معهد واشنطن – الميليشيات في قوات الأمن العراقية : السياق التاريخي والخيارات الأمريكية
معهد واشنطن – عمر النداوي و مايكل نايتس – 22/2/2018
بدأت الحكومة العراقية بتخصيص أبرز [وحدات] قوات أمن الدولة لكبح جماح الميليشيات المارقة، على الرغم من مواجهتها هجمات مستمرة من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» في سبع محافظات من أصل ثماني عشرة محافظة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، تمّ تعديل مهام قوات العمليات الخاصة من أجل نزع سلاح الميليشيات العاملة في مدن غير مستقرة مثل طوز خورماتو والبصرة – في أحدث تكرار لدورة اعتمدت خلالها الحكومات المتعاقبة على الميليشيات في أوقات الضعف، ثم حاولت قمعها بعد أن أصبحت أشدّ قوة. وبالتالي، فمن جملة الأسئلة التي تطرح نفسها هنا، ما إذا كانت الفترة الحالية [التي تتمثل بوجود] ميليشيات مخوّلة (تتمتع بسلطة استخدام القوة) تشكل خطراً استثنائياً في السياق التاريخي، وما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة مساعدة بغداد على كسر هذه الحلقة وتحطيمها بشكل نهائي.
الدورات السابقة للميليشيات العراقية
إن مشكلة السلاح التي هي خارج سيطرة الدولة قديمة بقدر قِدم العراق نفسه. ففي عام 1933، اشتكى الملك فيصل الأول من أن قبائل البلاد تملك نحو 100 ألف بندقية، في حين لم تكن الحكومة تملك سوى 15 ألف بندقية. وقد عكست الثروة النفطية للحكومة هذا التفاوت في نهاية المطاف، رغم مواصلة قوات “البيشمركة” الكردية، والمتمردين الشيعة المدعومين من إيران، والمهربين القبليين على الحدود العراقية-السورية مقاومة سلطة الدولة طوال فترة حكم حزب “البعث”.
وقد ردّ نظام صدام حسين النار بالنار، فأنشأ ميليشيات عربية وكردية لمحاربة القوات المحلية غير الخاضعة لسيطرته. وخلال الحرب العراقية-الإيرانية، وزّع حزب “البعث” الأسلحة والذخائر على الميليشيات المدعومة من الدولة على غرار “الجيش الشعبي”. وخلال النزاعات بين 1991 و2003 ضد التحالفات بقيادة الولايات المتحدة، أقدم النظام على تسليح “فدائيي صدام” و”جيش القدس”. وقد ساعدت عناصر ميليشيا “الفدائيين” على توفير الأمن للنظام لكنها سرعان ما أصبحت تشكل خطراً إجرامياً، استُقبل بالاستياء الشديد من قبل الجيش النظامي في العراق.
وبعد عام 2003، جاء دور واشنطن للاعتماد على دعم الميليشيات. فعملياً، جعلت المادة 9 من دستور العراق لعام 2005 هذه القوات غير قانونية، حيث نصّت على ما يلي: “يُحظّر تشكيل ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة”. وتَمثّل ردّ الميليشيات على هذا الحظر بأسلوبين. فالبعض – وأبرزها «فيلق بدر» المدعوم من إيران – انضمّ ببساطة إلى قوات الأمن الاتحادية بأعداد كبيرة في عملية عُرفت باسم “دمج”. ونتيجةً لذلك، أَنشأت الفرقة الخامسة التابعة للجيش العراقي في ديالى فرعاً كبيراً لـ «فيلق بدر» وزرعت الجماعة [البذور الأولية] لعناصر الميليشيات داخل وزارات رئيسية وأجهزة المخابرات في الحكومة الاتحادية. وعلى نحو مماثل، تحوّلت أكثر من 20 كتيبة من “البيشمركة” في الشمال الكردي إلى “كتائب الحرس الإقليمي” بموجب المادة 121 من الدستور، في حين كانت بعض كتائب الجيش المتمركزة في الشمال وحدات من “البيشمركة” ولكن باسم مختلف.
