معاريف – بقلم جاكي خوجي – التفافي رام الله

معاريف – بقلم جاكي خوجي – 29/11/2019
قبل بضعة ايام التقيت “ع”، سعودي وصل في زيارة الى اسرائيل بدعوة من وزارة الخارجية. وهو كاتب رأي وباحث في الثقافة، يقرأ ويكتب العبرية. نشر بضعة كتب، بينها بحث في نصوص قديمة بلغة عربية يهودية. فاليهود في الدول العربية درجوا على الصلاة بالعربية، ولكنهم كتبوا صلاتهم باحرف عبرية. ويبدي “ع” اهتماما بهذه الكتابات. “اليهود كانوا وسيبقون جزءا من الامة العربية”، شرح في حديث بيننا.
في اسرائيل كنا سنسميه “رمز يميني”. بخلاف الكثير من العرب، فان “ع” ليس مستعدا لان يدفع ضريبة سياسية للفلسطينيين فيقاطع اسرائيل. كما أن فكرة السلام لدى المصريين والاردنيين لا يستطيبها. فبرأيه، مسموح للسعوديين أن يتصلوا باليهود، أينما كانوا، دون ان يعتذروا عن ذلك. وهاجم الفلسطينيين لما يفعلوه من ربط العرب كلهم بكفاحهم الوطني، على حد تعبيره. فلا يعقل أنه بسبب اقلية في الامة العربية يفوت السعوديون الفرصة لتطوير العلاقات مع اسرائيل. لقد كانت للفلسطينيين فرصة لدولة في 1947، يقول، ولما كانوا رفضوها، فلا داع لان يشتكوا. اما المصريون والاردنيون فيتهمهم بتشجيع الكراهية. كان يتعين عليهم ان يقدموا الى المحاكمة منذ البداية كل من يروج لكراهية اسرائيل، اذا كانوا اختاروها صديقة لهم. هكذا اسرائيل ايضا. عليها أن تحاسب كل اسرائيلي يحرض ضد اصدقائها.
لقد قال اقواله في الميكروفون، وبثت هذا الاسبوع في صوت الجيش الاسرائيلي. وليس فقط لا يأتي المواطنون السعوديون العاديون بالزيارة هنا بشكل دائم بل ان مواقفه الشخصية شاذة. ما قاله بسط أجنحة. ونشر في مواقع اخبارية فلسطينية وعربية ونالت ردود فعل كثيرة، بعضها بالطبع هجومية، ولكن اخرى مؤيدة.
يقول الرأي ان المواطنين السعوديين العاديين ارادوا على مدى السنين اقامة علاقات مع اسرائيل رغم القضية الفلسطينية. ولكن اخراج هذا الموقف من الخزانة هو الامر الجديد. ففي السنة أو السنتين الاخيرتين، وبفضل الشبكات الاجتماعية ينال هذا الموقف امتدادا علنيا في الخطاب العربي. فبعد سبعة أو ثمانية عقود من العناق، بعضها في ظل سفك الدماء، يرى بعض من العرب انفسهم معفيين من القلق تجاه الابن المضروب للامة العربية. وهم يقولون انه حان الوقت لتوثيق العلاقات مع اسرائيل، حتى لو لم تعد بعد للفلسطينيين حقوقهم.
في غداة اليوم الذي التقيت فيه “ع” زار الملك الاردني عبدالله الثاني نيويورك. وحل ضيفا على معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى. وقال امام جمهور عاطف، في معظمه مؤيد لاسرائيل، انه اذا كانت تريد اسرائيل ان تكون جزءا من الشرق الاوسط فان عليها أن تحل المشكلة الفلسطينية. واذا كان لا بد من الحل، فحل الدولتين فقط. دولة فلسطينية مستقلة، في حدود 1967، الى جانب اسرائيل.
الخليج أولا
وها هما زوايتا نظر عربيتان للاتصال باسرائيل. الجديدة والتقليدية. الجديدة مثلها ضيفنا السعودي، والتقليدية عبر عنها الملك. لا غرو أن النهج الجديد يخرج في هذه المرحلة من افواه الافراد. ولم تنضج بعد اللحظة التي يعبر عنها الزعماء. فما بالك أن الشارع يقف ضدهم. وهذه الايام لا يزال الشارع العربي عنصرا مركزيا في اتخاذ القرارات لدى زعماء الخليج، واكثر منهم زعماء مصر، الاردن والمغرب. في المحادثات الداخلية يقولون أكثر بالفعل. من ناحيتهم يمكن صنع السلام وتأجيل حل المشكلة الفلسطينية. هذه ليست ملحة. عشرات السنين من التضامن، بعضها بالدم، اوصلتهم الى هذا الاستنتاج.
ينبغي أن يضاف الى ذلك الانقسام الفلسطيني، الذي يبث احساسا بانعدام الوسيلة من جانب الفلسطينيين انفسهم، ويعقد كل وصول للسلام؛ ومشاكل العرب أنفسهم، التي احتلت رأس سلم الاولويات على مشاكل اخوانهم. ولا غرو ان الملك وابو مازن بقيا وحدهما تقريبا في المعركة ضد هجر العرب للمشكلة الفلسطينية. الاردن هو الوحيد الذي يؤثر مستقبل هذه القضية مباشرة على صورته وعلى وجوده.
