معهد دراسات الأمن القومي – إطلاق سراح القس برانسون : خروج من الدوامة وعودة للطريق الصحيح؟
معهد دراسات الأمن القومي – بقلم غاليا ليندن شتراوس – 16/10/2018
يُعتبر قرار المحكمة في تركيا بالسماح بإطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برانسون وعودته للولايات المتحدة بمثابة نهاية ناجحة بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولطبيعة إدارته للأزمة أمام تركيا حول اعتقال القس. فعليًا، برانسون اعتقل في أكتوبر 2016، لكن في الأشهر الأخيرة شددت الإدارة الضغط على تركيا بشأن قضيته. رغم انكار الطرفين للادعاء الذي نُشر في الصحافة الأمريكية، والذي يؤكد أن هناك صفقة بين أنقرة وواشنطن حول إطلاق سراحه؛ من الصعب التصديق أنه تم تحقيق تطور في المسألة دون تفاهمات أخرى، ستتضح طبيعتها لاحقًا.
جهود العمل على إطلاق سراح برانسون كانت مركزية بالنسبة لإدارة ترامب، رغم أنه ليس المواطن الأمريكي الوحيد المحتجز في تركيا تحت ذرائع زائفة، فقد أثار اعتقال ثلاثة عمال أتراك في الممثليات الدبلوماسية الأمريكية الغضب في واشنطن، لكن ترامب عمل بكامل طاقته لإطلاق سراح برانسون بالتحديد، بسبب الضغوطات التي مارسها اللوبي الانجيلي. إن قراره الذي اتخذه، في أغسطس الماضي، بفرض الضرائب على واردات الألومنيوم والفولاذ من تركيا لتشديد الضغوط على تركيا؛ تسبب بهبوط حاد في قيمة الليرة التركية. إطلاق سراح برانسون قبيل الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، في نوفمبر، جاء في وقت مناسب بشكل خاص بالنسبة للجمهوريين.
منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا (يوليو 2016)، وأنقرة تضغط على واشنطن لتسليمها الداعية الديني فتح الله غولن، الموجود في منفى اختياري بالولايات المتحدة، والذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، لقد فشلت أنقرة في محاولة عقد صفقة “برانسون مقابل غولن”. سيناريو تُسلم في إطاره الولايات المتحدة لتركيا غولن ما زال غير مرجح، لكن التحقيقات التي تجري ضد نشاطات حركته في الولايات المتحدة تُصعب وستُصعب أكثر في المستقبل سلوك أعضائها ومجال التأثير الحركة.
اعتقال برانسون كان مجرد واحدة من القضايا الخلافية الكثيرة بين الولايات المتحدة وتركيا، وكما في قضية اطلاق سراح برانسون، كذلك في القضايا الأخرى يمكن إيجاد طرق ممكنة لسد الفجوات بين الطرفين. على المستوى الأعمق، التوتر في علاقات تركيا – الولايات المتحدة هو بمثابة عبور للقضايا الأخص، لكنه مرتبط بانعدام ثقة متزايد بين الطرفين، بالإضافة لاتجاهات أوسع في السياسات الخارجية الأمريكية، ومن بينها التركية.
الحماسة في السياسات الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والافتراض السائد في دول المنطقة بأن الإدارة تسعى لتقليل تدخلها به، بالإضافة لدعم واشنطن لجهات بينها وبين تركيا خصومة في الوقت الحالي؛ تحث أنقرة على تطوير علاقاتها مع لاعبين آخرين في المنظومة الدولية. السياسات الخارجية التركية هي أيضًا تعاني اليوم من التعارض، ويُنظر لأنقرة في واشنطن على أنها تخلق استفزازات لا لزوم لها، كما يُنظر للسياسات التركية الخارجية على أنها مدفوعة بناءً على اعتبارات داخلية بشكل خاص، اعتبارات متعلقة بمحاولة الانقلاب الفاشلة واتجاهات قومية، بالإضافة لبعدها عن السياسات الخارجية للسياسة الواقعية.
بالرغم من أن مسألة الدعم الأمريكي لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي والغضب الذي يثيره هذا الدعم ما زال مطروحًا على الطاولة في أنقرة، إلا أنه بمفاهيم كثيرة لم يعد التوتر في هذا السياق بنفس القوة كما كان في العام الماضي، هذا بالأساس يعود للهزيمة الإقليمية المتوقعة لتنظيم “الدولة الاسلامية”، وبالتالي تراجع أهمية القوات الكردية. التهديدات التركية بالعمل عسكريًا شمالي شرق سوريا من أجل التعامل مع حزب الاتحاد الديمقراطي تشكل خطرًا على القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة، لكن ما زال غير واضح إن كان فعلًا هناك مصلحة تركية للعمل على تقليل التواجد الأمريكي، الذي يشكل توازنًا ضد روسيا وإيران في سوريا؛ ولذلك من المتوقع أن ينجح كلا الطرفان بالتوصل لاتفاقات – وإن كانت جزئية – في هذا الشأن.
صفقة شراء المنظومة الدفاعية من طراز S400 من روسيا هي قضية مركزية أخرى تُقلق الولايات المتحدة. في 2015، نجحت الولايات المتحدة بالضغط على أنقرة وثنيها عن امتلاك منظومة دفاعية صاروخية من إنتاج صيني، لكن هذه المرة يبدو أن الأتراك مصممون أكثر على تنفيذ الصفقة مع روسيا، أحد الأسباب التي من أجلها – على ما يبدو – يصعب على الأمريكان أكثر إقناع تركيا بإلغاء عملية الشراء هو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معنيّ بهذه المنظومات في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة والقلق من احتمال أن يتم استخدام سلاح الجو التركي مجددًا ضده وضد داعميه. علاوة على ذلك، لا يمكن استبعاد إمكانية أنه رغم وجود صعوبات في اتصالات سابقة، إلا أن الولايات المتحدة ستبيع في نهاية المطاف منظومات باتريوت لتركيا، وأنقرة ستختار أن تلغي أو تؤجل الاتفاق مع روسيا. وفي الواقع، المعارضون في الكونغرس الأمريكي للمُضي قدمًا في مسالة بيع طائرات اف 35 لتركيا، يطالبون بأن تكون الصفقة مشروطة بإلغاء امتلاك S400.
كما أن تركيا تنظر بشكل سلبي لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وإعادة العقوبات. في السابق، تلقت تركيا من الولايات المتحدة اعفاءات معينة من فرض عقوبات، وكذلك ساعدت ايران كثيرة على تجاوز التأثير السلبي للعقوبات عليها. رغم أن نطاق إيرادات الطاقة الواسع لتركيا من إيران (خلال 2017 حوالي 17% من واردات الغاز الطبيعي لتركيا و27% من واردات النفط كانت من إيران)، هذه المرة هناك خيارات كثيرة أمام تركيا للتنويع مصادر الطاقة الخاصة بها، ومن المتوقع أن تكون الولايات المتحدة يقظة بشكل كبير في جهودها لمساعدة الإيرانيين بتجاوز تأثير العقوبات الجديدة عليهم. كما ان انفتاحًا أمريكيًا على احتياجات الأتراك (خصوصًا في ظل تراجع قيمة الليرة التركية والاعتماد التركي على واردات الطاقة) قد يشجع مزيدًا من التعاون من جانب أنقرة. علاوة على ذلك، الاتحاد الأوروبي، روسيا والصين شركاء في المعارضة التركية لعقوبات على إيران، وهو إجماع قد يعطي مجالًا لتركيا بنوع من المناورة.
سؤال آخر: في أعقاب إطلاق سراح برانسون، هل ستسمح الولايات المتحدة باستمرار اعتقال الصراف التركي محمد هاكان أتيلا، الذي اتهم بالمحكمة الأمريكية من بين جملة أمور بتجاوز العقوبات على إيران؟ يأمل الأتراك ألا تكون الغرامات التي ستفرض على بنوك في تركيا، في أعقاب محاكمة أتيلا، باهظة جدًا.
في الوقت نفسه، تركيا والولايات المتحدة شركاء في المطالبة بالتحقيق السريع باختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية، والمشتبه بأنه قُتل على يد جهات أرسلت من السعودية. في الواقع، ما زالت أنقرة وواشنطن أيضًا حذرتان في مطالبهما أمام الرياض، لكن تعاونًا بينهما في هذا السياق قد يُصعب الأمر على السعوديين المعنيين بجعل الرأي العام الدولي ينسى الحدث. وهنا تثار مسألة: هل سيستمر الأمريكان في الضغط الذي يمارسونه على الرياض؟ وإلا فقد تتحول هذه القضية لنقطة خلاف بين أنقرة وواشنطن.
إطلاق سراح برانسون ليس بمثابة علاج سحري للأزمة المتفاقمة في العلاقات التركية والأمريكية منذ أكثر من عام. علاوة على ذلك، فهو يعكس أنه يمكن الضغط على أنقرة وعلى نقاط ضعفها، وقبل كل شيء من الناحية الاقتصادية. فعليًا، العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على تركيا ليست بعيدة عن الطريقة التي تعاملت بها روسيا مع تركيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية على يد الأتراك (نوفمبر 2015) من خلال الإضرار بأنقرة، والذي كان بالأساس من ناحية اقتصادية.
في السياق الاسرائيلي، لا يبدو أن إدارة ترامب تعمل في الوقت الحالي لتخفيف التوتر القائم بين تركيا وإسرائيل بعد الأزمة التي اندلعت في مايو الماضي حول قضية نقل السفارة الأمريكية للقدس، والتي في أعقابها لم يعد هناك سفير تركي في تل أبيب ولا سفير إسرائيلي في أنقرة، وكذلك تمت إعادة القنصليين. مع ذلك، تحسّن الأجواء في العلاقات التركية – الأمريكية قد يُلطف نوعًا ما من علاقات تركيا وإسرائيل.
وعلى النقيض للأزمة التي اندلعت حول حادثة مرمرة، تركيا ليس لديها اليوم مطالب ملموسة من إسرائيل، كشرط لإعادة السفراء. من ناحية أخرى، ليس هناك شعور بإلحاح تركي حول هذه المسألة؛ بل على العكس، في تصريحات أردوغان الأخيرة حول الأمر، أكد على أنه في ضوء الدور القيادي لتركيا في منظمة التعاون الإسلامي، فيجب عليها السير بحذر في قضية إعادة السفراء. ومع ذلك، غياب مطالب ملموسة قد يسمح بالمرونة في هذا الشأن، ولو اختارت إدارة ترامب ممارسة ضغوطات في هذا الاتجاه أيضًا، يُرجح أنها ستحقق نجاحًا؛ لذلك، هناك داعِ لإدارة حوار إسرائيلي حول الأمر مع الإدارة الأمريكية.