غير أن ميليشيات أخرى بقيت بوضوح خارج الإطار الاتحادي. وفي أوساط “البيشمركة”، ظلت وحدتان مستقلتين بأعداد متساوية تقريباً مع “كتائب الحرس الإقليمي الكردتساني” المعترف بها رسمياً، وهما: «وحدات 70»، التابعة لـ«الاتحاد الوطني الكردستاني»، و «وحدات 80» التابعة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني». واحتفظت القوتان بدبابات ومدفعيات وغيرها من الأسلحة الثقيلة التي لم يُفصح عنها للدولة العراقية. أما في أوساط الشيعة، فقد حافظ أتباع مقتدى الصدر على ميليشيا كبيرة هي «جيش المهدي»، التي أطلقت شرارة انتفاضتين في عدة محافظات عام 2004، ونفذت عمليات تهريب نفط كبيرة في البصرة، وانقسمت في النهاية إلى فروع مدعومة من إيران مثل «عصائب أهل الحق». أما بالنسبة لجماعات المتمردين السنّة، فقد اضطلع العديد منها بشكل أساسي بدور الأجنحة المسلحة للفصائل القبلية وعناصر النظام السابق التي عملت خارج العملية السياسية.
ومع ذلك، بدأت الميليشيات المختلفة تعاني من النكسات في الفترة 2007-2009. فقد تعرّض تنظيم «جيش المهدي» وميليشيا «عصائب أهل الحق» إلى هزيمة عسكرية على يد الجيش العراقي المدعوم من الولايات المتحدة في إطار حملات أمنية كبيرة مثل عملية “صولة الفرسان” في البصرة. ومن أجل هزيمة النموذج الأول من تنظيم «الدولة الإسلامية»، أقنعت الحكومة العراقية بعض الفصائل السنية المتمردة بالانضمام إلى حملة «الصحوة»، بتشكيلها تلك الفئات ضمن وحدات مثل «أبناء العراق». وفي غضون ذلك، فرضت بغداد قوانين تحد من امتلاك العراقيين للأسلحة وحصرها ببندقية هجوم واحدة وخزينة واحدة من الذخائر في منازلهم؛ كما وُضعت أيضاً قيود صارمة على الأسلحة والسيارات المصفحة التي تستخدمها شركات الأمن الخاصة.
بيد، سرعان ما فقدت الحكومة مرة أخرى سيطرتها على الميليشيات. فقد تمّ تسريح «أبناء العراق» والتخلي عنهم إلى حد كبير، ليتم العمل على لمْ شتاتهم من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي عاد إلى الظهور بعد عام 2011. ومن ناحية أخرى، أدّى اندلاع الحرب في سوريا والإضعاف المتزامن لقوات الأمن العراقية من خلال التسييس والفساد إلى دفْع بغداد إلى الاعتماد على الميليشيات الشيعية مثل «عصائب أهل الحق»، و”الصدريين”، و«منظمة بدر» ذات التسمية الجديدة، وكذلك «كتائب حزب الله». وبحلول عام 2012، عادت حواجز التفتيش التابعة للميليشيات إلى الظهور في المدن العراقية، [وبدأ] قادة الميليشيات ينفذون سياسة خارجية مستقلة من خلال تدخلهم في الحرب السورية.
مستقبل الميليشيات في العراق
عندما أُنشِئت “لجان الحشد الشعبي” رسمياً ضمن “مكتب رئيس الوزراء” في حزيران/يونيو 2014، جَمعت مجموعة متنوعة من الميليشيات تحت مظلة واحدة، بما فيها «قوات الحشد الشعبي» ذات الغالبية الشيعية وجماعتي “الحشد العشائري” و”الحشد الوطني” ذات الغالبية السنّية. وقد مَنحت هيكلية “لجان الحشد الشعبي” رواتب حكومية ووضعاً قانونياً لحوالي 150 ألف فرد من رجال الميليشيات وذلك ضمن “إطار القوات المسلحة”، لكنها وضعتهم في الوقت نفسه تحت القيادة الاسمية لرئيس الوزراء وفرضت نظاماً عسكرياً على قوات هذه الميليشيات. وفي المقابل، لم تتلق “كتائب الحرس الإقليمي” التابعة لـ”البيشمركة” أي مدفوعات من بغداد على الرغم من كونها تابعة نظرياً إلى القوات المسلّحة.
وهناك نقطة خلاف رئيسية وهي ما إذا كانت “لجان الحشد الشعبي” وقوات “البيشمركة” راغبة حقاً في قبول القيادة والسيطرة [للحكومة] الاتحادية، أو أنها مجرد تسعى إلى الحصول على الموارد الاتحادية، بينما تحافظ على استقلاليتها من ناحية تنفيذ العمليات. ومن بين الخيارات التي تدرسها بغداد بجدية هي تقليص حجم “لجان الحشد الشعبي” هذا العام من أجل خفض الميزانية المخصصة لها في عام 2019. (تم تخصيص 1.63 مليار دولار لـ “لجان الحشد الشعبي” في ميزانية عام 2018). وبموجب هذه الخطة، سيتم تقسيم قوات “لجان الحشد الشعبي” تدريجياً إلى ثلاث جماعات فرعية:
• مدمجة ضمن القوات المسلحة. يتمّ تجنيد بعض عناصر الميليشيات الناشطة من “لجان الحشد الشعبي” بشكل فردي في الجيش و”إدارة إنفاذ الحدود”، و”الشرطة الاتحادية”، ودوائر الشرطة المحلية وغيرها من القوات الحكومية.
• احتياطي “لجان الحشد الشعبي” الدائم. يبقى بعض المقاتلين الآخرين المؤهلين تحت راية “لجان الحشد الشعبي” لكنهم يخضعون لتدريب احترافي تدريجي كقوات احتياطية، تعمل على الأرجح على أساس دوام جزئي أو عندما يتم حشدها فقط.
• ميليشيات مستقلة. يتمّ إبعاد كافة الميليشيات المتبقية التي تعتبر من عناصر “لجان الحشد الشعبي” عن هذه اللجان وتُشطب من جدول رواتب الحكومة، لكن وجودها يكون مقبولاً طالما تُبقي أسلحتها الثقيلة في قواعدها المعروفة وتوقف كافة عملياتها العسكرية. ومن المحتمل أن تشمل الميليشيات ضمن هذه الفئة أفضل العناصر المسلحة من «منظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله»، التي ستستمد فيما بعد معظم دعمها من إيران. وقد يكون هذا الترتيب مقلقاً جداً في نظر الأمريكيين. لكن من الملاحظ على وجه الخصوص أن العديد من جوانبه ستوازي موقف الحكومة العراقية إزاء وحدات “البيشمركة” المستقلة، التي لا تسعى بغداد إلى تسريحها بصورة نشطة، ولكنها لا تتلقى المال أو التدريب أو العتاد من السلطات الاتحادية.
التداعيات على السياسة الأمريكية
يُظهر التاريخ أن اعتماد العراق على الميليشيات ظاهرة متكررة، وأن عملية التسريح ونزع السلاح وإعادة الدمج تمثل تحدياً كثير الحدوث. ومع ذلك، هناك فرق مثير للقلق هذه المرة – ففي حين أن الميليشيات التي تلقت دعمها من الحكومة في الدورات السابقة كانت مجرد أذرع للدولة العراقية (وإن كانت شبه مستقلة)، فإن بعضها الآن هي أيضاً وكالات أجنبية ذاتية الإعلان، تعتمد على دعم مالي ومادي واستشاري كبير من دولة قوية مجاورة هي إيران. ومن شأن مصير الميليشيات العراقية أن يرتبط بالدولة العراقية السيادية، لكن اليوم من المشكوك فيه ما إذا كان العراقيون وحدهم يتخذون القرارات المتعلقة بمستقبل جماعات مثل «عصائب أهل الحق» و«بدر» و«كتائب حزب الله».
ولدى الولايات المتحدة كل الحق في أن تشرح علناً العوامل التي ستجعل التعاون الأمني الثنائي أسهل أو أكثر صعوبة، باعتبارها حليفاً أساسياً ومزوداً رئيسياً للمساعدات. وبالتالي، يتعين على السياسة الأمريكية أن تسترشد بالمبادئ التالية بشأن مسألة الميليشيات:
التحلّي بالواقعية. تاريخياً، عملت واشنطن مع الميليشيات العراقية عندما كان مثل هذا التعاون يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، وعندما كانت الجماعات المذكورة تستجيب لقيادة الحكومة العراقية وسيطرتها. وعندما رأت الولايات المتحدة أن أمر ما مناسباً، تجاهلت وجود الميليشيات الكبيرة الخارجة عن الدستور مثل وحدات “البيشمركة” المستقلة؛ وتعاونت مع الميليشيات التي ارتكبت هجمات ضد القوات الأمريكية في الماضي، إذا بدا أنها لا تشكل تهديداً في المستقبل، كما حصل خلال حملة «الصحوة»؛ وعملت مع الوحدات العسكرية العراقية التي كانت مليئة بالعناصر الميليشياوية خلال فترة الاحتلال الممتدة بين 2003 و2011 والحملة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بين 2014 و2018. يجب على هذه المعايير – أي الاستجابة لسيطرة الحكومة وعدم طرح أي تهديد مستقبلي – أن تواصل في توجيه موقف واشنطن تجاه الميليشيات في العراق.
وضع خطوط حمراء. بغض النظر عن الواقعية والمرونة، لا يزال يتعين على الولايات المتحدة العمل ضمن مجموعة محددة من الخطوط الحمراء ومصممة تصميماً جيداً – وإلا قد ينتهي بها المطاف في تعزيز الميليشيات المدعومة من إيران والمدمجة في قوات الأمن العراقية. وخلافاً لقوات “البيشمركة” أو «الصحوة»، تواصل بعض الجماعات التي تدعمها إيران (مثل «عصائب أهل الحق» و «كتائب حزب الله») تهديد الأمريكيين علناً في العراق. وبناء على ذلك، يجب أن تنضم «عصائب أهل الحق» وجماعات متفرعة أخرى مثل “حركة حزب الله النجباء” إلى «كتائب حزب الله» ضمن لائحة الجماعات التي صنفتها الولايات المتحدة كإرهابية، إلى جانب تصنيف قادتها على لائحة الإرهاب أيضاً. ويجب أن يكون أي اعتداء على الأمريكيين بمثابة خط أحمر – ذلك الذي يطلق تجاوزه مجموعة واضحة من الخيارات التي تستهدف مصالح “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني داخل العراق أو خارجه. يجب أن تكون حماية التقنيات الأمريكية الحساسة خطاً أحمراً آخر. وتشكل الأنباء الأخيرة بأن 9 دبابات من طراز “أم1 أبرامز” كانت الولايات المتحدة قد زودتها [إلى العراق]، تم تحويلها إلى وحدات “لجان الحشد الشعبي” دراسة حالة عن انتهاك العراق الفاضح للشروط الأمريكية.
التقلص التدريجي لـ “لجان الحشد الشعبي”. يجب على واشنطن أن تدعم جهود نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج البطيئة والمطّردة التي يبذلها العراق، والتي من المرجح أن تسفر عن نتائج أكثر إيجابية من أن تؤدي إلى إطلاق مواجهات عسكرية على غرار عملية “صولة الفرسان” عام 2008 – تلك الحملة التي باءت بالفشل تقريباً إلى حين تدخل الولايات المتحدة وتقديمها دعماً عسكرياً كبيراً. ويمكن لدول التحالف أن تزوّد العراق بتكنولوجيا التسجيل البيومتري للتشدد في مسألة إدارة رواتب “لجان الحشد الشعبي” والموارد البشرية. يجب على واشنطن وحلفائها طمأنة بغداد بأن لديهم خطة طوارئ للمساعدة على دعم دفاعات العراق في حال نشوب قتال واسع النطاق مع الميليشيات في العاصمة أو خارجها، مقابل جهود متريثة ومستدامة لإعادة دمج عناصر الميليشيات الموالية وعزل المارقين.
الحفاظ على الوعي الظرفي. بعد انسحابها العسكري عام 2011، خسرت الولايات المتحدة الكثير من قدرتها على فهم ما يجري على الأرض في العراق. ولعكس هذه المشكلة، على واشنطن أن تخصص أصولاً استخباراتية – بشرية وفنية – مهمة لفهم ما تفعله الميليشيات فعلاً في بغداد، والبصرة الغنية بالنفط، وعلى الحدود مع سوريا وإيران. وقد يتطلب جزء من هذا السعي مراقبة أي جهود تبذلها إيران أو وكلاؤها لإقامة جسر بري دائم على طول هذه الحدود. كما يتعين على السلطات الأمريكية التركيز على كيفية قيام قادة الميليشيات برسم معالم عملية اتخاذ القرار في العراق في لحظات حاسمة مثل الاشتباكات التي وقعت مع الأكراد حول كركوك في تشرين الأول/أكتوبر 2017. وأخيراً، هناك مجال واسع لتحسين تعقب المخابرات العراقية للوضع التكتيكي، بما فيه أحدث المعلومات عن نقل الأسلحة الثقيلة ومواقعها، وهيكليات القيادة والسيطرة، والذخائر والمقاتلين المنتمين إلى الميليشيات الرئيسية.
*عمر النداوي هو محلل للشؤون العراقية ومقيم في العاصمة الأمريكية واشنطن ومحاضر ضيف حول تاريخ العراق في “معهد الخدمة الخارجية” [التابع لوزارة الخارجية الأمريكية]. مايكل نايتس هو زميل “ليفر” في معهد واشنطن، وكان قد عمل في جميع محافظات العراق وأمضى بعض الوقت ملحقاً بقوات الأمن في البلاد.