في القدس، يتمنون منذ بضع سنوات مسارا التفافيا لرام الله. بلدان الخليج اولا. وحسب هذه الخطة، تقيم اسرائيل علاقات مع امارات الخليج والمغرب، وبعد ذلك فقط تدفع الى الامام بالقضية الفلسطينية، اذا كانت ستفعل ذلك على الاطلاق. وسيحرم هذا السيناريو الفلسطينيين من وسيلة الضغط الاساس على القدس –الظهر العربي. منذ قامت اسرائيل نجحت م.ت.ف في خلق ضغط سياسي عليها بواسطة المقاطعات واللاءات، وباسناد من العرب، اذا اعطيتم دولة، فستحصلون على سلام اقليمي. واذا لم تعطوا فلن تحصلوا. اما انهيار المقاطعة فسيمنع عن الفلسطينيين امكانية اجبار اسرائيل على التنازلات.
من استمع في السنوات الاخيرة بانصات شديد لخطابات نتنياهو السياسية كان بوسعه ان يجد هذه الفكرة منثورة فيها. فرئيس الوزراء يأمل في أن توافق الامارات على ذلك على اساس المصالح المشتركة. فما هي تلك المصالح؟ الصراع ضد ايران، لانها تعرضهم هم ايضا للخطر، والعلاقة الاقتصادية: صناعات امنية، تكنولوجيات متطورة، علاقات طبية، ومشاريع بنى تحتية ومياه. لاسرائيل يوجد الكثير مما تبيعه، ولديهم الامكانيات للشراء. والان السؤال هو الثمن. ليس المالي بل السياسي. في كلمة لنتنياهو في الكنيست، قبل بضعة اسابيع، بسط فكرته. فقد قال ان القوة الاسرائيلية، السياسية والتكنولوجية هي مصدر جذب للعرب. توجد اسرائيل في تعاون مع نصف دزينة من الدول العربية، والعدد كفيل بان يتسع. “اذا لم تكن اسرائيل ضعيفة، بل استعرضت القوة، قوة تستعرض بالمناسبة في صالحهم ايضا”. وألمح بذلك بالتعاون الامني والعسكري مع هذه الدول. السعودية لعبت دور النجم في اقواله. وطرح كمثال شبكة القطارات في اراضيها، التي تلامس الحدود الاردنية. “سنجلب قطارا من حيفا الى حدود الاردن. هذا هناك منذ الان. 150 كيلو متر اخرى فاذا بنا نرتبط بشبكة القطارات السعودية”. وادعى بان لاسفنا هذا المشروع لم يتقدم “بسبب البيروقراطية الرهيبة عندنا”. يمكن الافتراض بان ليس فقط بسببها”.
روى نتنياهو عن المعطيات التي جمعتها وزارة الخارجية في الشبكات الاجتماعية، عن معدلات تأييد مواطني الدول العربية لاسرائيل. “ذات مرة كان صفرا. اما اليوم فهو يتراوح بين 25 و 45 في المئة”. وفي النقاش الذي بادرت اليه النائبة ميراف ميخائيلي وعني بالسلام مع الاردن، شرح رئيس الوزراء لماذا يعلق الخيار الفلسطيني. فعلى حد فهمه، فان الجمود مع الفلسطينيين ليس نتيجة الابقاء على المناطق بل نتيجة صراع وجود. فقد ذكر احداث 1921 و 1929، واحداث 1936 – 1939، كتعبير تطلعهم لتصفية اسرائيل قبل وقت طويل من 1967. وقال: “منذ العشرينيات رفضوا مجرد وجودها”. وعاد وذكر رفض ابو مازن الاعتراف باسرائيل بانها دولة الاغلبية اليهودية. “لم ننجح في اقتحام هذا”.
هل يوجد احتمال لسلام التفافي رام الله؟ السؤال سابق لاوانه. هذه الايام هي مرحلة ولادة الفكرة، ايام فيها تنبت بذورها وتنمي خطابا أوليا. اما تحققها فمنوط بالتطورات الاقليمية. رئيس الوزراء ورجاله يلاحظون البراغماتية لدى جيراننا. في احاديث مغلقة يسمعون تعابير صريحة على السنتهم عن الحاجة الى وضع القضية الفلسطينية جانبا والاندفاع نحو سلام اقليمي. لا يمكن أن نعرف، في هذه المرحلة، الى اي مسافة يبدي حكام السعودية، اتحاد الامارات، البحرين وغيرهم الاستعداد للسير في الاتصالات مع اسرائيل. صحيح أن قوة اسرائيل التكنولوجية، الاقتصادية، العسكرية، العلمية والدبلوماسية تشكل بالنسبة لهم دافعا للتقرب، ولكن مشكوك فيه أن يخاطروا بسببها بمواجهة مع الشارع ومع المتطرفين لديهم في الداخل. فما بالك ان الكثير من هذه الامور يحصلون عليها من اسرائيل منذ الان، دون ان يقيموا معها علاقات علنية.
من الصعب التقدير، اضافة الى ذلك، ماذا سيكون مستقبل ايران. هل ستنجو الجمهورية الاسلامية من حملة الضغوط الكبيرة عليها ام ستضعف، واذا ما ضعفت، او انهارت، فهل سيبقى اي نسغ للعلاقات بين القدس واصدقائها في الخليج. ولنقل ان الفكرة ستتجسد – فهل سيجلس الفلسطينيون بهدوء؟ فهم يعيشون في اوساطنا، وبوسعهم ان يتمردوا، مثلما اظهروا في الماضي. هذا الاسبوع، بعد أن تلقى حماما باردا من اخوانه في اعقاب اقواله عندنا، عدت الى “ع” كي اسأله عن احساسه ككيس الضربات الدوري. فقال برباطة جأش من منزله في الرياض ان “الهجمات علي هي امر طبيعي. الكثيرون هنا يحملون مواقفي”.