ترجمات عبرية

معهد INSS – بقلم  ايتي حيمينيس – “الانسان الاخير”

معهد INSS – بقلم  ايتي حيمينيس – 28/11/2019

اسطورة النظام العالمي الليبرالي

منذ بداية سنوات الالفين وقعت في العالم أحداثا عديدة شكلت خلفية وسببا لتصريحات دراماتيكية عن المخاطر التي تحدق بالنظام الليبرالي العالمي. ومع ذلك، في الاسرة الاكاديمية تكثر علامات استفهام حول مجرد وجود هذا النظام الليبرالي العالمي على الاطلاق. 

بخلاف الوصف التاريخي الذي يعرضه بارون وحرلف  عن تطور النظام العالمي الليبرالي، يدل التاريخ على ان  النظام الاقتصادي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن ليبراليا بالذات. فمؤسسات مثل البنك الدولي، صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية جاءت لترتب – وبالتالي تقيد – العبور الحر للتجارة والمال بين الدول، وهكذا اخذت ادارة الاقتصاد العالمي من ايدي منتخبي الجمهور. فهذه المؤسسات الدولية وكذا الامم المتحدة، التي هي ظاهرا “البرلمان العالمي”، لم تكن مؤسسات متعددة الاطراف ولم تعطي كل الدول الاعضاء فيها صوتا متساويا. وقد أدارها اللاعبون المركزيون في الصراع بين الكتل، واساسا الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبقدر أقل بكثير قوى عظمى بحجم ثان – بريطانيا وفرنسا. اما باقي المدن، حتى لو شكلت معا معظم مساحة العالم وسكانه، فقد اضطرت لقبول املاءات القوى العظمى، وكانت قدرتها  على املاء جدول أعمال بديل على المستوى العالمي محدودة جدا. قوانين دولية وانماط سلوك قانونية شكلت ظاهرا الاساس لعمل هذه المؤسسات، مثل عدم التدخل والحفاظ على سيادة الدول، او عدم استخدام القوة العسكرية لغير اغراض الدفاع عن النفس انتهكت المرة تلو الاخرى، حتى من الدول الليبرالية.

واضافة الى ذلك، فان “الحرب الباردة” لم تتميز كـ “سلام طويل المدى”، بل بعدد كبير من المواجهات العسكرية العنيفة بين الدول دارت في “ميادين القتل” في افريقيا، آسيا، امريكا اللاتينية، شرق اوروبا والشرق الاوسط، وكذا بتهديد الحرب النووية التي تبيد سكان بأكملهم في شمال امريكا، غرب اوروبا والاتحاد السوفياتي. 

ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشيوعية، لم تكن سياقات التحول الديمقراطي والليبرالية الاقتصادية التي ميزت مناطق عديدة بالضرورة نتيجة لمؤسسات وانماط سلوك ليبرالية أو لتعاون متعدد الاطراف. فقد كان للقوة العسكرية والاقتصادية الامريكية تأثير حاسم، مثلما كان ايضا للمصالح السياسية والاقتصادية للنخب المحلية. في مناطق ما بعد السوفياتية في شرق اوروبا، مثلا، جرت سياقات التحول الديمقراطي والليبرالية على نحو منقطع عن الارث الثقافي والتاريخي للدول التي شهدت مسيرة التغيير. فانظمة الحكم المطلق في الصين وفي روسيا – ليس فقط لم تصبح اكثر ديمقراطية او ليبرالية، بل استغلت سياقات التحول الليبرالي الاقتصادي في دولها لتثبيت حكمها. في روسيا، مثلما حصل في دول عديدة في شرق اوروبا وفي امريكا اللاتينية أحسن التحول الليبرالي المتسارع اساسا لمن هم مقربون من الحكم، القى بالكثيرين الى حياة الفقر والجريمة وخلق وضعا من عدم الاستقرار العضال وفوارق طبقية متطرفة، تتواصل حتى اليوم. اما دول آسيا التي حققت ازدهارا اقتصاديا فقد نجحت من خلال حكومات تمثل تدخلها في الاقتصاد بحماية الصناعات من المنافسة وبالاستثمار المالي الكبير. اما الولايات المتحدة من جهتها ففضلت المرة تلو الاخرى اعتبارات امنية وتجارية على الحقوق والحريات السياسية والاقتصادية في علاقاتها مع انظمة الحكم المطلق، وبخاصة في الشرق الاوسط. فاحتدام الفوارق الاقتصادية بين الدول وفي داخل الدول منع عن جماعات مضطهدة ومستضعفة سابقة ترجمة الحريات الاجتماعية الجديدة التي اعطيت لها التأثير على جدول الاعمال في دولها او لتحسين رفاهها. 

وختاما، في نهاية الحرب العالمية الثانية لم يتميز العالم بكونه مرتبا او ليبراليا على نحو خاص ولا سيما بالنسبة لكل من لم يحظ بان يكون من سكان المناطق المزدهرة والمريحة في غرب اوروبا أو شمال امريكا.

الفكرة الديمقراطية – الليبرالية صامدة ومتجددة

ان الميزة المركزي للصراع الجاري في السنوات الاخيرة في دول ديمقراطية تلمس طبيعة النظام الديمقراطي، وليس – مثلما يدعي بارون وحرلف –المواجهة بين مؤيدي الفكرة الديمقراطية الليبرالية ومعارضيها. فبارون وحرلف يدعيان بانهما يشخصان شعبوية، نزعة محافظة وقوية متطرفة مع معارضة للفكرة الديمقراطية الليبرالية. 

يشخص العديد من الباحثين الشعبوية بالذات كشكل أكثر أصالة للديمقراطية، التي تعظم المواطن وتأثيره على العملية السياسية على حساب النخب الاقتصادية او البيروقراطية الحاكمة. ثمة باحثون يرون حتى بالشعبوية “رد فعل مضاد مشروع” و “تعديل اضطراري” للقوة العظيمة جدا التي جمعتها تلك النخب والبيروقراطيون.

في اسرائيل، النقاش الجماهيري في مواضيع مثل حقوق المهاجرين واللاجئين من افريقيا أو صلاحيات المحكمة العليا في شطب قوانين ينطوي في داخله على الجدال الاكثر مبدئية حول مسألة من يفترض أن يقرر في مسائل من هذا النوع – السياسيون في المستوى الوطني والبلدي بصفتهم منتخبين من الجمهور أم الموظفين الكبار المسؤولين عن وضع السياسة العامة، المحررين من الاعتبارات غير المهنية. 

بشكل مشابه، تعد النزعة القومية هي الاخرى درع ضد طغيان مؤسسات وزعماء غير منتخبين، يسعون الى ان يفرضوا على جماهير واسعة معايير سلوك وقيم غريبة عنها. يولي تمير، النائبة والوزيرة السابقة من حزب العمل، نشرت في 2009 كتابا بعنوان “لماذا القومية”، والذي يدعو اليسار الاسرائيلي الى اعادة تبني القومية كقوة ايجابية. وبزعم تمير، فان القومية الايجابية يمكنها أن تعظم قوة المواطنين وان تلبي احتياجاتهم الاساسية، بما في ذلك الحاجة لاحساس الانتماء والهوية المشتركة. يمكن للقومية وينبغي لها ان تستخدم لاعادة التوزيع، الاكثر عدلا وبشكل اكثر ديمقراطية لثمار الرفاه الاقتصادي، واعادة تنظيم جدول الاعمال القومي في اسرائيل ودول اخرى.

ومن خارج اسرائيل – بينما الرئيس الامريكي دونالد ترامب، مؤيدو البريكزيت في بريطانيا واليمين الاوروبي يتماثلون مع العودة الى القومية ومع الدعوة الى وضع المصالح القومية في رأس الاولويات في الدول، انطلقت عمليا دعوات مشابهة حتى في عهد ادارة باراك اوروبا من اناس من المعسكر الديمقراطية في الولايات المتحدة، بينهم ريتشارد هس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الذي نشر في 2013 كتاب “السياسة الخارجية تبدأ في الوطن”. وحسب هس، فان على الادارة الامريكية ان تركز على المصالح القومية بدلا من التطلع الى نقل القيم الكونية الى ارجاء العالم، وكذا على التحديات الداخلية في مجالات التعليم، البنى التحتية والاقتصاد. عليها ان تطرح هذه المواضيع على رأس جدول اعمالها، اذا كانت تريد الحفاظ على قوة ونفوذ الولايات المتحدة في الساحة العالمية.

احد الاصوات البارزة في المعسكر الليبرالي في الولايات المتحدة، والتي تولي قيمة ايجابية للنزع القومية، هو ياشا مونك. ففي مقال نشره في “نيويورك تايمز” الليبرالية جدد مونك الدعوة للمعسكر التقدمي في الولايات المتحدة لتبني النزعة القومية وتعريفها وفقا لفكره الذي يشدد على النزعة الوطنية والعزة في هوية امريكية مشتركة وتكافل اجتماعي، يتعالى على الخلافات العرقية او الدينية. كما ان عددا خاصا لمجلة “فورين أفيرز” الاعتبارية خصص لموضوع النزعة القومية تضمن سلسلة مقالات، القاسم المشترك بينها هو عرض متوازن وتفاؤل حذر بالنسبة للفرص الكامنة في تعزز النزعة القومية في ارجاء العالم لغرض تعزيز وتواصل الفكرة الديمقراطية. 

كما ان النهج المحافظ في السياسة لا يتعارض مع  الفكرة الديمقراطية – الليبرالية. فمباديء النهج تتضمن، ضمن امور اخرى، مكانا للتراث الثقافي – الديني في الحياة العامة في الدولة، تشديد على الاحتياجات الاهلية وليس فقط على رغبات الفرد، حكومة مقيدة بقدرتها على التدخل في حياة الفرد وتصميم المجتمع وخطاب جماهيري يقوم على اساس الاحترام للتاريخ القومي، واعضاؤه يعترفون بالواقع “كما هو” حتى عندما يتطلعون الى مستقبل افضل. ان الفهم بان نزعة المحافظة والليبرالية هما طرفان مختلفان من المعتقد الديمقراطي ادى منذ الان الى ان الكثيرين في المعسكر المحافظ في  الولايات المتحدة بدأوا يعلنون عن أنفسهم في السنوات الاخيرة بالذات كـ “ليبراليين كلاسيكيين”. في خلفية ذلك، يوجد الفهم المشترك بين الكثيرين في المعسكر الديمقراطي والجمهوري بان القاسم المشترك يفوق الاختلاف بين المعسكرين، اللذين في نهاية المطاف يسعيان الى الحفاظ على الديمقراطية الامريكية وتجديدها. 

وها هما بارون وحرلف يشخصان بالخطأ خط انكسار آخر بين مؤيدي العولمة ومعارضيها. عمليا، فان مؤيدي الرئيس ترامب ومؤيدي البريكزيت في بريطانيا يؤيدون جدا العولمة الاقتصادية التي تدار بالمصالح القومية للدول. بمعنى ان النقاش هو ليس بين مؤيدي العولمة ومعارضيها، بل يعنى بمسألة أي عولمة يجب أن تقام – قومية، تدار من زعماء منتخبين وفقا لمصالحهم القومية أم كونية وعالمية، تدار وفقا لقيم كونية ومذهب النخب غير المنتخبة. 

في اسرائيل، رغم التشخيص السلبي السائد لنزعة المحافظة، فان مؤتمر المحافظة الاسرائيلية الاول الذي عقد في 2019 عرض جملة واسعة من التفسيرات المحافظة للمسائل التي تقبع في مركز جدول الاعمال الاسرائيلي، دون الانزلاق الى مواقف يمكن تشخيصها كقومية متطرفة، عنصرية او رجعية. هكذا، في المباديء الاساس للحركة المحافظة الاسرائيلية التي نشرت في موقع الحركة بمناسبة المؤتمر، كتب ان الحركة تؤمن “بحق الشعب اليهودي في تقرير المصير في اطار دولة قومية ديمقراطية”، “بالامتناع عن الاكراه السلطوي”، وكذا “بالحفاظ على التوازن بين سلطات الحكم بشكل يسمح لمباديء الديمقراطية بالتعبير عن ارادة المجتمع من خلال منتخبيه”. تجسد هذه الافكار انه بخلاف ما يفهم من مقال بارون وحرلف، لا يوجد تناقض مبدئي بين المحافظة والديمقراطية وان الليبراليين ايضا سيجدون الكثير من المشترك في النهج المحافظ في السياسة.

أنظمة الحكم المطلق – ليست محصنة الى الابد

في مقال بارون وحرلف يظهر نهج  متشائم وقدري بالنسبة للوضع الحالي لانظمة الحكم المطلق وقدرة تأثيرها على العالم.

ومع ذلك، فان الادبيات البحثية في هذا الموضوع يمكنها بالذات ان توفر اسبابا للتفاؤل. بحث نشره في 2019 ياشا مونك يظهر ان الكثير من الحكام المطلقين الذين استولوا على الحكم في السنوات الاخيرة بمن فيهم فيكتور اوربان في هنغاريا أن جئير بولسونارو في البرازيل، يحكمون في دول  ميزاتها الاساسية قد تترجم الى تهديدات حقيقية على بقائهم السياسي – مستويات عالية من التعليم والتنمية الاقتصادية؛ تقارير طويلة السنين من المعارضة السياسية؛ جيرة لدول ديمقراطية وعلاقات اقتصادية وامنية مع دول ديمقراطية؛ مطالبة جماهيرية واسعة بالحقوق والحريات، مما يميز الديمقراطيات في ارجاء العالم. والاهم من ذلك، بزعيم مونك، فان شرعية هذه الانظمة ترتبط مباشرة بنجاحها في تنفيذ وعودها لناخبيها في صناديق الاقتراع، وبخاصة في تحسين رفاههم الاقتصادي. ما بالك أن هؤلاء الزعماء بدأوا منذ الان يرسخون حكمهم بوسائل قمعية مختلفة، وهذه لا يمكنها أن تضمن انتخابهم من جديد اذا لم يحققوا الوعود الاقتصادية او اذا لم تقع هزات مثل كوارث طبيعية أو انكشاف قضايا فساد. يعرض مونك في هذا السياق الضعف السياسي لزعيم حكم مطلق أقدم، رجب طيب اردوغان، الرئيس التركي. بزعمه، فان التراجع في قوة الحزب الحاكم – حزب العدالة والتنمية – كما ظهر في نتائج الانتخابات البلدية في 2019، كان نتيجة مباشرة للتردي الاقتصادي الذي سجل في تركيا في تلك السنة، مثلما ايضا لعدم موافقة الناخبين على التسليم بما اعتبر كمحاولة من جانب اردوغان لتوجيه نتائج الانتخابات لصالحه. 

وماذا بالنسبة للقوى العظمى ذات الحكم المطلق الصين وروسيا؟ صحيح أن الصين كفيلة في السنوات القادمة أن تحقق اهدافها الاقتصادية، التكنولوجية والسياسية بحيث تسمح لها بالتغطية على الولايات المتحدة، ولكنها في نفس الوقت تواجه سلسلة تحديات من شأنها ان تحبط تطلعاتها. بحث نشر في مناسبة 70 سنة على تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1949 يشير الى سلسلة من التحديات التي تواجه القيادة الصينية – ابطاء اقتصادي، من شأنه ان يترجم الى عدم استقرار سياسي ومالي؛ انعدام مساواة اقتصادية واجتماعية وقمع سياسي، تزيد من الاستياء الجماهيري؛ فساد واسع يعطل قدرة النظام على تنفيذ اصلاحات حيوية لازمة؛ والمواجهة الاقتصادية والتكنولوجية مع الولايات  المتحدة، والتي قد تتدهور أيضا الى مواجهة عسكرية. والاهم من ذلك هو أن الصين لا تعرض تطلعات للحلول محل الولايات المتحدة كالمهيمنة العالمية، وبالتأكيد يحتمل أن يختار النظام الصيني استغل قدراته الدبلوماسية، الاقتصادية والتكنولوجية للحفاظ على قوته من الداخل والتأثير في المجال الشرق آسيوي فقط.

في اثناء الاشهر الاخيرة من العام 2019 اضطرت السلطات في الصين وفي روسيا للتصدي لاحداث احتجاجية. ورغم أن هذه الاحداث الاحتجاجية لم تشكل تهديدا حقيقيا على استقرار الحكم، الا انها اشارت مع ذلك الى قيود قوة الانظمة وحساسيتها العالية للضغوط الداخلية. فقد وقف النظام الصيني امام صعوبة للتصدي لاحداث الاحتجاج التي نشبت ضده في هونغ كونغ. بل واضطر النظام الى الخضوع لطلب المتظاهرين الغاء “قانون التسليم” الذي يستهدف السماح للسلطات في هونغ كونغ تسليم المشبوهين لصلاحيات قضائية اجنبية، بما فيها الصين. بينما المعارضة للقانون هي التي اشعلت الاحتجاج في هونغ كونغ قبل بضعة اشهر، تتواصل المظاهرات الجماهيرية وتترافق مع مطالب باصلاحات ديمقراطية وادت منذ الان بالنظام لان يوافق على تنفيذ تغييرات اخرى في جهاز الحكم المحلي في هونغ كونغ. هكذا كشفت الاحداث في هونغ كونغ قيود تأثير النظام الصيني حتى في المجال الذي يعد ظاهرا ساحته الخلفية.

في روسيا جرت في الاشهر الاخيرة احداث احتجاج بحجوم استثنائية في اعقاب شطب ترشيحات من المعارضة قبل اجراء الانتخابات على المستوى البلدي. ومثلما في الماضي تطلب من الحكم الروسي مواجهة الاحتجاج بجملة من “العصي والجزر”. ورغم احتواء الاحتجاج وعدم ترجمته الى تهديد على السيطرة الانتخابية للمرشحين المتماثلين مع الحكم الحالي، الا انه اشار الى التآكل المتواصل في قدرة  الحكم الروسي للحفاظ على نموذج “الديمقراطية الموجهة”، التي اتاحت له حتى الان الحفاظ على مزايا الحكم المطلق. والاهم من ذلك، توصف روسيا في السنوات الاخيرة كمن يشكل وضعها الاقتصادي عقب أخيل الذي سيجعل من الصعب عليها أن تستعيد مكانتها كقوة عظمى، فما بالك ان تشكل بديلا فكريا حقيقيا للفكرة الديمقراطية الليبرالية. 

ولكن حتى لو اظهرت الصين وروسيا ودول حكم مطلب اخرى صمودا في مواجهة التحديات وحافظت على الحكم فيها في السنوات القادمة فان الانهيار المفاجيء لانظمة الحكم المطلق في الماضي – الاتحاد السوفياتي والهزات في الانظمة في العالم العربي منذ 2011 – يدل على انه لا ثقة في أن تنجح في منع الانهيار على مدى الزمن. 

فوكوياما لا يزال محقا

بخلاف تفسير بارون وحرلف، لم يدع فوكوياما أبدا بان التاريخ الانساني انتهى، او أن نظام الحكم الديمقراطي – الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة بقي بلا منافسين حقيقيين. فقد ادعى فوكوياما في كتابه الذي نشر بعد سنتين من نشر المقال، وكذا في تصريحاته العلنية وفي مقالات عديدة ان التاريخ الانساني- أي الحروب، الاتفاقات بين الدول، الثورات، الاختراعات التكنولوجية او الازمات الاقتصادية – ستستمر. كما أن فوكوياما لم يقدر بان دول العالم بعمومها ستتبنى الفكرة الديمقراطية – الليبرالية. كتاب فوكوياما هو اولا وقبل كل شيء تاريخ ثقافي، وهو يسعى لتثبيت حجة معيارية بشأن افضلية الفكرة الديمقراطية الليبرالية على ايديولوجيات سياسية – اقتصادية منافسة، قامت وسقطت في اثناء التاريخ الانساني. وعليه، فان الاستعراض التاريخي الشامل الذي يضمنه فوكوياما في كتابه لا يأتي لوصف انتصار الغرب او انتصار الدول الديمقراطية الليبرالية، بل ان يجسد الفضائل الكامنة في تبني هذه الفكرة لتقدم امن وازدهار الدول.

في نظر فوكوياما، فان الفكرة الديمقراطية الليبرالية هي ذروة في التطور الثقافي للانسانية، ولكن لا توجد أي ثقة في ان تختار تحققها. وليس صدفة، فان الفيلسوف الذي يؤسس فوكوياما عليه كتابه هو هيغل. يرى فوكوياما في التاريخ عملية جدلية ويمنح الفكر الصدارة في التأثير على اتجاه تطور التاريخ. من هذه الناحية فان نظرية فوكوياما يمكنها أن تحتوي ايضا تطورات السنوات الاخيرة، بما فيها خبو الديمقراطية في العالم وتعزز قوة دول حكم مطلق، إذ انه وفقا لسياق التاريخ الجدلي الذي يستند اليه فوكوياما، التطورات السياسية او الاقتصادية – كتلك التي اقام عليها بارون وحرلف ادعاءاتهما – ليست الا “زبدا على وجه الماء”. في النهاية، فلاديمير بوتين يعلن ان الليبرالية لم تعد ذات صلة، والصين تمثل ظاهرا نجاح نموذج سياسي اقتصادي بديل. ولكن روسيا، الصين او كل دولة ذات حكم مطلق اخرى لم تنجح حتى الان في عرض ايديولوجيا بديلة للفكرة الديمقراطية – الليبرالية. وحتى الازمة التي ألمت بدول ديمقراطية – ليبرالية في الغرب لم تؤدي الى جهد لايجاد افكار بديلة بل الى مراجعة معمقة، منهاجية ونقدية – لاول مرة منذ فترة طويلة وبشكل سابقة في حجمها. هذا على أمل حمايتها وتجديدها، وليس لاستبدالها باخرى.

ان التفويت الاكبر الذي اصيب به بارون وحرلف هو خيارهما للانشغال فقط بالقسم  الاول والاقل اهمية من كتاب فوكوياما. فالقسم الثاني والاهم من الكتاب هو ذاك الذي يعنى به فوكوياما بهوية “الانسان الاخير” – المفهوم المستمد من كتاب نيتشه “هكذا قال زردشت. فحسب فوكوياما، مع التبني الواسع للفكرة الديمقراطية الليبرالية، فان الانسان المعاصر لن يخاطر بعد اليوم بفقدان حياته بحثا عن الاعتراف والشرف، بل سيركز على مناعم الحياة، على تحقيق ذاته وتجسيد اراداته المادية والنفسية. ابطاله لن يكونوا زعماء أو ايديولوجيين بل نجوم ثقافة ورياضة، ومالتيمليونيريين. الانسان المعاصر لن يخاطر بعد اليوم بحروب وصراعات عنيفة بل سيغرق في الحسابات الاقتصادية، بالمشاغل البيئية وبالحل الذي لا يعد ولا يحصى “للمسائل الفنية”. ولكن الانسان المعاصر ليس فرحا أو راضيا عن وضعه بل يعاني من الاكتئاب ومن الاشتياق الحنيني لعصر آخر كان يتعين عليه فيه أن يظهر الشجاعة، الخيال العظيم والمثالية. 

ان أهمية وصف فوكوياما “للانسان المعاصر” مزدوجة. اولا، الكثير من منتقدي الفكرة الديمقراطية – الليبرالية ينقلون في اقوالهم اصداء مشاعر الاستياء والاحباط من الحياة المعاصرة التي يعيشها. والاهم من ذلك يلزم اولئك المعنيين بالدفاع عن الفكرة الديمقراطية الليبرالية وضمان استمرارها للتركيز على مزاياها الاشكالية حقا – وعلى رأسها العدمية، المادية والفراغ الروحي الذي تفرضه على الانسان المعاصر، وليس على الانجازات العابرة لدول الحكم المطلق. آرفينغ كريستول، عراب “المحافظة الجديدة”، كتب في مقال رد على كتاب فوكوياما ان الفكرة الديمقراطية الليبرالية توجد في خطر لانها وان كانت تعد بالامن والازدهار المادي، الا انها لا توفر جوابا على حاجة الانسان للجماعة الاهلية وللروحانية، لشكه في وعود التكنولوجيا والتشويش المنتشر في الغرب بين الحقوق وبين الحريات الطبيعية. منذ 1989، وفي موعد قريب من نشر مقال فوكوياما الاصلي ادعى كريستول ما سيدعيه سواء مويدو أم منتقدو الفكرة الديمقراطية الليبرالية منذئذ وحتى اليوم:  “قد نكون انتصرنا في الحرب الباردة، وهو أمر لطيف – بل وربما رائع. ولكن هذا يعني أن العدو الان هو نحن، وليس هم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى