ترجمات أجنبية

معهد واشنطن – منع إنفجار برمیل البارود في غزة

 معهد واشنطن – مایكل ھرتسوغ وغیث العمري *-   تموز/یولیو 2018

منذ نهاية آذار/مارس ۲۰۱۸ ، تشھد الحدود بین غزة وإسرائیل أعمال عنف متكررة بشكلٍ ملحوظ. وتحت شعار “مسیرة العودة الكبرى” – التي تنادي بالمطلب الفلسطیني الأساسي القاضي بعودة اللاجئین إلى إسرائیل – یتجمّع الآلاف من سكان غزة على طول الحدود كل یوم جمعة.

وھناك یتظاھرون ضد إسرائیل، ویتحدوّن جسدیا اًلسیاج الحدودي، ویھددون بالتسلل إلى الأراضي الإسرائیلیة بشكل جماعي. بالإضافة إلى ذلك، تم إرسال المئات من الطائرات الورقیة الحارقة وبالونات الھیلیوم، وبعضھا كان محمّلا بالمتفجرات، إلى إسرائیل، مما تسبب في اندلاع حرائق ھائلة. وفي حین تراجعت حدة المواجھات الحدودیة في الأسابیع الأخیرة، إلّا أنّ التوترات بین حركة “حماس” وإسرائیل تفاقمت وأدتّ إلى وقوع سلسلة من الصراعاتشملت إطلاق صواریخ من غزة وشن ضربات جویة إسرائیلیة، الأمر الذي یزید من مخاطر وقوع مواجهة عسكریة أخرى بین الطرفین.

اشتباكات عنیفة على طول الحدود

في الوقت الذي انطلقت فیه المظاھرات الحدودیة بدعوة من نشطاء المجتمع المدني في غزة، كانت “حماس”، الحركة الإسلامیة الحاكمة في غزة، القوة الدافعة وراءھا من الناحیة اللوجستیة والمالیة والسیاسیة وعلى المستوى الإعلامي. فقد نسّقت التجمعات على طول الحدود، ونظّمت مجموعات یقودھا أفراد باللباس المدني وینتمون إلى الجناح العسكري الخاص بها بھدف الاشتباك مع إسرائیل واقتحام السیاج، ومن بین ھذه المجموعات “وحدة قص السلك”. كما موّلت “حماس” خدمة المواصلات إلى الحدود، وأغرت الناس، ودفعتلهم مبالغ مالیة وضغطت علیھم للمشاركة، وخصصت تعویضات لعائلات سكان غزة الذین قتُلوا أو جُرحوا خلال الاشتباكات.

وقد تلقت بعض ھذه الجھود دعم مالي من إیران. ومع ذلك، كانت “حماس” بعیدةً عن تحقیق ھدفها المتمثل في تعبئة ما لا یقل عن ۱۰۰ ألف مشارك. ففي البدایة، تمكّنت من حشد حوالي ٤۰ ألفشخص في ۳۰ آذار/مارس، ثم تراجعت الأرقام تدریجیا لتصل إلى نحو ۱۰ آلاف مشارك على مدى عدة أسابیع، ثم عادت لترتفع إلى ٤۰ ألف مشارك في “یوم الذروة” الأول، أي ۱٤ أیار/مایو وھي ذكرى استقلال إسرائیل/”یوم النكبة” ویوم نقل السفارة الأمریكیة إلى القدس. وبعد ذلك، انخفض العدد مرة أخرى لیصل إلى ۱۰ آلاف مشارك أو أقل من ذلك، وتضمن یوم الذروة التالي، أي ۸ حزیران/یونیو، وھو یوم القدس وهي تسمیة إیرانیة یتم إعلاء ذكرى یومها في یوم الجمعة الأخیر من شهر رمضان المبارك.

لقد أطلقت “حماس” المظاھرات باعتبارھا “مقاومة سلمیة”، مستندة في ھذا الادعاء إلى العدد الكبیر نسبیا من المتظاھرین المدنیین وحقیقة أن معظمھم امتنع عن ممارسة العنف. إلّا أنّ “حماس” استخدمت في الواقع ھذه المظاھرات لتتعمد حدوث احتكاكات عنیفة مع إسرائیل، الأمر الذي أسفر عن مقتل عدد كبیر من الفلسطینیین. وتحت غطاء تجمعات ھائلة في مواقع مرتبة مسبقا،ً وبمساعدة من ستارة الدخان التي أحدثها حرق الإطارات، دأبت مجموعات تتألف من مئات الناشطین التابعین لحركة “حماس” على اقتحام السیاجالحدودي ومحاولة تخریبها واختراقها أو وضع المتفجرات علیها . كما قام ھؤلاء الناشطون بإلقاء قنابل المولوتوف والصخور. وتم إرسال مئات الطائرات الورقیة الحارقة وبالونات الهیلیوم إلى إسرائیل بشكلیومي. وانتشرت الحرائق الناتجة عنھا على نطاق واسع، مما أثر على آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعیة والغابات في جنوب إسرائیل. وقد استخُدمت أیضا الأسلحة الناریة والقنابل الیدویة من حین إلى آخر.

ویعتقد “جیش الدفاع الإسرائیلي” أنه أحبط خططا ترمي إلى اختطاف جنود إسرائیلیین. وعلى الجانب الفلسطیني من معبر “كیریم شالوم” – شریان المساعدات الانسانیة إلى غزة الذي یعمل على توصیل الغاز والوقود والأغذیة والأدویة وغیرھا من الإمدادات الأساسیة القادمة من إسرائیل – قامت مجموعات من الشبان الفلسطینیین بإحراق البنى التحتیة وتخریبھا بشكل كبیر.

معضلة إسرائیل

في الواقع كانت الخطط التي رسمتها “حماس” أكثر طموحا بكثیر من مجرد إطلاق مظاھرات حدودیة وغیرھا من الاستفزازات المحدودة. فقد تمثلت الخطة بقیام عدة آلاف من الفلسطینیین بالدخول إلى إسرائیل حال نجاح الناشطین باختراق السیاج الحدودي. وقبل “یوم الذروة” الأول في ۱٤ أیار/مایو، قامت “حماس” بنشر خرائط على مواقع التواصل الاجتماعي تظھر فیھا المراكز السكانیة الإسرائیلیة المتاخمة للحدود، بالإضافة إلى خطط لتنظیم مسیرات انتصار فیها.

أما بالنسبة إلى إسرائیل، فلطالما شكّل ھذا النوع من التحدیات سیناریو مثیرا للقلق. وعلى وجه التحدید، تنظر إسرائیل إلى النداءات التي أطلقتها عدوتها اللدودة “حماس” بشأن عملیات التسلل المدنیة الواسعة النطاق تحت اسم “العودة” (بالنسبة للإسرائیلیین، یرمز ھذا التعبیر إلى تدمیر بلادھم) باعتبارها تهدیدا كبیرا للأمن القومي یستلزم دفاعا قویا.ً

بالإضافة إلى ذلك، تشعر إسرائیل بالقلق من الهجمات الإرھابیة – إذ تقع بعض المراكز السكانیة الإسرائیلیة على بعد مئات الأمتار فقط من الحدود – إلى جانب عملیات الخطف والتخریب المستهدف للبنیة التحتیة الأمنیة الأساسیة، ومن بینها نظام مكافحة الأنفاق الذي یتم تطویره حالیا.ً

ویشكّل ھذا النظام تهدیدا كبیرا لأنفاق “حماس” الهجومیة العابرة للحدود، والتي تعتبرھا الجماعة سلاحا قویا ضد إسرائیل. وبالتالي فإن نظام مكافحة الأنفاق یقف مباشرة في مرمى المجموعة. وعلاوة على ذلك، توصل صناع القرار السیاسي والعسكري في إسرائیل على حد سواء، إلى نتیجة مفادھا أنه إذا أخفقت إسرائیل في وقف الاقتحام الجماعي من الجانب الفلسطیني من الحدود، فسیضطر الإسرائیلیون إلى استخدام قوة أكبر بكثیر، مما سیؤدي إلى وقوع المزید من الضحایا.

ووفقا لًمؤسسة الدفاع الإسرائیلیة، بما أن القدرات غیر القاتلة القائمة حالیا غیر فعالة من بعید، أو ضد جموع ھائلة، أو في المناطق المفتوحة، أو من خلال السیاج الحدودي، فقد اضطر “جیش الدفاع الإسرائیلي” إلى نشر قناصین تحت إشراف دقیق من قبل كبار الضباط.

وقد تم فرض أوامر صارمة تقضي باستھداف أرجل الناشطین الذین یقودون جهود الاقتحام وكذلك أولئك الذین یحاولون تدمیر السیاج الحدودي، وتخریب البنیة التحتیة الأمنیة، والتسلل إلى إسرائیل. وفي مرحلة ما، بدأت إسرائیل بتنفیذ ضربات جویة انتقامیة مدروسة ضد البنیة التحتیة الإرھابیة داخل غزة كتحذیر ل “حماس” من أن أي زیادة في التصعید قد تكون مكلفة للغایة.

وعلى الرغم من كافة الاحتیاطات، أثبتت ھذه المواجهة المتجددة، كما كان متوقعا،ً أن ھذا سیناریو خاسر في جمیع الأحوال بالنسبة إلى إسرائیل. ففي حین نجحت الاشتباكات الحدودیة القائمة منذ ربیع عام ۲۰۱۸ في منع جهود “حماس” المركزة لتدمیر السیاج الحدودي وتحقیق التسلل الجماعي داخل أراضیها، إلّا أنها أسفرت عن مقتل أكثر من ۱۳۰ فلسطینیا – من بینھم ٦۲ شخصاً قتُلوا في ۱٤ أیار/مایو وحده – الأمر الذي أثار اتھامات دولیة حول استخدام “قوة غیر متكافئة”. وفي أعقاب ھذه الأحداث، من المرجح أن تبذل المؤسسة الدفاعیة الإسرائیلیة جھودا أكبر في تطویر قدرات غیر قاتلة طال انتظارھا تكون مناسبة لھذه السیناریوھات.

فتیل الاضطرابات

تعود أصول الأزمة الحالیة إلى شھور سابقة، عندما بدأت عناصر المجتمع المدني في غزة بالتخطیط ل “مسیرة العودة الكبرى”. فقد أرادت إنشاء نسخة فلسطینیة من نماذج الاحتجاج الشعبیة التاریخیة مثل تلك التي أطلقھا “مھاتما غاندي”، بینما كانت تدرك أن الاندفاع الھائل نحو إسرائیل سوف یؤدي لا محالة إلى رد قوي.

وفي المفھوم الشامل، كانت تسعى إلى توحید الشعور العمیق لسكان غزة بالضیق من وضعھم الإنساني والاقتصادي السيء، مع العداء الفلسطیني الطویل الأمد تجاه إسرائیل، والدعم الشعبي ل “حق اللاجئین في العودة”، وھو مطلب جوھري للحركة الوطنیة الفلسطینیة ترفضه إسرائیل رفضا قاطعا.ً

ولا یمكن إنكار حالة الأزمة الدائمة في غزة. فبعد حكم دام أكثر من ۱۱ عاما،ً إلى جانب إثارة ثلاثة حروب مع إسرائیل، تترأس “حماس” قطاع یعاني من بنیة تحتیة منھارة مع عدم توفیر الحركة أي خدمات للشعب.

[فعلى سبیل المثال]، لا یحصل سكان غزة إلا على أربع ساعات من الكھرباء یومیا،ً مقابل انقطاع طویل لھا، كما یعانون من شحّ حاد في میاه الشرب، إلى جانب نظام صرف صحي معتل، ورعایة صحیة غیر كافیة على الإطلاق، ونسبة بطالة تزید عن ٤۰ ٪ بین عامة السكان، وأكثر من ٥۰ ٪ بین الشباب، وما یقابل ذلك من فقر مدقع. ومن بواعث الاستیاء الأخرى أیضاً بطء وتیرة إعادة الإعمار بعد حرب “حماس” مع إسرائیل عام ۲۰۱٤ ، فضلا عن الإغلاق النموذجي للحدود مع مصر وإسرائیل، مما یحد بشدة من قدرة تنقل الأشخاصوالسلع، وتضاؤل احتمالات المصالحة بین “حماس” و”السلطة الفلسطینیة” أو حدوث أي انفراج سیاسي إسرائیلي – فلسطیني.

وفي الوقت نفسه، سارعت “حماس” إلى إدراك الإمكانات التي توفرھا الاحتجاجات الجماھیریة واستغلتھا في وقت مبكر. فقد وصلت الحركة إلى طریق مسدود في حكم غزة، لا سیّما بعد فشل جھود المصالحة مع “السلطة الفلسطینیة” في العام الماضي، وسعت إلى توجیه الطاقات الشعبیة السلبیة بعیدا عنھا وباتجاه إسرائیل، آملة في الاستفادة منھا خلال سیر الأحداث. ونظراً لأنه تم تعطیل الأصول العسكریة الرئیسیة ل”حماس” بشكل متزاید من قبل أنظمة إسرائیل الفعالة المضادة للصواریخ والمكافحة للأنفاق، بدأت الحركةتفكر باستغلال ما یسمى بالمقاومة الشعبیة لاستخدامھا كسلاح قوي لجعل محنة غزة تتصدر جدول الأعمال الدولي مع إعطاء الانطباع بقیام مظاھرات سلمیة یتم قمعھا بالأسلحة الناریة. ویسعى ھذا النھج إلى إعادة تنشیط الاستثمارات الخارجیة في الحلول الإنسانیة، وفرض تخفیف الحصار الإسرائیلي والمصري على غزة، وتھمیش “السلطة الفلسطینیة” وزعیمھا محمود عباس، ومنع “السلطة الفلسطینیة” من فرض المزید من العقوبات العقابیة ضد “حماس” وغزة.

أمّا العنصر الضروري لتحقیق ھذه الأھداف فھو الاحتكاك العنیف مع إسرائیل. ولھذا السبب، قامت “حماس” بتنظیم الناشطین ودفعھم نحو الحدود متجاھلة بًذلك التحذیرات الإسرائیلیة والضحایا المتراكمة.

وھذا بدوره أثار انتقادات داخلیة من قبِل مبادري الحملة الذین شعروا أن “حماس” قامت بتحریفھا لتحقیق أغراضھا الخاصة، وكذلك تم انتقاد الحركة من قبل قادة “السلطة الفلسطینیة” كالشیخ محمود الھباش، مستشار عباس للشؤون الدینیة، الذي ألقى اللوم على “حماس” لأنھا “تضحّي” بالنساء والأطفال.

وردا على الادعاءات الداخلیة بأن “حماس” جنت منافع سیاسیة مقابل أرواح المدنیین في غزة، أكد عضو المكتب السیاسي لحركة“حماس” صلاح البردویل في ۱٦ أیار/مایو عبر شاشة تلفزیون غزة أن الجماعة دفعت الثمن الأكبر، مشیرا إلى أنھم دفعوا دماء ٥۰ من أصل ٦۲ شخصاً في ۱٤ مایو/أیار وحوالي نصف ھذا العدد في الجولات السابقة من الاشتباكات الحدودیة. وفي ھذا الإطار، تؤكد البیانات الإسرائیلیة ھذه الادعاءات إلى حد كبیر، حیث أشارت إلى أن نحو ۸۰ في المائة من جمیع القتلى الفلسطینیین في ھذه المواجھات كانوا من الأعضاء المعروفین لحركة “حماس” وجماعات مسلحة أخرى في غزة، حیث قتُل معظمھم بالقرب من السیاج أو علىالسیاج.

عملیة “حماس” لحفظ التوازن

خططت “حماس” لأن تبلغ المظاھرات ذروتھا في ۱٤ و ۱٥ أیار/مایو، بمناسبة “یوم النكبة” ونقل السفارة الأمریكیة إلى القدس. وقد تضمنت أولى تلك الأیام وقوع الاشتباكات الأكثر عنفا خلال الفترة كلھا. لكن في نھایة ذلك الیوم، تم إقناع “حماس” بتقلیل حدتھا بعد تكبدّھا إصابات وضحایا بشریة فادحة، وتلقیھا تحذیرات

صارمة من إسرائیل، وتعرضھا لضغط داخلي لتقیید عملیاتھا أو تصعیدھا بصورة كبیرة، والأھم من ذلك،تقدیم مصر حوافز مؤكدة، مثل فتح معبر رفح خلال شھر رمضان، واقتران ذلك بمثبطات مؤكدة.

وھكذا، في ۱٥ أیار/مایو، شارك ألف شخص فقط في المظاھرات، مما أظھر، على وجه العموم، أنه یمكن ل”حماس” أن تكبح أنشطتھا في غزة إذا أرادت ذلك. ومع ذلك، لا یزال خطر التصعید المستقبلي مستمر إلى حد كبیر.

وقد أسفرت الجھود المبذولة على الحدود عن نتائج متباینة بالنسبة ل “حماس”. فمن الناحیة السلبیة، فشلت الحركة في حشد سكان غزة على المشاركة بأعداد كبیرة كما أرادت، أو خرق السیاج والتسلل داخل إسرائیل، أو إثارة احتجاجات كبیرة في الضفة الغربیة والعالم العربي الأوسع. بالإضافة إلى ذلك، تواجه “حماس” تساؤلات داخلیة حول ما إذا كانت التكالیف الضخمة التي تم تكبدھا قد ذھبت سدى. أمّا من الناحیة الإیجابیة، فقد نجحت الحملة في زیادة الوعي الإقلیمي والدولي بمشاكل غزة، وكشفت عن میزة نشر المدنیین بدلا من الصواریخ ضد إسرائیل، وأصابت إسرائیل بنیران خطیرة. كما عرّضت إسرائیل لانتقادات دولیة وأشعلت التوترات المتصاعدة بین إسرائیل وتركیا، وعززت مشاركة مصر بطریقة أكثر استباقیة، ووضعت “حماس” ككتلة “المقاومة” الفلسطینیة الرئیسیة ضد إسرائیل، مما سلط الضوء على فشل عباس في دفع القضیةالفلسطینیة إلى الأمام، وتعقید مسیرتھا لتطبیق المزید من العقوبات على غزة.

ومن الواضح أن “حماس” تسعى إلى ترجمة المصادمات الحدودیة إلى إنجازات ملموسة، مع التركیز على تخفیف عزلة غزة وتحسین آفاقھا الإنسانیة والاقتصادیة. ولكي یحدث ذلك، یحتاج الأمر إلى استمرار الاحتكاك مع إسرائیل، ولكن بأسلوب احتوائي نسبیا.ً وفي الوقت الذي تشارك فیه الحركة في حوار مع مصر وقطر بشأن وقف إطلاق نار محتمل مع إسرائیل، تواصل “حماس” التلویح بالتھدید بممارسة المزید من الاشتباكات الحدودیة، الأمر الذي یسلط الضوء على أیام ذروة إضافیة مثل ٥ و ۸ حزیران/یونیو، على الرغم من فشل الحركة في جذب مشاركة كبیرة خلال تلك الأیام. كما أنھا تحدت إسرائیل بشكل متزاید من خلال إطلاق الطائرات الورقیة الحارقة التي سبق الإشارة إلیھا، ولجأت في الآونة الأخیرة إلى إطلاق الصواریخفي وجه الضغوط الإسرائیلیة المتصاعدة.

احتمالات كبیرة للتصعید

ظھرت الخطورة الكامنة لھذا الوضع في ۲۹ أیار/مایو، عندما أطلقت “حركة الجھاد الإسلامي في فلسطین”، ومن ثم “حماس”، نحو ۱٥۰ صاروخا وقذیفة ھاون نحو إسرائیل، مما عكس نطاقا لم یسبق لهمثیل منذ حرب غزة عام ۲۰۱٤ . وجاء ھذا الوابل من الصواریخ في أعقاب مقتل ثلاثة نشطاء مسلحین من “حركة الجھاد الإسلامي في فلسطین” على ید إسرائیل، حاولوا وضع متفجرات على السیاج الحدودي.

ومن غیر الواضح ما إذا كانت “حركة الجھاد الإسلامي في فلسطین” قد نسقت إطلاق تلك الصواریخ مع “حماس” أو إلى أي مدى جرى ذلك التنسیق. والأمر الواضح ھو أنه طوال أسابیع امتنعت “حماس” عن إطلاق الصواریخ ردا على الخسائر الفلسطینیة [في الأرواح]، بینما فرضت السیاسة نفسھا على الجماعات المتطرفة الأخرى. أمّا الآن، فإن الاعتبارات المحلیة قد أجبرت الحركة على رفع الحظر فعلیا والانضمام إلى “حركة الجھاد الإسلامي في فلسطین”.

وفي حزیران/ یونیو، مع انحسار التظاھرات الحدودیة، نسّقت “حماس” الزیادة في تحلیق الطائرات الورقیة الحارقة وبالونات الھیلیوم. وبالتالي، أدت الحرائق التي انتشرت على نطاق واسع نتیجة ھذه المقذوفات إلى قیام مواطنین إسرائیلیین بتوجیه نداءات أكثر حدة من أجل مضاعفة رد الحكومة الإسرائیلیة.

وبینما عززت إسرائیل غاراتھا الجویة ضد أھداف “حماس” في غزة، بدأت “حماس” إلى جانب “حركة الجھاد الإسلامي في فلسطین” وجماعات مسلحة أخرى في القطاع في الرد بإطلاق الصواریخ، استنادا إلى معادلة جدیدة للردع بعنوان “القصف بالقصف”. ونتیجة لذلك، نشطت ھذه التبادلات في منتصف حزیران/یونیو، مع إطلاق عشرات الصواریخ على إسرائیل.

ویبدو أن “حماس” انتقلت من الامتثال الأساسي لاتفاق وقف إطلاق النار الذي استمر ثلاثة أعوام ونصف مع إسرائیل إلى سیاسة “العنف المسیطَر علیه“. ویدل ذلك على تحوّل محفوف بالمخاطر . ففي حین لیس ل “حماس” وإسرائیل على السواء مصلحة في الدخول في مواجھة عسكریة كبیرة أخرى – حیث تفضل إسرائیل بالتأكید عدم الانجرار إلى مثل ھذه المواجھة قبل أن تستكمل تطویر نظام مكافحة الأنفاق في وقت ما من العام المقبل – إلا أن الطرفین یملكان قدرة محدودة على التحكم في الدینامیكیات، وقد یؤدي تدھور سریع في الأوضاع إلى اندلاع حرب أخرى في أي لحظة. وفي ھذا الصدد، یدرك كل طرف تماما أن الطرف الآخر یرید أن یتجنب شن حرب شاملة، لذا یقوم كل منھما بتجاوز حدوده، مما قد یؤدي إلى وقوع أخطاء في الحسابات.

وفي غمار ھذا الصراع، یتسترّ بعُد آخر مشؤوم، ھو البعد الإیراني. إذ یعتقد المسؤولون الإسرائیلیون أن “حركة الجھاد الإسلامي في فلسطین”، التي تموّلھا طھران، تعمل بشكل فعال بما یصب في مصلحة إیران، وذلك عبر إطلاقھا الصواریخ التي تقوم من خلالھا بتوجیه رسالة مفادھا أن إیران تملك الأدوات العسكریة اللازمة لمحاربة إسرائیل خارج الساحة السوریة. كما أن الجناح العسكري لحركة “حماس” یخضع لبعض النفوذ الإیراني.

أمّا بالنسبة إلى إسرائیل، فإن التركیز الاستراتیجي على التصديّ لإیران في سوریا بالإضافة إلى لبنان یعزز رغبتھا في تجنب مواجھة عسكریة كبیرة أخرى في غزة.

حالة تدعو إلى تحوّل منھجي

إنّ غزة عبارة عن برمیل بارود یمكن إشعاله في أي لحظة. وتتطلب مواجھة التحدیات تحدید أولویات السیاسة، والشعور بالإلحاح، وخطط العمل الواقعیة الملموسة والقیادة الأمریكیة.

وتتمثلّ الأولویة الملحة في نزع فتیل الوضع المتوتر للغایة على طول الحدود بین إسرائیل وغزة. وبذلك تكون مصر في موقع فرید نظرا لقربھا من غزة، وعلاقتھا الوثیقة مع إسرائیل والولایات المتحدة، ووضعھا الإقلیمي العام. ولكن لا یمكن نجاح [نظام] وقف التصعید بصورة مستدامة دون معالجة الأزمات الإنسانیة والاقتصادیة في غزة بشكل فعال.

ویتطلب حل أزمة غزة أیضاً تحلیلا دقیقا للأسباب التي تكمن وراء معاناة المنطقة لفترة طویلة، وسبب فشل محاولات الإصلاح السابقة. ویمكن تحدید عدد من الأسباب، لكن جمیعھا تؤدي إلى حكم غزة من قبل “حماس” – حركة إسلامیة مصنفّة دولیا كجماعة إرھابیة، وترفض الاعتراف بإسرائیل أو حتى تحقیق السلام

معھا. كما أنھا تتبنى العنف وتمنح الأولویة للتسلح على حساب رفاه الشعب وتتودد إلى إیران و”حزب لله”.

وتقوم الجماعة بكل ھذه الأعمال بینما تطمح لتولي قیادة الحركة الوطنیة الفلسطینیة.

وھذا ھو السیاق الذي ینبغي أن تفُھم فیه الأسباب المحددة للأزمة المستمرة في غزة. أولا،ً تعَتبر إسرائیل و”السلطة الفلسطینیة” ومصر أن “حماس” تمثلّ تھدیدا لأمنھا القومي.

وبالنسبة لمصر على وجه التحدید، نشأت “حماس” كفرع فلسطیني لجماعة “الإخوان المسلمین”، وتشكّل الروابط المستمرة بین الحركتینمصدر قلق، وذلك في ضوء العلاقة العدائیة بین حكومة السیسي (والحكومات السابقة) والجماعة الإسلامیة.

ثانیا،ً تلقي معظم الجھات الدولیة والإقلیمیة، مع الاستثناء الواضح لتركیا وقطر، اللوم أساسا على “حماس” لتدھور أوضاع غزة، وكانت مترددة جدا في الاستثمار في غزة إذا كان من الممكن أن یعود ذلك بالفائدة على القیادة الإسلامیة.

ثالثاً، لا تبدي الجھات المانحة الدولیة سوى القلیل من الحماس إزاء ضخ أموالھا في “منطقة حرب” تسیطر علیھا “حماس” ومستھدفة بصورة عرضیة من قبل إسرائیل، لا سیمّا مع منح أولویات التمویل الملحة للمناطق الأخرى.

رابعا،ً أعطت معظم الجھات الفاعلة ذات الصلة، ومن بینھا الولایاتالمتحدة وإسرائیل، الأولویة للعمل في غزة من خلال “السلطة الفلسطینیة” حتى لا تقوّض مكانة عباس، أو تعمّق الانقسامات الفلسطینیة، أو تضفي الشرعیة على “حماس” . ومع ذلك، رفض عباس تحمّل المسؤولیة عن القطاع وفي القطاع، وتبنى مواقف غیر مرنة ساعدت على انھیار مبادرة المصالحة بین “السلطة الفلسطینیة” و”حماس” عام ۲۰۱۷ ، وأدت إلى تفاقم الأزمة عن طریق قطع الأموال الأساسیة عن المنطقة.

واستخدم عباس ھذا التكتیك الأخیر في محاولة فاشلة لإجبار “حماس” على الالتزام بشروطھا للمصالحة، أو لتشجیع سكان غزة على الانتفاض والإطاحة بالقیادة. خامسا،ً بغض النظر عن الإجراءات الإسرائیلیة الرامیة إلى تعزیز قدرة المعابر الحدودیة وتخفیف القیود المفروضة على السلع المسموح بدخولھا إلى غزة وتقدیم الحلول الإنسانیة للقطاع، ما زالت العدید من القیود قائمة لأسباب تتعلق بالأمن.

بالإضافة إلى ذلك، تسعى الحكومة الإسرائیلیة إلى استعادة رھینتین إسرائیلیتین ورفات جندیین إسرائیلیین تحتجزھا “حماس” كورقةمساومة، كما أن الضغوط الداخلیة تجعل من الصعب على الحكومة عمل المزید لتخفیف الضغط على غزة قبل أن تقوم “حماس” بذلك.

لقد بُذلت محاولات كثیرة على مر السنین للتغلب على ھذه التحدیات وتمكین إعادة تأھیل غزة، من خلال إنفاذ وقف إطلاق النار أو ھدنة طویلة الأجل بین إسرائیل و”حماس”، أو عن طریق تسھیل سیطرة “السلطة الفلسطینیة” على القطاع من خلال المصالحة الفلسطینیة. غیر أن ھذه المحاولات لم تفلح لأنھا كانت مرھقة جدا أو غیر واقعیة، أو مبنیة على أفكار غیر ممكنة عملیا مثل نزع سلاح “حماس”. وفي الوقت نفسه، ومع مرور الوقت، تفاقم الوضع العام في غزة بشكل كبیر بدلا مًن تحسنه، مما زاد من الضغط على حیاة سكان القطاع البالغ عددھم نحو ملیوني نسمة وألحق تأثیرات تماوجیة سلبیة على إسرائیل ومصر المجاورتین وعلى دول أخرى.

وفي مواجھة ھذه التحدیات الواضحة، تبرز ثلاث مبادرات رائدة حالیا في غزة:

(۱) تحاول مصر ضمان إنفاذ وقف إطلاق النار بین إسرائیل و”حماس”.

(۲) یعمل “المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملیة السلام في الشرق الأوسط”، نیكولاي ملادینوف، بھدوء لتأمین ما یكفي من التمویل الأولي للتعجیل في إطلاق بعض مشاریع إعادة التأھیل السریعة في غزة، بالإضافة إلى تأمین آلیة على غرار صندوق ائتمان دولي لاستیعاب ھذه المساھمات وتوجیھھا إلى غزة، متجاوزا بذلك “حماس” وربما “السلطة الفلسطینیة” أیضا.ً

(۳) تعمل الولایات المتحدة على تأمین تمویل إقلیمي كبیر لمشاریع غزة، إلّا أنھا لم تلقَ حتى الآن سوى نجاحاً محدوداً.

وفي غضون ذلك، تقوم الولایات المتحدة والأردن وإسرائیل بدراسة خطة متواضعة لتحسین السیولة في غزة عن طریق ضخ “فئة نقدیة صغیرة” إلیھا على شكل أوراق نقدیة وعملات معدنیة. إلا أنه حتى كتابة ھذه السطور، لم تؤتِ أي من ھذه الخطط ثمارھا، ومن غیر الواضح ما إذا كانت متزامنة بشكل جید.

ولتحسین آفاق مثل ھذه المبادرات، یوضح التحلیل الشامل ھنا ضرورة حصول تحوّل منھجي. لذلك یجب أن یستند أي مخطط لقطاع غزة على الافتراضات والمبادئ التالیة:

للأسف، من المرجح أن تبقى “حماس” الجھة الحاكمة في غزة في المستقبل المنظور. ولا ینبغي أن تقوم أي سیاسة واقعیة تجاه غزة على افتراض أو أمل بأن یتم إسقاط “حماس” أو استبدالھا في أي وقت قریب – لا عن طریق انتفاضة یقوم بھا سكان غزة، ولا من خلال “السلطة الفلسطینیة” (عن طریق المصالحة أو إجراء الانتخابات)، ولا من قبل إسرائیل (عن طریق القیام بعملیة عسكریة)، ولا من خلال أي وسیلة أخرى.

وعلى أیة حال، لیس ھناك ما یضمن أن تكون بدائل “حماس” داخل غزة أفضل [مما توفره الحركة حالیا]ً. وفي حین ینبغي بذل كل الجھود للحفاظ على العزلة الدبلوماسیة ل “حماس” وتقلیل تمكینھا في مقاربة دولیة مستقبلیة تجاه القطاع، إلّا أنه یجب اعتبار الحركة الجھة المسؤولة في غزة في السراء والضراء.

طالما بقیت “حماس” الجھة المسؤولة [في القطاع]، یمكن للجھات الدولیة الفاعلة أن تسعى لكبح أنشطتھا الخبیثة والمزعزعة للاستقرار، ولكن علیھا أن تدرك أنه من غیر المحتمل أن تغیرّ مثل ھذه التحركات الطابع الأساسي للجماعة ولن ترغمھا على نزع سلاحھا. أمّا الوصفة التقلیدیة لإسرائیل في غزة، التي تدعو إلى “إعادة التأھیل مقابل نزع السلاح”، فتضع ھذا الأخیر كھدف نھائي، ومع ذلك لا یمكنه أن یخدم كمنصة عملیة لعملیة إعادة التأھیل. وحتى لو كان نزع السلاح الكامل ھدفا عملیا في المستقبل المنظور (ولیس جزءا من رؤیة طویلة المدى)، فإن إسرائیل ومصر ستواصلان جھودھما بشكل قاطع لإحباط حیازة “حماس” للسلاح. وكما ذكرنا، سبق وأن بدأت إسرائیل بتحیید الأصول العسكریة الاستراتیجیة ل”حماس” أيصواریخھا وأنفاقھا – وسرعان ما ستفعل الشيء نفسه فیما یخص الطائرات الورقیة والبالونات الحارقة.

من الناحیة العملیة، یتعین على المجتمع الدولي أن یركز أولا على إصلاح كل من البنیة التحتیة والاقتصاد المعتلیَّن في غزة، في الوقت الذي یسعى فیه إلى تقلیل المنافع الاقتصادیة والسیاسیة المباشرةل”حماس”. یجب على الجھات الفاعلة الخارجیة أن تختار الحلول القلیلة التكلفة نسبیا والسریعة التنفیذ، وأن تتجنب الحلول التي تخلق مجموعات جدیدة من التكالیف المتكررة.

ویمكن أن تشمل ھذه الحلول إجراء تحسینات في البنیة التحتیة لشبكة المیاه والكھرباء، وإیجاد حلول بسیطة نسبیا لتعزیز إمدادات المیاه والكھرباء (على سبیل المثال، إمدادات المیاه المحسنة من إسرائیل بدلا من انتظار بناء محطة التحلیة البحریة المزمع إنشاؤھا والتي ستكون مكلفة وستستغرق وقتا طویلا حتى تبصر النور)، أو إنشاء محطات الطاقة الشمسیة قلیلة التكلفة لتشغیل أنظمة میاه الصرف الصحي. ولكي یكُتب النجاح لھذه المرحلة، یجب أن تكونمتواضعة نسبیا بدلا من محاولة جعلھا “شاملة”. ویجب أن تستند على التزام “حماس” بوقف إطلاق نار دائم ومستقر، ویشمل ذلك إقامة منطقة عازلة على طول الحدود ووقف إطلاق الصواریخ وحفر الأنفاق العابرة للحدود (بطبیعة الحال ستسعى إسرائیل إلى ربط ھذه العملیة بإعادة الرھائن ورفات الجندیین الإسرائیلیین التي تحتجزھم “حماس”). ولیس من السھل أن تقبل الحركة بمثل ھذه الخطوات أو أن تنفذھا، ولكن على “حماس” أن تقتنع بأن المشاریع لن تنفذّ إلا بعد خمود الأعمال العدائیة.

وعلى نحو مماثل، قد تتقبل “حماس” فكرة أن وقف إطلاق النار سیؤدي إلى تخفیف القیود المفروضة على المعابر الحدودیة بین غزة وإسرائیل ومصر، فضلا عن التعجیل في مشاریع البنیة التحتیة والمشاریع الاقتصادیة الملحّة.

وسیتطلب النجاح في ھذه المجالات تنسیقا وثیقا بین الجھات الفاعلة الرئیسیة – أي الولایات المتحدة والأمم المتحدة ومصر وإسرائیل.

من المفضّل العمل من خلال “السلطة الفلسطینیة”، إلّا أنّ حالة الغلیان التي تعیشھا غزة لا تحتمِل التأجیل. فسیاسة عباس في معاقبة “حماس” من خلال فرض عقوبات مالیة – أي قطع التمویل للمرتبات العامة وتجمیدھا، وقطع الكھرباء والرعایة الصحیة والتعلیم وغیر ذلك، فضلا عن زیادة الضرائب على السلع التي تدخل غزة ورفض إنفاقھا في القطاع الفقیر – قد زادت الطّین بلةّ. وإذا اندلعت حرب بین إسرائیل و”حماس” نتیجة لذلك، فلن ینتاب عباس أيُّ ھاجسٍ بشأن إدانة إسرائیل علنا بینما یأمل سرا بأن یتم سحق“حماس”. وبناءً على ذلك، یتعینّ على المجتمع الدولي توجیه إنذار واضح ل”السلطة الفلسطینیة” بأن علیھا الاضطلاع بمسؤولیاتھا تجاه غزة، ویشمل ذلك وضع حد للتدابیر العقابیة ضد القطاع والمساعدة الفعالة في تقدیم الحلول.

وفي ظل غیاب ھذه البادرة، ستضطر الأطراف الأخرى إلى تجاوز “السلطة الفلسطینیة” فیما یخص تطبیق الإصلاحات الأساسیة على القطاع. وقد تكون الآلیة المذكورة سابقا،ً والتي ضمنھا مبعوث الأممالمتحدة، إحدى الوسائل المحتملة للاستثمار المباشر في غزة، بدلا من إخضاع المشاریع إلى حق النقض من قبل “السلطة الفلسطینیة” .

ولزیادة فعالیة الأموال التي یتم جمعھا من أجل غزة، یتعین على البلدان المانحة، بالتشاور مع الجھات الفاعلة الإقلیمیة، النظر في تخصیص جزء من مساعداتھا الممنوحة ل”السلطة الفلسطینیة” مباشرة إلى غزة من خلال الآلیة الدولیة المقترحة. ویجب أن تتضمن ھذه الخطة تدابیر صارمة لمراجعة الحسابات لضمان عدم وصول الأموال إلى أیدي “حماس”.

وبالمثل، یجب منع “حماس” من استخدام قوتھا على الأرض لأخذالأموال من المساعدات الخارجیة للقطاع، مثل تحویل اتجاه مواد البناء أو سحب الضرائب أو أموال الحمایة.

وإذ ا شاركت “حماس” في ھذه الأنشطة ، كما فعلت في الماضي، ینبغي إعادة فرض القیود على الحدود ووقف تدفق الأموال. وعلى أي حال، یمكن أن تتضمن الأموال المخصصة لغزة نسبة مئویة متفق علیھا، من الضرائب التي تجمعھا إسرائیل نیابة عن “السلطة الفلسطینیة”، لا سیمّا تلك المفروضة على السلع والخدمات التي تدخل القطاع.

فمنذ أن استولت “حماس” قسرا على غزة وانتزعتھا من “السلطة الفلسطینیة” في عام ۲۰۰۷ ، واصلت “السلطة الفلسطینیة” تخصیص قدر متقلب من میزانیتھا، یتراوح بین ۲۰ و ٤۰ في المائة،لتلبیة احتیاجات غزة. ومع ذلك، وكما ذكُر، أخضع عباس ھذا التمویل بشكل متزاید لاعتبارات سیاسیة تتعلق بالعداوة القائمة بین “السلطة الفلسطینیة” و”حماس”.

واستنادا إلى ما تقدم، ستتمكن الولایات المتحدة والنرویج، وھما الدولتان اللتان تقودان حالیا جھود المانحین، من رص كلام منمق أكثر قوة لجمع الأموال الإقلیمیة والدولیة التي تم التعھد بھا سلفا من أجل غزة.

وینبغي ربط عملیة جمع التبرعات ھذه بإنفاذ وقف إطلاق النار وتخفیف القیود المفروضة على حدود غزة بھدف التمكّن من نقل السلع وتنقل الید العاملة بشكل أكبر. وعند جمع مثل ھذه التبرعات، یمكن للمجتمع الدولي أن یوفر الثقل الموازن لقطر، التي تشكّل جھة إشكالیة ومؤیدة لً”حماس”، والتي كانت حتى الآن الجھة المانحة الأكبر في غیاب الدعم الدولي الآخر.

بإمكان إسرائیل النظر في تنفیذ مشاریع معینة على جانبھا من الحدود. ویمكن أن تشمل ھذه إنشاء مناطق صناعیة ومحطة للطاقة الشمسیة لتزوید غزة بالكھرباء. وفي الواقع، سبق أن سمحت إسرائیل بإنشاء محطة للطاقة الشمسیة في غزة بالقرب من معبر “إیریز” الحدودي.

ومن شأن مثل ھذه الخطوات أن تحد من مخاوف الجھات المانحة فیما یتعلق باستغلال “حماس” لاستثماراتھا أو استھداف إسرائیل لھذه الاستثمارات.

رھنا بالسلطة السیادیة لمصر وبالتنسیق الكامل مع ھیئاتھا، ینبغي على الجھات الفاعلة ذات الصلة أن تدرس خیارات دعم غزة من الجانب المصري من الحدود أیضاً. وقد تتضمن الخطوات المبكرة، المساعدة على تحسین المرافق في مصر التي تخدم غزة فعلا، لا سیمّا تلك التي توفر الكھرباء، ثم تتطور لاحقا لدراسة إمكانیات تحدید مواقع [لإقامة] مشاریع إضافیة لخدمة غزة في شمال سیناء.

وتبدو مصر أكثر استعداداً للمرحلة الأولى، لا سیمّا فیما یتعلق بزیادة توفیر الكھرباء إلى غزة، وزیادة حجم السلع التي تدخل من سیناء مثل الاسمنت. إلا أنھا تتردد فیما یتعلق بالمرحلة الأكثر تقدما – على الرغم من أن مثل ھذه الخطوات تظُھر بجلاء أنھا ستؤدي إلى نتیجة مربحة لجمیع الأطراف ومنھا: الحد من المخاوف الأمنیة الإسرائیلیة بشأن غزة ومخاوف الجھات المانحة فیما یتعلق بالأضرار المحتملة للمرافق في حال نشوب حرب مستقبلیة، وكذلك المساھمة في تنمیة شمال سیناء واستقراره.

ولا یخلو ھذا المخطط من العیوب، شأنه شأن أي مخطط آخر. فھو یھدد بتعمیق الانقسام الفلسطیني الداخلي، وتھمیش عباس و”السلطة الفلسطینیة”، وقد یعود بالفائدة على “حماس” بشكل غیر مباشر، وربما یتضمن اتھامات بمكافأة الحركة على سلوكھا السیئ. ومن المرجح أیضا أن تواجه ھذه الخطة قیام “السلطة الفلسطینیة” باتخاذ إجراءات مضادة قویة، تكون قاسیة بقدر قطع جمیع الدعم المتبقي لغزة، والذي یشمل الرواتب لعشرات الآلاف من موظفي القطاع العام المدنیین في غزة. لكن یجب تقییم ھذه الجوانب السلبیة مع الحقائق على أرض الواقع ومع البدائل – إذ یمكن تعویض البعض منھا. وبادئ ذي بدء ، إن الانقسام الفلسطیني الداخلي ھو أمر واقع، ویبدو أن عباس – في أواخر فترة حكمه – مستعد لتفاقمه إلى درجة إعلان غزة “منطقة متمردة”. فقد قام عباس بتھمیش نفسه في غزة وانسحب من عملیة السلام التي تقودھا الولایات المتحدة.

وتجدر الإشارة إلى أن سیاسته في غزة قد أثارت انتقادات محلیة كبیرة، وتجسّد ذلك في قیام سلسلة من التظاھرات في رام لله وغیرھا من مدن الضفة الغربیة. وفي ضوء انحراف عباس، قد تقدم الخطةالمقترحة ھنا المسار الوحید لإقناعه بالمشاركة مجددا في إصلاح غزة.

وحتى ولو كان مصرّا على الرفض، یجب أن یبقى الباب مفتوحا أمام “السلطة الفلسطینیة”، سواء تحت قیادته أو تحت قیادة أي زعیم مستقبلي، لتحمّل مسؤولیاتھا في القطاع. بإمكان الولایات المتحدة أیضا موازنة ھذا الإجراء من خلال تقدیم خطة اقتصادیة للضفة الغربیة.

ولاستباق الإجراءات المضادة المتوقعة من عباس، ینبغي أن تتضمن خطة غزة آلیات تمویل لموظفي القطاع العام المدنیین، استنادا إلى میزانیة دقیقة ومراجعة قائمة على الاحتیاجات.

وبالطبع، یجب أن یكون وضع الضمانات وآلیات المراقبة المناسبة شرطا مسبقا لأي خطة في غزة لضمان ألا تستخدم “حماس” المساعدات الخارجیة (الأموال والمواد) للقطاع لبناء قدراتھا العسكریة.

وطالما یجري تطبیق ھذه الخطوات بالشكل الصحیح، ستبرز الجوانب الإیجابیة لھذا المقترح، والتي تقاس بالاستقرار والخدمات المقدمة إلى السكان الذین یعانون [ویلات الحرب].

أمّا المرحلة الأكثر تقدما في إعادة إعمار غزة (ومن بینھا إنشاء میناء) فستكون بالضرورة مرھونة بشروط أقوى بكثیر للحد بشكل كبیر من التسلح في غزة.

وفي الوقت نفسه، فإن البدیل عن ھذا النھج الشامل – أي الاستمرار في نفس الوتیرة البطیئة لإعادة الإعمار في انتظار خطة مثالیة لا وجود لھا – لن یؤدي إلا إلى زیادة فرص تحوّل أي انتكاسة كارثیة إلى صراع أو حرب أعمق.

ولكي ینجح ھذا المخطط، یتطلب الأمر “قائدا رئيسيا”، والولایات المتحدة ھي الوحیدة القادرة على تأدیة ھذا الدور.

ومن خلال اضطلاعھا بدور قیادي في الجھود المبذولة، یجب على واشنطن التنسیق عن كثب مع القاھرة والقدس والجھات الفاعلة الإقلیمیة والدولیة الأخرى. یجب على المسؤولین الأمریكیین ممارسةالضغط على جمیع عناصر ھذه الخطة للمضي قدما،ً فضلا عن تنظیم ھذه العناصر وتحقیق التزامن فیما بینھا، وتشجیع الأطراف المعنیة على التغلب على الموانع الخاصة بھا.

وفي الوقت الذي تفكر فیه الإدارة الأمریكیة في وضع خطة سلام إسرائیلیة – فلسطینیة طموحة، سیكون من الأفضل لھا أن تعالج أولا الوضع في غزة وتضعه على المسار الصحیح نحو إعادة التأھیل.

إن العلامات واضحة أمام الجمیع، وعدم الاستجابة لھا سیضمن بأن بدء جولة جدیدة من الصراع، لیس سوى مسألة وقت.

المؤلفان

*مايكل هيرتسوغ، عميد متقاعد في في “جيش الدفاع الإسرائيلي”، وزميل دولي في زمالة “ميلتون فاين” في معهد واشنطن. وشغل سابقاً منصب رئيس “قسم التخطيط الاستراتيجي” في “جيش الدفاع الإسرائيلي”، ومدير الموظفين لأربعة وزراء دفاع سابقين، كما كان مبعوث خاص لعملية السلام في الفترة 2009-2010.

*غيث العمري، زميل أقدم في برنامج “إيروين ليفي فاميلي” حول “العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل” في معهد واشنطن، والمدير التنفيذي السابق لـ “فرقة العمل الأمريكية المعنية بفلسطين”. وقد عمل مستشاراً لفريق التفاوض خلال محادثات الوضع الدائم في الفترة 1999-2001 بالإضافة إلى توليه عدة مناصب أخرى في “السلطة الفلسطينية”.

16

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى