ترجمات أجنبية

معهد واشنطن – “ناشيونال إنترست” – سارة فوير – السلام بين الإمارات وإسرائيل يكشف عن خطوط الصدع في الشرق الأوسط

معهد واشنطن  – “ناشيونال إنترست” – سارة فوير – 26/9/2020

في أعقاب اتفاقيتَي السلام الأخيرتين اللتين أبرمتهما إسرائيل مع كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، ركزت التحاليل والتعليقات العامة بمعظمها على ما قد ينذر به التطبيع بالنسبة لعلاقات إسرائيل مع الدول العربية الأخرى، وعلى إمكانية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وعلى مثلث العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات. بيد أن هاتين الاتفاقيتين تنطويان على بُعدٍ لا يلقى الاهتمام نفسه مع أنه يتمتع بالأهمية نفسها، وهو تداعياتهما على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل عام – سواء من حيث ما تكشفانه عن الاتجاهات الأعمق التي تميّز النظام الإقليمي القائم اليوم، أم من حيث ما تكشفه ردود الفعل على الاتفاقيتين عن مسار المنطقةفي المستقبل القريب.

علاوةً على الدوافع المباشرة التي أوصلت إلى هاتين الاتفاقيتين – أي شبح عملية ضم الأراضي في إسرائيل، ورغبة الإمارات في انتزاع أكبر قدر ممكن من إدارة ترامب التي قد تنتهي ولايتها قريباً، وتحقيق التقارب بين أبوظبي والحزب الديمقراطي الذي قد يصل إلى السلطة قبل انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر – يعكس تطبيع العلاقات بين إسرائيل وهاتين الدولتين الخليجيتين وجود صراع أوسع بين معسكراتٍ إقليمية تتنافس لرسم معالم النظام في المنطقة. ومع أن جذور هذا الصراع تعود إلى عدة عقود مضت، إلا أن التطورات التي أحدثتها انتفاضات العام 2011 زادت من حدة الانقسامات بين هذه المعسكرات، فاهتز النظام الإقليمي نفسه بشدة بسبب أحداث ذلك العام وتبعاتها.

يضم المعسكر الأول إيران وحلفاءها (أو وكلاءها) – ومعظمهم من الشيعة – المتوزعين في مختلف أنحاء المنطقة، بما في ذلك ميليشيات العراق والنظام السوري برئاسة بشار الأسد و”حزب الله” في لبنان، علماً بأنه يمكن أيضاً إدراج حوثيي اليمن ضمن هذه المجموعة، شأنهم شأن حركة “الجهاد الإسلامي في فلسطين” في غزة بالرغم من هويتها السنية. أما المعسكر الثاني فيتألف من الدول السنية التي اتّحدت – في خطاباتها وإن لم يكن دائماً في أعمالها – حول هدف واحد هو مواجهة المساعي الإيرانية لتوسيع نفوذ إيران في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى هدف آخر برز مؤخراً وهو الحد من نفوذ جماعة “الإخوان المسلمين” والحركات الإسلامية السنية التي تفرعت عنها وبدت لفترة قصيرة مهيّأةً للتنامي بعد العام 2011. وعادةً ما توصف هذه الدول بـ”المعتدلة” أو “العملية” بحكم علاقاتها الإيجابية عموماً بالغرب وإيمانها بأفضلية الأمة السيادية على أي كيان أو هوية عابرة للحدود الوطنية، إضافةً إلى انفتاحها النسبي على الوجود الإسرائيلي في الجوار. وتشمل هذه الدول الإمارات والسعودية ومصر والأردن والبحرين والمغرب. في المقابل، ثمة معسكرٌ ثالث يضم الدول والحركات السنية المتعاطفة مع “الإخوان المسلمين”، وهي تركيا وقطر وحركة “حماس” في غزة وبعض الأحزاب السياسية الإسلامية التي لا تزال موجودة في المنطقة. وفي حين أن دعم الإسلام السياسي ليس المبرر الوحيد – أو حتى الأقوى في بعض الحالات – لسلوك تلك الأطراف، إلا أنه يبقى عنصراً رئيسياً في استراتيجياتها الهادفة إلى تعزيز شرعيتها الذاتية، وعاملاً جوهرياً في تفسير تحالفاتها الإقليمية. وأخيراً، تضم المجموعة الرابعة مخلّفات تنظيمَي “القاعدة” و”داعش” والحركات الجهادية التابعة لها في المنطقة.

ومع احتدام المنافسة بين تلك المعسكرات، ظهرت خلال العقد المنصرم ثلاث حقائق إضافية لها تأثيرٌ مباشر على اتفاقيتي السلام الأخيرتين. أولاً، اتسم المحور الذي تقوده إيران بالتماسك إلى حدٍّ ما فيما اختلف الوضع بالنسبة للمعسكرات الثلاثة الأخرى. فتنظيما “القاعدة” و”داعش” مثلاً يريان في أحدهما الآخر مصدر تهديد أكثر منه حليفاً بالرغم من التشابهات الأيديولوجية بين هذين التنظيمين الجهاديين. وكانت الدول السنية البراغماتية تميل إلى تكوين تحالفات ظرفية قائمة على تصوراتها بوجود تهديد مباشر وعلى القدرات المتاحة بدلاً من الأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى، ويعود ذلك جزئياً إلى الخلاف في ما بينها حول أولوية تهديدين رئيسيين هما نزعة التوسع الإيرانية (التي تشكل مصدر قلق كبير للرياض والمنامة) والإسلام السياسي المشابه لأسلوب “الإخوان المسلمين” (وهو مصدر التخوف الرئيسي لأبوظبي والقاهرة). وبالنتيجة، وجد هذا المعسكر صعوبةً في التصدي للتوسع الإيراني وإخماد ما تبقّى من جمر الإسلام السياسي.

ثانياً، عملت إسرائيل أكثر فأكثر على ترسيخ مكانتها كحليفٍ للمعسكر السني البراغماتي، وهذا يتجلى من خلال حملتها العسكرية المستمرة منذ سنوات لإحباط الاستحكام الإيراني في سوريا، ومساعدتها العسكرية الهادئة لمصر في سيناء، ناهيك عن تعاونها الأمني مع مختلف الدول الخليجية التي تعتبر هي أيضاً إيران مصدر تهديدٍ لها، مع الإشارة إلى أن هذا التعاون كان مفترض على نطاق واسع حتى وإن بقي حتى الآن سرياً بالدرجة الكبرى.

ثالثاً، ومع أن القوة العسكرية النسبية لا تزال تلعب دوراً في تكوين التصورات عن التهديدات وفي قيام التحالفات في مختلف أنحاء المنطقة، باتت القوة الناعمة تشكل أكثر فأكثر محركاً مهماً للتطورات الإقليمية. إذ لمتظهر قطر كطرف فاعل إقليمي بفعل إنجازاتها العسكرية إنما بفعل مهارتها في استخدام ثروتها الهيدروكربونية الهائلة – التي استُعمل جزءٌ منها لتمويل العمليات العسكرية لحلفائها في المنطقة، أمثال تركيا و”حماس”- ووجود وسيلة إعلامية مؤثرة على أراضيها، أي قناة “الجزيرة”. وإذا كانت كل الأنظار شاخصة نحو خطوات السعودية المقبلة (هل ستقوم الرياض بالتطبيع أم لا؟)، فليس السبب هو ترسانة المملكة العسكرية المذهلة، بل هو النفوذ الكبير الذي تمارسه في جميع أنحاء المنطقة من خلال سلطتها المالية وشرعيتها الدينية كأرض الحرمين الشريفين.

وأبرز دليل على هذه التوجهات الرئيسية الآنف ذكرها هو الاتفاقيتان الموقعتان في واشنطن بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر. فالصراع الطويل بين تلك المعسكرات، وتفاوت درجات التماسك بين المجموعات المتنافسة، وظهور إسرائيل كحليف رئيسي للتكتل السني البراغماتي، وظهور القوة الناعمة كعامل مهم في الشؤون الإقليمية، هي كلها تطوراتٌ أدت مجتمعةً إلى اتخاذ أبوظبي (ومن بعدها المنامة) قرار التحالف العلني مع إسرائيل. وفيما لا يزال الوقت مبكراً للحكم على كيفية تنفيذ هاتين الاتفاقيتين، من المنطقي الافتراض بأن التطبيع الذي يعزز المعسكر السني/الإسرائيلي البراغماتي سيعمّق على الأرجح الانقسامات الإقليمية بين البراغماتيين والإسلاميين من جهة، وبين المعسكر البراغماتي والمعسكر الذي تقوده إيران من جهة أخرى. ومن الممكن أن تنتج عن ذلك سيناريوهات عدة.

في السيناريو الأول، سيتدهور الاستقرار بشكل أكبر في شرق البحر الأبيض المتوسط. فما بدأ هناك كصراع للوصول إلى الغاز الطبيعي وخلافٍ على الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط​​، تحوّل إلى مواجهة تزداد شراسةً بين تركيا (وقطر في الخلفية) من جهة والتحالف المؤلف من اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل والأردن والإمارات من جهة أخرى. في البدء، كانت دوافع التوتر في شرق المتوسط محليةً، ولكن مع مرور الوقت، أدى كلٌّ من حزم أردوغان المتعاظم ورغبة الإمارات اللاحقة في لجم المطامع التركية إلى توريط شرق المتوسط ​​في الصراع الأوسع على النفوذ بين مختلف المعسكرات الشرق الأوسطية. ولعل الحرب في ليبيا – حيث حلّ الجمود بين القوات المدعومة من تركيا/قطر والقوات المدعومة من مصر/الإمارات (إلى جانب المرتزقة الروسيين) – هي أوضح مثال على ذلك، وربما تمهّد لمزيد من الاضطرابات في هذا المجال إذا رأى أردوغان أن اتفاقيات التطبيع الأخيرة هي محاولة أخرى لعزله.

وهنا، ثمة احتمال آخر مرتبط بهذه المسألة ولكنه درامي أكثر، وهو أن يؤدي التعاظم المتصوَّر للمعسكر “البراغماتي” إلى توحيد المعسكر التركي-القطري-الإيراني، أي دمج المعسكر الحالي لجماعة “الإخوان المسلمين” وتركيا مع المحور الإيراني. وقد ظهرت دلالة على هذا الاحتمال بعد فترة وجيزة على الإعلان عن اتفاقيتَي التطبيع – وبعد شهر تقريباً على استضافة أردوغان لاثنين من قادة حركة “حماس” في اسطنبول – وذلك حين سافر رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية إلى لبنان للقاء أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله، وكانت هذه زيارته الأولى إلى لبنان منذ قرابة الثلاثين عاماً، حيث كان هدفها المعلن تعزيز “استقرار محور المقاومة” بوجه إسرائيل. لذلك فإن دعم تركيا المتنامي لحركة “حماس” خلال العقد المنصرم وتمويل قطر لحكومة “حماس” قد يدفعان هذه الدول إلى إيجاد قضية مشتركة مع إيران بشكل متزايد.

السيناريو الثالث والمثير للاهتمام بشكل خاص هو حدوث تحوّل في توجهات نظام الأسد السوري. فمن بين كل ردود الفعل التي ظهرت على اتفاقيتي التطبيع الأخيرتين، لعل صمت الأسد النسبي هو أكثر ردٍّ مفاجئ نظراً إلى اعتماد النظام السوري الظاهري على طهران وإلى دعمه الكلامي الثابت للقضية الفلسطينية على مر السنوات، فضلاً عن عداوته المستمرة منذ مدة طويلة مع إسرائيل. ولكن الرد الصامت الذي بدر عن نظام الأسد إزاء الاتفاقيتين الأخيرتين يعكس على الأرجح رغبة دمشق في العودة إلى الحضن العربي بعد سنوات عديدة من الاستبعاد النسبي، وهو يعكس حتماً حسابات الأسد الذي يعتبر أنه سيحتاج على الأرجح إلى الأموال الإماراتية للصمود – ولكنه أيضاً إشارة إضافية على أن القوة الناعمة تطغى على أهمية القوة العسكرية. وسيكون من المهم مراقبة الديناميات التي ستتبلور في سوريا بتأنٍّ، خصوصاً إذا كانت تمهيداً لتحوّل أعمق في توجه النظام ولتغيرات أعمق بعد في تركيبة وقوة المعسكر الذي تقوده إيران.

وبما أن التنبؤات عن مسار السياسة في الشرق الأوسط محفوفة بالغموض، سيتوجب على صانعي السياسات في إسرائيل التفكير في الردود على التطبيع التي قد تكشف عن احتمال تبدّل الديناميات في المنطقة ككل، لا سيما تبدّل التركيبة وميزان القوى بين مختلف تكتّلاتها. وبعد مرور قرابة العقد على سلسلة الانتفاضات التي قلبت النظام الإقليمي رأساً على عقب، قد يتبين أن اتفاقيتي التطبيع الأخيرتين تشكلان هزّة ارتدادية ضخمة.

*سارة فوير هي زميلة “روزنبلوم فاميلي” في معهد واشنطن وزميلة باحثة في معهد “دراسات الأمن القومي” في تل أبيب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى