#شؤون اقليمية

معهد واشنطن : جوانب تأثّر إيران المحتملة بالعقوبات الأمريكية

پاتريك كلوسون  وكاثرين باور، معهد واشنطن ١٤ و ١٨-٦-٢٠١٨

پاتريك كلوسون : العثور على نقاط الضعف:

في الوقت الذي تتهيّأ فيه إدارة ترامب لتشديد العقوبات على مختلف الجهات الإيرانية في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، هناك قوّتان ستؤديان إلى إضعاف أثر أي إجراءات مالية، بينما تتواجد قوتان أخريان ستساهمان بتعزيز هذه الإجراءات. ومن الناحية السلبية، يتمتع الإيرانيون بخبرة كبيرة في التعامل مع العقوبات، وأصبحوا ماهرين في إيجاد حلولٍ جديدة عندما لا يجدون سبيلاً إلى الحلول القديمة. وتُشير التصريحات العلنية للقادة الإيرانيين إلى أنهم واثقون تماماً من أن الإجراءات الأمريكية الجديدة ستكون مصدر إزعاج وليس أكثر من ذلك. وتواجه واشنطن التحدي المتمثل في إقناعهم بأن العقوبات ستفوق ما هو متوقَّع، وستزداد بمرور الوقت.

وتواجه العقوبات أيضاً رياحاً معاكسة من نوعٍ ثانٍ، إذ تتمتع إيران بخبرة طويلة في التعاطي مع التقلبات الهائلة في دخل صادرات النفط. فقد تسببت العقوبات الحادة عام 2012 في انخفاض هذا الدخل من 118 مليار دولار في السنة الإيرانية 2011/2012 إلى 63 مليار دولار في العام التالي. وعندما هبطت أسعار النفط في عام 2015/2016، انخفضت صادرات إيران من النفط مرة أخرى، من 55 مليار دولار إلى 27 مليار دولار، رغم دخول «خطة العمل الشاملة المشتركة» حيّز التنفيذ. حتى أن إيران تعايشت مع مستويات منخفضة أكثر من عائدات النفط: ففي عام 2001/2002، عندما كانت تسعى بنشاط إلى [تطوير] برنامج للأسلحة النووية وتُخفي قدرتها على التخصيب، لم تبلغ قيمة صادراتها سوى 19 مليار دولار. وبالتالي، حتى لو انخفضت إيرادات صادراتها في عام 2018/2019 بنسبة 20 في المائة عن توقعات “صندوق النقد الدولي” البالغة 78 مليار دولار (استناداً إلى توقع بلوغ الصادرات 3 ملايين برميل في اليوم)، فستبقى نسبة هذه العائدات ثلاثة أضعاف ما بلغته في عام 2001/2002. بالإضافة إلى ذلك، مع «سخونة الاقتصاد» العالمي وانهيار فنزويلا عملاقة النفط، قد تكون الأسعار قوية بما يكفي للتعويض عن أي انخفاض كبير في حجم الصادرات الإيرانية المرتبط بالعقوبات. فمنذ كانون الثاني/يناير، كانت طهران تبيع نفطها الخام الثقيل بمعدّل 64 دولاراً للبرميل الواحد، مقارنة بمتوسط 51 دولاراً عام 2017؛ وهذا يعني أن نسبة عائداتها ستكون ثابتة حتى لو انخفض حجم الصادرات بنسبة 20 في المائة.

إلا أنّ عاملين آخرين سيعززان أثر العقوبات الأمريكية. أولاً، تعاني العديد من الشركات والمؤسسات المالية الدولية من الأزمات الاقتصادية غير المتوقَّعة والقواعد الصارمة خلال العقد الماضي، ورداً على ذلك اعتمدت سياسات أكثر شمولاً “لإزالة المخاطر”. إن الكيفية التي تُقيّم فيها الشركات الفردية ممارسة الأعمال التجارية في اختصاصات قضائية عالية المخاطر هي أكثر أهمية مما إذا كانت الحكومات الأجنبية مستعدة للتعاون مع العقوبات الأمريكية، لأن الشركات هي من تنفّذ فعليّاً النشاط الاقتصادي. وسبق أن أعلنت شركات أوروبية كبرى مثل “توتال” و”ميرسك” عن ابتعادها عن السوق الإيرانية في الأسابيع الأخيرة، مما أظهر أن وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي كانوا على حق في كتابهم الموجّه في 4 حزيران/يونيو إلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين، حيث أشاروا إلى أن: “العقوبات الثانوية الأمريكية قد تمنع الاتحاد الأوروبي من مواصلة تخفيف العقوبات المجدية على إيران”. وفي 6 حزيران/يونيو، قامت “المفوضية الأوروبية” بتحديث “قانون حجب إجراءات الحظر الأمريكية” لمنع شركات الاتحاد الأوروبي من الامتثال للعقوبات الأمريكية، لكن من المرجح أن تتفادى الشركات الفردية التعامل مع إيران أكثر من تنفيذ هذا الإجراء الوقائي.

ثانياً، كما هو موضح في القسم التالي، تشكّل المعاملات المالية نقطة ضعف النظام الإيراني الأكثر هشاشةً. وهذا أيضاً القطاع نفسه الذي تميل العقوبات الأمريكية إلى استهدافه في أغلب الأحيان لتحقيق الفعالية الأكبر، كما سيتم تناوله بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا “المرصد السياسي”.

النظام المصرفي الهش في إيران

تتجاوز المشاكل المصرفية في الجمهورية الإسلامية مخاوف “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” التي كثيراً ما ذُكِرت بشأن تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. على سبيل المثال، تلتزم قلّةٌ من المصارف الإيرانية بالمعايير الدولية الخاصة بمنع تجنب الضرائب من قبل المودعين الأجانب. لذلك، قد تتلقى أي مصارف دولية تتعامل مع مؤسسات إيرانية غير ملتزمة أمراً بدفع ضريبة الدخل الأمريكية المستحقة على المودعين. كما تقرّ المصارف الإيرانية بأنها لا تلبّي “نسبة الدنيا للكفاية الرأسمالية” البالغة 8% (بالإضافة إلى احتياطي قدره 2.5%) التي تتطلبها اتفاقية “بازل 3″، مما يُلزم أي مصارف أجنبية تتعامل معها باتخاذ احتياطات مشددة.

والأسوأ من ذلك، لا يتّضح تماماً نطاق هذه المشاكل لأن معظم المصارف الإيرانية تفتقر إلى الشفافية بشأن وضعها المالي. فلم تُلبّ إلا قلة قليلة من الشركات الخاصة متطلبات “البنك المركزي الإيراني” لعام 2016 حول التصريح عن حساباتها وفقاً للنسخة المحلية من “المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية” – وهي نسخة يعتبرها حتى المحاسبون الإيرانيون ناقصة. وشهدت المصارف الثلاثة التي التزمت بـ”المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية” في عام 2017 تراجعاً في أسعار أسهمها بسرعة كبيرة ، حتى أن “بورصة طهران للأوراق المالية” علّقت التداول في أسهم هذه المصارف لمدة عام. وعندما استؤنف التداول في شهر آذار/مارس، تراجع سعر السهم في المصرف الأكثر تضرراً (“صادرات”) بنسبة 49% في يومٍ واحد، ومنذ ذلك الحين لم تستخدم الشركة “المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية”. وفي تقريرٍ صدر في 16 أيار/مايو ونشرته صحيفة “الشرق الأوسط”، تذمّر غولامريزا سلامي من “المعهد الإيراني للمحاسبين القانونيين” من أنّ أصحاب النفوذ الذين يستفيدون من غياب الشفافية هم وراء تأجيل التقيد بـ”المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية”. ونقل المقال عن خبراء آخرين قولهم إنّ المصارف تتهرب من [تنفيذ] هذا المطلب لأنّ الامتثال به سيكشف عن عدم امتلاكها لرأس المال الكافي للاستمرار في ممارسة الأعمال التجارية.

ووفقاً لتقرير “صندوق النقد الدولي” في آذار/مارس، ادّعت المصارف الإيرانية إن نسبة كفاية رأسمالها بلغت 4.9% في نهاية حزيران/ يونيو 2017، بعد أن كانت 5.2% في العام السابق – وهو معدّل منخفض بشكل خطير. كما أقرّت هذه المصارف أنّ 11.4% من قروضها متعثرة، رغم أن القواعد الإيرانية لا تشجع على تصنيف القروض على أنها متعثرة؛ فلا يمكن شطبها إلا على مدى عشر سنوات وعندما تبلغ مخصصاتها 100%. ولا يبدو أن المصارف الإيرانية واجهت واقع تدني القيمة السوقية للعديد من استثماراتها وقروضها السكنية إلى ما دون قيمتها الفعلية بسبب ركود أسعار المساكن أو انخفاضها لمدة خمس سنوات (ويأخذ هذا الوضع في التحسن حيث ارتفعت أسعار السكن في المدن الكبرى بنسبة 30% في الأشهر الستة الماضية).

كما أنّ مصارف إيران عالقة بسبب الموارد المالية الهشة للحكومة. فعلى مدى خمسة عشر عاماً، فرض القانون قيوداً صارمة على اقتراض الحكومة المباشر من “البنك المركزي الإيراني”، ولذلك تقترض الحكومة بدلاً من ذلك من المصارف الخاصة، التي تحصل لاحقاً على ائتمان من “البنك المركزي الإيراني”. وما زاد من هذا التعقيد هو قيام مختلف الوكالات بإصدار سندات من دون إذنٍ أو إشرافٍ من وزارة المالية. ووفقاً لتقرير “صندوق النقد الدولي” من آذار/مارس، بلغت متأخرات الدفع الحكومية إلى الموردين وصناديق المعاشات التقاعدية 30% من “الناتج المحلي الإجمالي” (ما يساوي 5.5 تريليون دولار بالنسبة إلى الولايات المتحدة).

وكنتيجة لذلك، يتوجب على الموردين وصناديق المعاشات التقاعدية الاعتماد على القروض المصرفية. ولجمع المزيد من الأموال لهذه القروض، سيتعيّن على “البنك المركزي الإيراني” إقراض المصارف، الأمر الذي يستلزم طباعة المال وربما التسبب بتصاعد التضخم إلى نسبة 30% التي تم بلوغها عندما تولى الرئيس حسن روحاني منصبه للمرة الأولى. والخيار الوحيد الآخر هو أن تجتذب المصارف ودائع جديدة بنفسها. ومع ذلك يحاول “البنك المركزي الإيراني” خفض أسعار الفائدة من خلال فرض نسبة 15% كسقف على الودائع، مما حفز العديد من المودعين على التوجه إلى أسواق الصرف الأجنبي وأسواق الذهب بدلاً من ذلك. وتسبب ذلك في حدوث طفرة في سعر الذهب وسعر الدولار بالريال الإيراني. وفي شباط/فبراير، سمح “البنك المركزي الإيراني” مؤقتاً [دفع] معدل 20% على الودائع لسنة واحدة، ولكن أكثر من 80% من الأموال المودعة مع هذا المعدّل الأعلى كانت تحويلات من حسابات مصرفية قائمة، وليست ودائع جديدة.

ومما يزيد الأمور سوءاً هو أنّ المصارف تواجه منافسةً من “مؤسسات الائتمان” العديدة في إيران – وهي تسمية ملطَّفة لما بدأ كمصارف غير منظمة أنشأتها شخصيات تتمتع بعلاقات سياسية جيدة مثل بعض كبار رجال الدين والنخب المقرّبين جدّاً من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. وفي خطابه حول الميزانية في كانون الأول/ديسمبر، صرح الرئيس روحاني بأنّ ستّاً من هذه المؤسسات تسيطر بشكلٍ مدهش على ربع السوق المالي الإيراني. ومن الناحية النظرية، تخضع هذه المؤسسات حالياً لقواعد “البنك المركزي الإيراني”، ولكن هناك مصدر مطّلع واحد على الأقل يقدّر أن 3,500 منها غير منظمة.

ومن رموز هذا الوضع الموقع الإلكتروني الخاص بـ”البنك المركزي الإيراني”، حيث تبرز بوضوح استمارة للإبلاغ عن المؤسسات الائتمانية غير المنظمة. وبالفعل، إن العديد من هذه الجهات هي في الأساس مخططات بونزي [عمليات احتيالية]، تدفع معدلات مرتفعة جدّاً على الودائع، ولكن مع احتمال ضئيل في القدرة على مضاهاة هذه المعدّلات من خلال تقاضي فوائد مماثلة على القروض. ولا تغطي هيئة التأمين على الودائع الناشئة في إيران إلا القليل منها، ولم يسبق أن دفعت فلساً واحداً أو أمرت أي مؤسسة بالإغلاق. وعندما توقّفت ثلاث مؤسسات ائتمانية منظمة كبيرة عن الدفع للمودعين في أواخر العام الماضي، خرج المتظاهرون إلى شوارع طهران ومدن أخرى، مما ساعد في إشعال حركة الاحتجاج الأكبر التي اجتاحت البلاد بعد عدة أسابيع. وفي النهاية، تعيّن على الحكومة و”البنك المركزي الإيراني” أن يتدخلا ويدفعا لـ 98% من المودعين.

هل يعجز روحاني عن معالجة المشاكل المصرفية؟

كان الخلل الوظيفي الموصوف أعلاه معروفاً منذ سنوات – وكما حذّر “صندوق النقد الدولي” بصورة منذرة بالخطر في عام 2015، “إن تعقيد التحديات التي تواجه النظام المصرفي وشدتها يتطلبان اتخاذ إجراءات فورية”. إلا أنّ المأزق السياسي منع إلى حد كبير إمكانية التصرف. وفي خطابه عن الميزانية في كانون الأول/ديسمبر، وصف روحاني الضغوط الناشئة عن المؤسسات الائتمانية المنهارة بالعبارات القوية التالية: “طالت المشاكل حوالي ثلاثة إلى أربعة ملايين عائلة… كان المجتمع في حالة من الفوضى، وكان الشعب بائساً، وملأت المتاعب حياته… وكانت ستة اتحادات ائتمانية منحرفة… تنهب كل يوم العملة والذهب والأسواق العقارية”. ومع ذلك لم تتخذ الحكومة سوى القليل من الخطوات لإصلاح المؤسسات الائتمانية والمصارف، على الرغم من سنواتٍ من النقاش حول تنفيذ بعض التدابير مثل قانون جديد خاص بـ”البنك المركزي الإيراني”.

إنّ المشاكل المصرفية في إيران قابلة للحل: فهي لا تقاس بتلك التي عانت منها العديد من الدول الأوروبية خلال العقد الماضي (إذ لا تشكّل إلا جزءاً بسيطاً مما واجهته قبرص وإيسلندا، وهي أقل بكثير من مشاكل اليونان والبرتغال، ويمكن القول إنها ليست أسوأ من مشاكل إسبانيا وإيطاليا). فعدم قدرة فريق روحاني على معالجة هذه المشاكل أدت إلى الإضرار بالاقتصاد الإيراني أكثر من العقوبات الدولية، ولا توجد مؤشرات على أن هذا الفريق سيحقق نتائج أفضل في المستقبل.

وفي الوقت نفسه، أصبحت المصارف الدولية أكثر تجنباً للمخاطرة بعد سنواتٍ من الركود، وأصبح المنظمون أكثر صرامة. ومع ابتعاد المؤسسات الأجنبية عن المصارف الإيرانية التي تعاني من المشاكل، لجأت العديد من الجهات إلى إجراء معاملات التجارة الدولية نقداً أو عبر وسطاء مشبوهين، مما يولّد تعقيدات، ويرفع التكاليف، ويولّد شكاً عاماً بشأن مصداقية المصارف المحلية.

وعلى خلاف ما كان عليه الوضع عام 2012، تشكّل المصارف، وليس صادرات النفط، أكبر نقطة ضعف اقتصادية للنظام الإيراني. وكلّما تم عزل هذه المصارف عن النظام المالي العالمي، كلّما ستجد صعوبةً أكبر في كسب ثقة الإيرانيين وجمع الأموال التي تحتاجها. فمع تعطّش المصارف لرأس المال، اضطرت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات مثيرة للجدل أو التفكير فيها، مثل خفض الإنفاق، وزيادة سعر صرف الريال مقابل الدولار (مما يزيد من كمية الريالات التي تتقاضاها الحكومة من صادرات النفط)، وطباعة المزيد من الأموال. إلا أن كلّاً من هذه الإجراءات يمكن أن يسبب مشاكل سياسية كبيرة في البلاد من خلال تفاقم التضخم، أو تقويض الثقة بالريال، أو إثارة الاستياء بين عامة الناس والنخب ذات الصلة من ناحية أخرى.

كاثرين باور  : العمل بطريقة أكثر ذكاءً، وليس أكثر شقاءً: 

لم يتم بعد بشكل كامل توضيح الكثير من التفاصيل الكامنة وراء إعادة تطبيق العقوبات النووية على إيران. ومن المرجح أن تصدر الحكومة الأمريكية توجيهات إضافية في الوقت الذي يتم فيه تحديد المواعيد الرئيسية لبعض العقوبات – وخاصة 6 آب/أغسطس و 4 تشرين الثاني/نوفمبر. وفي غضون ذلك، يمكن لعدد من القرارات السياسية المعلقّة أن يدعم هذه التوجيهات.   

وفي الوقت الذي يدرس فيه المسؤولون [الأمريكيون] هذه القرارات، يجب أن يأخذوا في عين الاعتبار أنه لا يجب إعادة فرض العقوبات بالطريقة نفسها التي كانت تُفرض فيها قبل إبرام الاتفاق النووي. وهذا الخيار يمنح واشنطن مجالاً لاستغلال نقاط الضعف الإيرانية الأساسية بشكل أفضل، والعمل مع شركاء أجانب بهدف تحفيز العمل متعدد الأطراف ومنح الأولوية للجهود الأمريكية في مواجهة ضيق الوقت والموارد. 

العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة

عند استهداف قطاع النفط الإيراني، يجب على صانعي السياسات [الأمريكيين] التركيز بشكل أكبر على العائدات أكثر منها على المبيعات. أي أنه حتى عندما يتخذون خطوات للحدّ من حجم مبيعات النفط الإيرانية، ينبغي أن تكون أولويتهم ضمان تجميد عائدات هذه المبيعات.

ويسمح التشريع ذو الصلة بالإعفاء من بعض العقوبات المالية طالما (1) تواصل الدول الوفاء بمتطلبات خفض المشتريات و (2) توافق الدول على إبقاء العائدات الإيرانية في الدولة المشترية مع فرض قيود على استخدامها [بحيث تركز على عمليات] تمويل التجارة الثنائية. وقد تمّ اعتماد هذه الخطوة التي يُطلق عليها “القيود التجارية الثنائية” والتي تمنع إعادة عائدات النفط الإيراني إلى البلد الأم، بعد مرور عام على “تخفيض الإعفاءات بشكل كبير”، وهي الخطوة التي جنّبت عملاء النفط الإيراني من العقوبات إذا خفضوا مشترياتهم مع مرور الوقت. ويهدف هذان البندان إلى تقليل حجم العائدات النفطية، التي تشكّل مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة، المتاحة لإيران.

وبما أنه سيتمّ تنفيذ كلا الإجراءين في آن واحد، قد يفكر صانعو السياسات [الأمريكيين] بتوفير قدر أكبر من المرونة فيما يتعلق بمتطلبات التخفيض مقابل تقديم التزامات أكثر صرامةً تتمثل بالامتناع عن إعادة العائدات الإيرانية. وقد يعني القيام بذلك أن يتم الاحتفاظ بالأموال في البلاد التي يصدَّر إليها النفط، ولا يمكن استخدامها إلا في ذلك البلد. وقد يدفع ذلك بدول مثل تركيا والهند إلى الامتثال للالتزامات بناءً على الفوائد التي قد تعود على ميزانها التجاري، نظراً إلى الميزة التي قد  يمنحها هذا الترتيب على صادراتها إلى إيران.

بالإضافة إلى ذلك، تتمتع إدارة ترامب بقدر كبير من المرونة في تحديد ما يشكّل “تخفيضاً كبيراً” في واردات النفط من إيران. وعلى الرغم من أن الحكمة التقليدية السائدة تُشير إلى أن هناك حاجة إلى تخفيض بنسبة 20 في المائة للتأهل للحصول على إعفاء من العقوبات، إلّا أن هذا الرقم تقريبي فقط، ويعزى إلى تعليق واحد أدلى به “مسؤول بارز في وزارة الخارجية الأمريكية” في آذار/مارس 2012 في إطار إحاطة صحفية حول تخفيض اليابان واردات النفط الإيراني. وفي حديث مع مراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” في بروكسل الأسبوع الماضي، رفض نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي أندرو بيك ذكر أرقام محددة، قائلاً إن التخفيض المطلوب “يجب أن يكون كبيراً، لكنه من المحتمل أن يختلف من بلد إلى آخر”.

وتشرف وزارة الخارجية الأمريكية على الإعفاء الخاص بـ “التخفيض الملحوظ” ويُسمح لها بموجب القانون أخذ عدد من العوامل في الاعتبار عند اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان سيتمّ إعفاء دولة ما، بما في ذلك خفض كمية النفط الذي تشتريه من إيران ونسبته، وفسخ عقود عمليات التسليم المستقبلية للخام الإيراني، و”إجراءات أخرى تثبت التزاماً بتقليص هذه المشتريات إلى حد كبير”. ووفقاً لبيانات تعقب الشحنات التي جمعها موقع “بلومبرغ”، انخفضت صادرات النفط الإيرانية بشكل حاد في النصف الأول من حزيران/يونيو، والتي وصفها الموقع بأنها الأكبر لمثل هذه الفترة منذ كانون الأول/ديسمبر 2016.

لا توجد عصاً سحرية

هناك إجراء آخر من المزمع إعادة العمل به خلال تشرين الثاني/نوفمبر وهو فرض عقوبات على توفير خدمات الرسائل المالية المتخصصة إلى “البنك المركزي الإيراني” ومصارف أخرى مُدرجة [على لائحة العقوبات]. ومع ذلك، فإن منع الوصول إلى المزود الرئيسي لهذه الخدمات – وهي “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك” (“سويفت”) – ليس ضرورياً أو حتى كافياً للحدّ من نفاذ إيران إلى النظام المالي العالمي.

وخلال الفترة التي سبقت تطبيق «خطة العمل الشاملة المشتركة»، جمع عدد كبير من المحللين بين إعادة النفاذ الإيراني إلى “سويفت” وإعادة النفاذ الإيراني إلى المصارف الأجنبية. وقد رفضت معظم هذه البنوك ترميم العلاقات مع المصارف الإيرانية رغم تجدد نفاذها إلى “سويفت”. وعلى نحو مماثل، توقف العديد من المؤسسات الأجنبية عن التعامل مع المصارف الإيرانية حتى قبل منع هذه الأخيرة من [استعمال شبكة] “سويفت” في عام 2012. وقد تراجع استخدام إيران لنظام “سويفت” بأكثر من 30 في المائة بين عامَي 2006 و 2012 (السنوات الوحيدة التي تُوفر فيها المنظمة مثل هذه البيانات)، وهو انخفاض كبير خلال فترة شهدت نمو الحجم العالمي الإجمالي لمعاملات “سويفت” بنحو 40 في المائة. وشمل هذا التراجع الذي سجلته إيران انخفاضاً بنسبة 22 بالمائة في عام 2008 – وهو العام نفسه الذي مُنعت فيه البلاد من استخدام “معاملات المرور العابر للأموال” (U-turn transactions) المقوّمة بالدولار، أي بعد مرور فترة وجيزة على دعوة الأمم المتحدة إلى “توخي الحذر” في التعامل مع المصارف الإيرانية في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1803.

ومنذ أن أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في أيار/مايو، أفادت عدة مصارف أجنبية كانت قد استأنفت علاقاتها مع إيران بأنها ستخفض حجم أعمالها، من بينها مؤسسات مالية كبرى مثل “كاي بي سي” (KBC)  البلجيكية و”مصرف التجارة والاستثمارات” (BCP) السويسري و”بنك دي زي” (DZ Bank) الألماني، فضلاً عن مصارف أصغر حجماً وأقل تعرضاً للولايات المتحدة (على سبيل المثال، “أوبر بنك” النمساوي). وليس هناك شك في أن النفاذ إلى [شبكة] “سويفت” يجعل من السهل إجراء معاملات عبر الحدود وتبادل العملة الأجنبية، لكن المؤسسات المالية تملك وسائل أخرى لتبادل الرسائل المتعلقة بالمعاملات. وبالتالي، قد يكون للمساعي الرامية إلى تقليص المعاملات مع إيران في الوقت الحالي أثر محدود فقط، كما قد تترتب عليها بعض السلبيات.

أولاً، إن فرض عقوبات على نظام “سويفت” من المرجح أن يثقل كاهل المصارف الأمريكية بقدر [ما يُرهق] المصارف الإيرانية، نظراً لأنها ستجد صعوبةً في استخدام خدمة [هذا النظام] إذا تمت إضافته إلى لائحة العقوبات. كما أن بعض المعاملات المتعلقة بالأدوية والأجهزة الطبية والسلع الزراعية ستبقى مسموحةً حتى بعد إعادة فرض العقوبات النووية. ومن مصلحة الولايات المتحدة السماح لهذه المعاملات، إن لم يكن تسهيلها.

وبدلاً من افتعال نزاع مع أوروبا بشأن “سويفت”، أمام الحكومة الأمريكية سبل أقل إثارةً للجدل لمواجهة السلوك الإيراني غير المشروع. ففي خطاب أدلت به وكيلة وزارة الخزانة الأمريكية سيغال ماندلكر في 5 حزيران/يونيو، أدانت القطاع المصرفي الإيراني، بما فيه “البنك المركزي”، بإشارتها إلى “جهوده المنهجية لتقويض النظام المالي الدولي”. وفي هذا السياق، يجب على واشنطن ألا تُحذّر المصارف من أن مزاولة الأعمال مع إيران قد تجعلها شريكةً في نشاط غير شرعي فحسب، بل عليها أن تحث شركائها أيضاً على تطبيق أفضل للعقوبات التي لم تخففها «خطة العمل الشاملة المشتركة». وعلى وجه الخصوص، إن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على سوريا يمكن تطبيقها أيضاً على “البنك الإيراني لتنمية الصادرات” – وهي المؤسسة التي استخدمتها طهران، وفقاً لبعض التقارير، لمنح ائتمانات إلى نظام الأسد عبر العديد من المصارف السورية المملوكة للدولة، بما فيها مصرف واحد على الأقل مدرج على لائحة العقوبات الحالية للاتحاد الأوروبي.

ويمكن لهذه الإجراءات وغيرها أن تمكّن “سويفت” من فك ارتباطها بالمصارف الإيرانية التي تتجاهل السلطة الدولية باعتبارها مسألة “ملزمة من الناحية التنظيمية”. وعلى وجه الخصوص، لم يتمكن “بنك صادرات إيران” من إعادة الارتباط بنظام “سويفت”، وفقاً لصحيفة “فاينانشال تريبيون” الإيرانية اليومية. فقد تمّ حذف “بنك صادرات إيران” من لوائح عقوبات الاتحاد الأوروبي في تشرين الأول/أكتوبر 2016، على الرغم من كونه أحد المصارف الإيرانية الثلاثة التي كانت لتبقى ضمن هذه اللوائح بعد تطبيق الاتفاق النووي. ومع ذلك، لا تزال العقوبات الثانوية ساريةً على المصرف لأن الولايات المتحدة فرضت عليه عقوبات في إطار صلاحيات مكافحة الإرهاب.

النظر في التهرب

ستبحث إيران من دون شك عن فرص للتهرب في ظل ضغوط العقوبات الجديدة. فلأكثر من 30 عاماً، استحدث النظام والمؤسسات الفردية وسائل متطورة للالتفاف على العقوبات الأمريكية والمتعددة الأطراف المتباينة الشدة، وواصلت على ما يبدو استخدام هذه الشبكات خلال فترة الإعفاء من العقوبات. ومن هذا المنطلق، واجهت الشركات الإيرانية موقفاً لا مفرّ منه. فقد شعرت أنها لا تستطيع الإفلات بشكل كامل من شبكات التهرب طالما أنها غير قادرة على إقامة علاقات مع المصارف العالمية، ومع ذلك، كان هذا السلوك المخادع هو الذي جعل المصارف تحجم عن استئناف العمل معها في المقام الأول.

فعلى سبيل المثال، في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، تمّ تجميد حسابات الشركات الإيرانية في الصين ودبي وماليزيا بعد أن تمّ اكتشاف أمر شركات البتروكيماويات التي كانت تزوّر سندات الشحن لتخفي الأصل الإيراني للسلع من أجل تأمين التمويل التجاري. وفي هذا السياق، أوضح مسؤول إيراني في قطاع البتروكيماويات للصحافة المحلية أنه “لا يزال يتحتم علينا تحويل أموالنا عبر وسائل استخدمناها خلال فترة العقوبات”. ورداً على ذلك، عززت الصين تطبيق القيود على مصارفها استعداداً للتقييم الذي تجريه “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” (“فاتف”) [التي هي هيئة المراقبة المالية الدولية] في منتصف عام 2018.

إلا أنه في هذه المرة، قد تكون الوسائل التقليدية الإيرانية للتهرب أقل ملاءمة. وفي هذا الصدد، يمكن التطرق إلى العمل المشترك بين الهيئات التنظيمية في دولة الإمارات ووزارة الخزانة الأمريكية في الشهر الماضي لوقف عمل شبكة «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني التي كانت تستغل مكاتب الصيرفة في الإمارات لتوفير الدولار الأمريكي لجماعات وكيلة إقليمية. وقد يكون القطاع المالي التركي أقل ملاءمةً أيضاً بعد أن حُكِم على مسؤول مصرفي تركي بارز الشهر الماضي بالسجن لمدة إثنين وثلاثين شهراً في أحد السجون الأمريكية. فوفقاً لوكالات إنفاذ القانون الأمريكية كان المسؤول التنفيذي في “بنك خلق” حقان عطا الله متورطاً في مخطط تهرب إيراني يهدف إلى تبييض “عائدات النفط الإيراني بقيمة مليارات الدولارات، مما أدى في النهاية إلى توافر أموال سرية تستخدمها إيران كما ترغب”.

مشاكل على صعيد الموارد

منذ إعلان الحكومة الأمريكية انسحابها من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أطلقت سبع مجموعات من العقوبات الجديدة التي تستهدف النشاط الإيراني غير النووي المحظور. ومن الواضح إذاً أن الإدارة الأمريكية ستواصل التركيز على سلوك إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة، وجهودها لتطوير الصواريخ وانتشارها، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، ودعمها للإرهاب، وغير ذلك من السلوكيات المؤذية الأخرى، حتى في ظل قيام الإدارة الأمريكية بإعادة فرض العقوبات النووية.

وقد استغرق إعداد معظم الإجراءات الأخيرة، إن لم نقل جميعها، عدة أشهر. وبناء على ذلك، سيتعين على فريقي العقوبات في وزارتي الخزانة والخارجية الأمريكيتين موازنة جهودهما لتجديد قائمة الإجراءات الإضافية مع صياغة أنظمة جديدة، والإجابة على الأسئلة المتكررة، وتطوير الأساس الجوهري لإعادة إدراج بعض من الـ 200 هيئة التي تمّ إعفاؤها من العقوبات بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». ومن خلال القيام بذلك، يجدر بهما منح الأولوية للإجراءات التي سيكون لها الأثر الأكبر مع إظهار رغبة في التوصل إلى حل وسط حول تلك التي ستؤثر بشكل هامشي فقط على نفاذ إيران إلى الخدمات المالية وعوائد النفط. ومن شأن هذه المقاربة أن تؤدي إلى زيادة الموارد المحدودة للحكومة الأمريكية إلى أقصى حد ممكن، مع عرضها في الوقت نفسه غصن الزيتون [أي توفيرها الفرصة المنتظرة للتوافق] إلى الشركاء في أوروبا وأماكن أخرى، مما يعزز احتمال تقديمهم المساعدة لواشنطن للفت الانتباه إلى الانتهاكات الإيرانية الفاضحة جداً للمعايير الدولية.

پاتريك كلوسون هو زميل أقدم في زمالة “مورنينغستار” ومدير الأبحاث في معهد واشنطن، وكبير الاقتصاديين السابقين في “صندوق النقد الدولي” و “البنك الدولي”.

كاثرين باور هي زميلة “بلومنستين كاتس فاميلي” في معهد واشنطن ومسؤولة سابقة في وزارة الخزانة الأمريكية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى