معهد واشنطن: لعبة الضغط للرئيس بايدن في الشرق الأوسط
معهد واشنطن 5-3-2024، بواسطة مايكل سينغ: لعبة الضغط للرئيس بايدن في الشرق الأوسط
ستشكل نهاية المرحلة الحالية من حرب غزة بداية جهود دبلوماسية أمريكية كبيرة يمكن أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط إذا ما نجحت هذه الجهود في تحقيق نتائج إيجابية – لكن الفرص السانحة ضيقة.
عندما اندلعت حرب غزة في العام الماضي، سرعان ما أصبحت عائقاً رئيسياً أمام أجندة السياسة الأمريكية الطموحة والإيجابية في الشرق الأوسط. فبناءً على “اتفاقيات إبراهيم” التي أبرمتها إدارة ترامب، كانت إدارة بايدن تأمل في تسهيل التطبيع الإسرائيلي مع السعودية، مصحوباً بمعاهدة دفاع أمريكية تاريخية واتفاقية تعاون في مجال الطاقة النووية المدنية مع المملكة. ولم تكن هذه الأجندة متعلقة حصراً أو حتى بشكل رئيسي بتعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة، بل بالأحرى بتوجيه ضربة استراتيجية لمحور “المقاومة” الذي تقوده إيران وتعزيز شبكة واشنطن من الشركاء الإقليميين وسط تصاعد المنافسة بين القوى العظمى على الصعيد العالمي.
ولم تعرقل الحرب بالضرورة هذه الأجندة، فقد أشارت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية إلى اهتمامها المستمر بالمضي قدماً فيها. لكن الفرص السانحة ضيقة. فالرياض تعتقد أنها تحتاج إلى رئيس ديمقراطي للحصول على موافقة الكونغرس الأمريكي على المعاهدة، وبالتالي فإن الموعد النهائي المتوقع لهذه الغاية هو أواخر هذا الصيف، نظراً لأوجه عدم اليقين المحيطة بالدورة الانتخابية الأمريكية. ولكن من الناحية الواقعية، لا يستطيع أي من الأطراف أن يباشر بالدبلوماسية النهائية اللازمة لإبرام هذه الاتفاقيات قبل أن تهدأ المعارك الكبرى في غزة. وفي ظل هذه القيود، سيتعين على إدارة بايدن تحديد تفاصيل أربع اتفاقيات رئيسية وليس اتفاقية واحدة فقط، تتعلق بالتطبيع الإسرائيلي السعودي، والعلاقات الدفاعية الأمريكية السعودية، والتعاون النووي المدني الأمريكي السعودي، ومستقبل العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية. وسيتعين عليها القيام بذلك بطريقة تجنبها إثارة معارضة من جانب القدس أو الرياض أو الكونغرس الأمريكي.
المتطلبات الأساسية لكل اتفاقية
كان من شأن الاتفاقيات التي سعت واشنطن لإبرامها قبل الحرب أن تمثل الخطوة الأكثر جرأة إلى الأمام في السلام العربي الإسرائيلي منذ “اتفاقيات كامب ديفيد” عام 1978، داحضةً بذلك الفكرة بأن الاعتراف العربي الكامل لا يمكن أن يأتي إلا بعد السلام الإسرائيلي الفلسطيني. فالتطبيع السعودي كان سيدفع على الأرجح قطر ودولاً عربية أخرى، وربما حتى دول ذات أغلبية مسلمة خارج المنطقة، إلى التوصل بسرعة إلى اتفاقاتها الخاصة مع إسرائيل. وكانت معاهدة الدفاع الأمريكية السعودية المصاحبة تعد بإضفاء الطابع الرسمي على مكانة الرياض كشريك أمريكي وإبعادها عن الصين، التي تتزايد طموحاتها في الشرق الأوسط. وخلص السعوديون أيضاً إلى أن معاهدة الدفاع والاتفاق النووي المدني من شأنهما ردع إيران عن مهاجمتهم أو استكمال سعيها للحصول على سلاح نووي، علماً أن أياً من هذين السيناريوهين يمكن أن يزعزع استقرار المنطقة ويوجه ضربة قاسية للأجندة المحلية التحويلية لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ومع ذلك، هناك ما يكفي من التعقيدات في كل واحدة من هذه الاتفاقيات الثلاثة بحد ذاتها، ناهيك إذا كانت مجتمعةً. ومن المرجح أن تركز معاهدة الدفاع على بند للدفاع المشترك مستوحى من “المادة 5” من “معاهدة التعاون والأمن المتبادلين” بين الولايات المتحدة واليابان. وعلى الرغم من أن هذا البند لا يلزم أياً من الطرفين باتخاذ إجراءات، إلّا أنه يقر بالحاجة إلى معالجة التهديدات الأمنية المشتركة على النحو التالي: “يدرك كل طرف أن هجوماً مسلحاً ضد أي من الطرفين في الأراضي الخاضعة لإدارة اليابان سيهدد سلامته وأمنه ويعلن أنه سيعمل على مواجهة الخطر المشترك وفقاً لأحكامه وعملياته الدستورية”. بالإضافة إلى هذه الصياغة، تسعى السعودية على الأرجح للحصول على أولوية الوصول إلى منظومات الدفاع الأمريكية المتقدمة، في حين تطلب واشنطن فرض قيود على تعاملات الرياض مع الصين وروسيا وقوى أخرى فيما يتعلق بالمسائل العسكرية والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج والقضايا ذات الصلة.
وتُعتبر فرص المصادقة على هذه الاتفاقية ضئيلة حتى في أفضل الظروف. فالمرة الأخيرة التي أبرمت فيها الولايات المتحدة معاهدة دفاع مشترك كانت مع اليابان في عام 1960. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب مصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي على المعاهدة سبعة وستين صوتاً، وستواجه على الأرجح معارضة على جبهات متعددة – من أعضاء مجلس الشيوخ ذوي النزعة الانعزالية من كلا الحزبين، ومن أعضاء مجلس الشيوخ (معظمهم من الديمقراطيين) الذين ينتقدون سجل السعودية في مجال حقوق الإنسان والسياسة الخارجية. وهذه المعارضة المرتقبة هي التي حفزت إلحاح الرياض، حيث يُعتقد أن تأمين ما يكفي من أصوات الديمقراطيين يتطلب رئيساً ديمقراطياً للانخراط في لعبة الضغوط السياسية. فالرئيس الجمهوري قد يكون أكثر دعماً بل أقل قدرة على تأمين الأصوات اللازمة من اليسار، حتى في مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية.
ويُعتبر العنصران الآخران من هذه الثلاثية الدبلوماسية معقدَين للغاية أيضاً. فمن الناحية الفنية، لا تتطلب اتفاقية تعاون نووي بين الولايات المتحدة والسعودية (المعروفة باسم “اتفاقية 123” في الاصطلاح الأمريكي) موافقة الكونغرس الأمريكي لتدخل حيز التنفيذ. ومع ذلك، بإمكان وقفها إذا أصدر الكونغرس قراراً مشتركاً بعدم الموافقة – وهو سيناريو لا يمكن استبعاده إذا تضمن الاتفاق بنوداً مثيرة للجدل مثل السماح للسعوديين بتخصيب اليورانيوم داخل حدودهم. أما بالنسبة للتطبيع الإسرائيلي السعودي – الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه الثمن الذي دفعته الولايات المتحدة للاتفاقيتين الأخريين – فإن فوائده الدبلوماسية الهائلة يمكن أن تضعف على المدى القريب إذا حصلت العملية بشكل تدريجي (على سبيل المثال، البدء بتبادل السفراء قبل الانتقال إلى الترتيبات الاقتصادية أو السياحية المنظمة). لكن على الرغم من التعقيد الذي يشوب هاتين الاتفاقيتين الأخريين، يُنظر إلى معاهدة الدفاع – وبالتالي إلى التقويم السياسي الأمريكي – على أنهما يشكلان تحدياً كبيراً.
تأثير حرب غزة
أدى هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر إلى عرقلة هذه الأجندة الدبلوماسية، سواء كان ذلك عن عمد أو عن طريق الصدفة المؤسفة. ومع ذلك، لا تزال الأطراف الثلاثة حريصة على العودة إلى طاولة المفاوضات، ومع وجود حافز إضافي، وهو أن المضي قدماً في التطبيع الإسرائيلي السعودي في الوقت الحالي من شأنه أن يحرم إيران ورفاقها من فرصة الإدعاء بانتصار استراتيجي من الهجوم الشنيع الذي شنته “حماس”. وهذا أمر مهم ليس لواشنطن والقدس فحسب، بل للعواصم ذات الميول الغربية في جميع أنحاء العالم العربي أيضاً. وعلى الرغم من دعم زعماء المنطقة للقضية الفلسطينية، فإن معظمهم يشعرون بالقلق من الإسلاموية التي تمثلها “حماس” ولا يزالون مقتنعين بأن طهران ووكلاءها يمثلون تهديداً خطيراً.
قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، كان يُعتقد على نطاق واسع أن السعودية ستصر على وجود عنصر فلسطيني في التطبيع، ولكنه بعيداً كل البعد عن إقامة دولة بصورة فورية أو حتى استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. ولكن في أعقاب الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، تغير ذلك بشكل كبير. وبسبب قلق الرياض من الرأي العام المحلي والإقليمي، فقد بدأت تطالب باتخاذ خطوات “محددة زمنياً ولا رجوع عنها” نحو إقامة دولة فلسطينية، بإصرارها على أنها لن تكتفي ببقاء الأمور على حالها في عملية السلام.
على سبيل المثال، يبدو أن الزعماء العرب مصرون على اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية من جانب واحد عند بداية أي مساعٍ لتحقيق السلام، دون انتظار الموافقة الإسرائيلية. وغالباً ما تتم صياغة هذا الطلب ليعكس نفاذ الصبر العربي من المفاوضات السابقة التي أثبتت أنها تستغرق وقتاً طويلاً وغير مثمرة في النهاية. إلّا أن ذلك يعكس على الأرجح رغبة الرياض في إعادة مفاوضاتها مع الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح. ويبدو أن واضعي السياسات السعوديين يخشون من عدم تقبل الرأي العام العربي لاتفاقية التطبيع دون تنازلات كبيرة بشأن إقامة الدولة الفلسطينية. ويبدو أنهم يعتقدون أيضاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو أي من خلفائه المحتملين لن يوافقوا على هذه التنازلات في المستقبل القريب، إذ قد يعتبرها الرأي العام الإسرائيلي مكافأة على الفظائع التي ارتُكبت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. فضلاً عن ذلك، على الرغم من الرغبة المشتركة للرياض وواشنطن في تشكيل حكومة إسرائيلية تكون مستعدة لمتابعة عملية السلام، إلّا أن أي منهما لا يتطلع إلى الإطاحة بنتنياهو، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى إجراء انتخابات ويؤخر المواعيد النهائية المفترضة لإبرام اتفاقية تطبيع ومعاهدة دفاع بين الطرفين. ولذلك، ترى الرياض أن اعتراف الولايات المتحدة أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية هو الحل المناسب لهذه المعضلة – وهي خطوة رئيسية لا تتطلب إذعاناً إسرائيلياً.
ومع ذلك، فإن الاعتراف أحادي الجانب محكوم عليه بالفشل في الولايات المتحدة ويُعد خطوة سياسية غير حكيمة. فإعلان دولة فلسطينية دون اتفاقيات بشأن حدودها أو عاصمتها أو علاقاتها الأمنية مع إسرائيل يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الوضع المتردي أساساً بين الطرفين ويمهد الطريق لترسّخ النزاع. ومن وجهة نظر إسرائيل، فإن نتائج قراراتها بالانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000 ومن غزة في عام 2005 تثبت عدم جدوى الإعلان ببساطة عن حل المشكلة من دون التفاوض على ترتيبات لحفظ السلام.
الخطوات التالية للسياسة الأمريكية
على الرغم من هذه العقبات والقيود، لدى الولايات المتحدة ما يكفي من الأسباب لمواصلة المضي قدماً في تنفيذ أجندتها الدبلوماسية التي تعود لما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وفي الواقع، بقدر ما كان هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر يعكس سعي المحور الإيراني لعرقلة هذه الأجندة، فإن لدى واشنطن الآن سبباً أكبر لمتابعة هذه الأجندة. وعلى الرغم من أن أزمة غزة أدت إلى تعقيد الوضع، إلّا انه لا يزال بإمكان التطبيع العربي مع إسرائيل أن يساهم في تعزيز السلام – وبالإضافة إلى الترتيبات الرسمية بشأن الحدود والأمن ومسائل أخرى، فإن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتطلب أيضاً سردية التعايش المشترك لمواجهة رواية “حماس” القائمة على المظالم والانتقام. وشكلت “اتفاقيات إبراهيم” خطوة أولى جيدة نحو تحقيق هذه الأهداف، ومن شأن التطبيع الإسرائيلي السعودي إطالة هذه السردية وتعزيزها بقوة.
وبطبيعة الحال، فإن تحقيق هذه الغاية سوف يتطلب اتخاذ خيارات صعبة من جانب كافة الأطراف. وقد يتعين على الولايات المتحدة وإسرائيل قبول الفكرة بأن التطبيع السعودي سيتم على مراحل وليس دفعة واحدة على غرار “اتفاقيات إبراهيم”. يتعين على الرياض والعواصم العربية الأخرى قبول الفكرة بأن واشنطن لن تعترف بالدولة الفلسطينية في وقت مبكر، بل فقط بعد إنجاز الكثير من العمل في مجالات الأمن والحوكمة والتعليم والقضايا الاقتصادية. ويجب على جميع الأطراف أن تتقبل أنه بغض النظر عن مدى جديتها في العمل من أجل التوصل إلى تسوية، فإن أجندتها الطموحة قد لا تتوافق ببساطة مع الجدول الزمني السياسي الأمريكي.
ومع أن تأجيل هذه الاتفاقيات سيكون أمراً مؤسفاً، إلا أنه لن يكون مأساوياً – فمن غير المرجح أن يتراجع التقارب المتزايد بين الدول العربية وإسرائيل بسبب أي مبادرة دبلوماسية معينة أو صراع عسكري، حتى ولو كان مروّعاً مثل حرب غزة. بل إنه يمثل تتويجاً لتحول جذري دام عقوداً من الزمن، مع تقارب تصورات التهديد الإسرائيلية والعربية حتى مع عودة المنافسة بين القوى العظمى إلى المنطقة وتحوّل الاهتمام الأمريكي بعيداً عنها. فعلى مدى عقدين من الزمن حتى الآن، شرعت الولايات المتحدة في سلسلة من جهود السلام الإسرائيلية الفلسطينية المتسرعة، والتي أدت مجتمعة إلى تأخير عملية السلام. إن الصبر هو ما يحتاج إليه الجميع اليوم.
*مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة “لين- سويغ” والمدير الإداري لمعهد واشنطن، والمدير الأقدم السابق لشؤون الشرق الأوسط في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي.