوير وكرنيت فلنسي – مظاهرات الاحتجاج في الشرق الاوسط ، هل هي الربيع العربي رقم 2؟

معهد INSS – بقلم ساره فوير وكرنيت فلنسي – 1/12/2019
باستثناء الحالة الشاذة لاضراب المعلمين في الاردن، في شهر ايلول الماضي، والذي ركز على الموضوع المحدد نسبيا المتمثل بالاجر المتدني، فان مظاهرات الاحتجاج التي تهز الشرق الاوسط في الاشهر الاخيرة حددت اهدافها الى ما هو أبعد بكثير من عملية تشريع وحيد كهذا او ذاك. فالاحتجاجات تتميز بـ “المعارضة للنظام”، ولا تكتفي بطلب الاطاحة بالنخبة الحاكمة، بل تطالب بتفكيك تام لمباني الحكم والمنظومات الاقتصادية التي غذت النخب. وحتى في الحالات التي كان فيها ما اطلق العنان للمظاهرات هو حدث سياسي وحيد – مثل قرار رئيس الجزائر عبدالعزيز بوتفليقا العودة للتنافس في الانتخابات في شهر شباط، اقالة قائد وحدة مكافحة الارهاب المحبوب في العراق في ايلول، القرار بفرض ضريبة على مكالمات تطبيق واتس أب في لبنان في تشرين الاول، او رفع اسعار الوقود في ايران – فان الدافع الاولي سرعان ما فقد اهميته (وفي بعض الحالات تم التراجع بسرعة عن الخطوة) حتى ارتدت الاحتجاجات طابع حركات واسعة النطاق، تطالب بتغيير شامل.
يعود الاحساس العميق بالاحباط والذي يحرك المتظاهرين في أصله الى الازمات الاساسية في المنطقة والتي تسود فيها معدلات بطاقة عالية، فساد، اخفاقات في تقديم الخدمات الحكومية، اعتماد زائد على مصادر الطاقة او على المساعدات الخارجية وكذا التسييس السام للهوية. يبدو أن اجزء معينة فقط في هذه المجتمعات بقيت محصنة من آثار المشاكل البنيوية وان المظاهرات الحالية تشكل مصدر جذب لتنوع واسع من المواطنين. وعليه، فثمة صعوبة في وصف الخطوات في الجزائر منذ شهر شباط، في القاهرة في ايلول ومؤخرا في بغداد وفي بيروت، وكأنها تعود لطبقة اجتماعية معينة، مجموعة عمرية معينة او حتى لهذه الطائفة الدينية أو تلك. اضافة الى ذلك، انضم الى المتظاهرين في مدن العاصمة مؤيدون من مراكز مدينية اخرى.
فضلا عن ذلك، فان حركات الاحتجاج الجزائرية، العراقية واللبنانية تعالت على الخلافات التي تميز السكان في دولها واتخذت طابعا وطنيا عاما لتخلق هوية مشتركة. في المنطقة البربرية في الجزائر، وبقدر لا يقل عن ذلك في المدن والقرى العربية، كانت الدعوة المشتركة “لا بربر، لا عرب، لا عرق، لا دين! كلنا جزائريون!”. في العراق وكذا في لبنان، صممت المنظومات السياسية والقضائية لتخفيف حدة الاثار السلبية للانقسام الطائفي، الذي أتاح على مدى العقود وجود حكم اقلية طاغية في العراق وادى الى حرب اهلية استمرت خمس عشرة سنة في لبنان. اما في الوقت الحالي، فرسالة المتظاهرين هي أن هذه التسويات استنفدت وحان الوقت لوضع حد للانقسام الطائفي المغروس في المنظومات السياسية في بلدانهم، بل وفي ظل اتهام زعماء طوائفهم بتعظيم التوترات التي يفترض بهذه المنظومات ان تقلصها.
ماذا بين 2011 و 2019؟
كان يمكن أن يكون مغريا تفسير موجة الاحتجاج الحالية كـ “جولة ثانية” من الانتفاضات التي نشبت في العام 2011، ولكن المقارنة بين الحالتين تشهد على الاختلاف بينهما اكثر مما تشهد على البث المعاد. وذلك ضمن امور اخرى لانه سواء الجمهور المحتج ام الانظمة الباقية استنتجوا الدروس على مدى السنوات التي مرت منذ 2011.
مثلما في موجة 2011 بقيت حركات الاحتجاج الحالية بالغالب عديمة القيادة، وفي معظم الحالات يعبر المواطنون الكثيرون الذين خرجوا الى الشوارع بالاساس عن خطاب يعارض الوضع القائم، بدلا من رسم رؤيا ايجابية او خطة محددة تؤدي الى التغيير. والاصرار على الحفاظ على خطاب رفض القائم، يعود في أصله، اغلب الظن، الى التقدير بانه في العام 2011 سارع المتظاهرون الى الموافقة على الحلول الوسط التي اقترحها زعماؤهم. ومع ذلك، فان غياب القيادات في هذه الحركات، والتي كان يمكن لها أن تصيغ خريطة طريق واضحة للخروج من المأزق، من شأنه في نهاية المطاف أن يكون في طالح الاحتجاج. وهكذا، بخلاف احداث 2011، في مظاهرات الاحتجاج الحالية تكاد لا تنطلق دعوات للديمقراطية، مثابة انعكاس للصحوة من خيبات أمل العام 2011 بالنسبة لاهداف الاحتجاج. وباستثناء حالة تونس، فان الاضطرابات التي وقعت قبل تسع سنوات لم تؤدي الى تحول ليبرالي سياسي هام في المنطقة، والتركيز الحالي على ظواهر الفساد والاخفاقات في تقديم الخدمات يلمح بان المتظاهرين يفضلون تحسين شروط حياتهم اليومية على تحقيق اهداف ايديولوجية اوسع. وللمفارقة، فان غياب الذكر العلني للديمقراطية سواء في لبنان ام في العراق كفيل بان يفسر بفرضية ان هذه الدول سبق أن شهدت عملية تحول ديمقراطي (وان كانت عليلة، بحيث أن المشكلة هي التطبيق المشوه للفكرة، الى جانب عدم قدرة الحكومات المنتخبة على الحرص على مصالح مواطنيها.
اختلاف آخر عن مظاهرات 2011 هو التعابير المضادة لايران التي تميز الاحتجاجات الحالية. فالنبرة الوطنية والمناهضة للطائفية للمظاهرات في العراق وفي لبنان تطرح اختبارا لايران، إذ ان النفوذ المتعاظم للجمهورية الاسلامية في هذه الدول – سواء من خلال الميليشيات الشيعية واللاعبين المشاركين في السياسة في العراق، ام من خلال حزب الله في لبنان – يعتبره المتظاهرون كهجوم على مصالحهم الوطنية. اضافة الى ذلك، فان زعماء ايران انفسهم يواجهون هذه الايام تحديا هاما في الداخل، حي يخرج المواطنون المحبطون الى الشوارع للاحتجاج على ارتفاع بمعدل 50 في المئة على اسعار الوقود. وقد اتخذت هذه الخطوة على خلفية أزمة اقتصادية متفاقمة وغياب التقدم في المفاوضات مع الغرب في موضوع البرنامج النووي الايراني. لقد شهدت الجمهورية الاسلامية عدة انفجارات من الاضطرابات منذ 2009 ولكن الاجواء المضادة للنظام التي نشأت في المظاهرات الحالية – مثلما يتضح من هجمات المتظاهرين على ميليشيا البسيج والبنى التحتية للحرس الثوري، وكذا الدعوات في الشارع للمواطنين “لاستعادة” دولتهم من طبقة الزعماء السياسيين الحاكمة – هي مميزة مقارنة بالجولات السابقة.
اضافة الى ذلك، يتضح اختلاف في ردود فعل الانظمة على موجات الاحتجاج. فذكريات احداث 2011 مخطوطة جيدا في ذاكرتهم وتبعث على الخوف على مجرد وجودهم. ردود فعل الزعماء على موجة الاحتجاجات الحالية تتراوح بين العمل السريع على الاصلاحات، بهدف مصالحة المتظاهرين، وبين استخدام التكتيك المعروف أكثر المتعلق بالقمع، سواء كان عنيفا في ظل استخدام اجهزة الامن ام عن طريق اتخاذ خطوات استبدادية اكثر اعتدالا مثل اغلاق الشبكات الاجتماعية. وباستثناء مصر، حيث نجح نظام عبدالفتاح السياسي في أن يقمع حاليا الاضطرابات من خلال القمع العنيف وتعطيل الانترنت وايران حيث يبدو أن القبضة الحديدية التي اتخذها النظام تجاه المتظاهرين آخذة في اضعاف لهيب الاحتجاجات، فلم يظهر في أي من باقي الدول التي تطور فيها الاحتجاج ان اقنعت هذه التكتيكات المتظاهرين بالعودة الى بيوتهم. في الجزائر، السودان، لبنان والعراق اضطر رؤساء الدول بشكل لا مفر منه الى الاستقالة من مناصبهم.
لماذا الان؟
فضلا عن الاحداث التي اطلقت العنان للاضطرابات، يجب أن نأخذ بالحسبان التطورات الاقليمية بل والدولية في الوقت الحالي، في محاولة لتفسير توقيتها. فالهزة التي نشأت في اعقاب الربيع العربي، ولا سيما صعود داعش، هددت الوحدة الاقليمية لدول في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وادت بالباحثين الى الافتراض بان الحدود في المنطقة قد يعاد ترسيمها هذا اذا لم تمحى تماما. ومع ذلك، فانه حتى الدول التي شهدت هزة عميقة على نحو خاص – اليمن، سوريا، ليبيا والعراق – نجت، وتقاليد الدولة العامة، التي كانت منذ اكثر من قرن، أثبتت بانها منيعة اكثر مما توقع الكثيرون. في السنتين الاخيرتين، هزيمة داعش وتقلص حجم القتال في سوريا اعادا الهدوء النسبي الى الهلال الخصيب – هذا الهدوء أتاح للسكان العودة والتركيز على التدهور الاقتصادي والاجتماعي وعلى وضعهم الفوري.
والدليل، بينما اشارت الاستطلاعات التي اجريت في العام 2016 الى “صعود داعش” و “الارهاب” بانهما مصدر القلق الاساس لشباب المنطقة، فان “استطلاع الشباب العربي” الاخير لعامي 2018 – 2019 اشار الى أن هذه الاولويات استبدلت بـ “الارتفاع في غلاء المعيشة” و “البطالة”. وتوجيه النظرة “الى الداخل”، هو في اساس المطالب الوطنية، التي تجتاز الخطوط العرقية والطائفية، والتي تغذي المظاهرات الحالية، التي تعبر عن التطلع للحفاظ على سيادة الدولة وتعزيزها. الجزائر والسودان خرجا نسبيا بلا ضر من احداث 2011، بقدر كبير لان نظاميهما، اللذين اعتمدا اساسا على مداخيل النفط، وزعا امتيازات كبيرة وهكذا نجحا في منع الاضطراب في الساحة العامة. ولكن مع الانخفاض في اسعار النفط في العام 2014، تدهور.
وأخيرا، لتوقيت الاحتجاجات الحالية، يوجد سياق دولي، إذ انها تجري على خلفية الارتفاع العالمي في الاحتجاجات، من حركة “السترات الصفراء” في فرنسا التي بدأت في تشرين الاول 2018، عبر الاحتجاجات التي انتشرت في هونغ كونغ ابتداء من حزيران هذه السنة وحتى مظاهرات الاحتجاج ضد الحكومة التي هزت تشيلي وبوليفيا في تشرين الثاني.
ان الانتفاضات التي نشهدها في هذا الوقت في الشرق الاوسط تنضم بالتالي الى الاضطراب العالمي الذي يعبر عن عدم الرضا والاستياء جراء عدم المساواة، الفساد، الحرمان من حقوق المواطن واحساس شديد بان النخب السياسية اصبحت منقطعة اكثر فأكثر عن السكان الذين تدعي بانها جاءت لتخدمهم.
مشوق انه، باستثناء موجة الاحتجاجات العاصفة في هونغ كونغ، فان معظم حركات الاحتجاج في العالم لم تخرج حتى الان بدعوة واضحة لاحلال الديمقراطية. يحتمل ان “العلامة التجارية” الديمقراطية توجد في انخفاض والجماهير تعبر عن خيبة أملها واحباطها في ضوء مواضع خلل طريقة الحكم هذه ولا سيما في السياق الاقتصادي. ورغم أن الخروج للتظاهر غير عنيف في محاولة لاحداث التغيير السياسي يوجد في ارتفاع دائم في ارجاء العالم منذ 1940، معدل نجاح الاحتجاجات الجماهيرية انخفض بقدر دراماتيكي منذ العام 2010، ما يدل على تحد لا بأس به تقف امامه موجة الانتفاضات الحالية التي تجري في ارجاء الشرق الاوسط.