أقلام وأراء

مصطفى البرغوثي يكتب –  تزوير “الدولة” بعد تزوير “السلام”

مصطفى البرغوثي *- 13/12/2020

كما توقعنا، لم يعنِ سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية نهاية صفقة القرن ومخاطرها. كانت الصفقة وما زالت خطة نتنياهو والحركة الصهيونية، وإنْ غلفت بغلاف أميركي، لتصفية جميع عناصر القضية الفلسطينية وفرض التطبيع مع المحيط العربي على حسابها. وحتى بعد سقوطه، يواصل ترامب، الذي يمكن تصنيفه أكثر الرؤساء الأميركيين صهيونية، تقديم الهبات لإسرائيل وانتهاز الفرص لمقايضة احتياجات دول عربية مختلفة بالتطبيع مع إسرائيل، كما فعل مع السودان والمغرب. وقدّمت كل اتفاقيات التطبيع أنها اتفاقيات سلام، مع أن الدول المنخرطة فيها لم تكن يوما في حالة حرب أو صراع مع إسرائيل. وفيما بعض من هذه الدول متورّط في حروب وصراعات مع دول شقيقة، فإن الأولوية يجب أن تكون لإنهاء تلك الحروب والصراعات المدمّرة. والأمر الأبرز أن اتفاقيات التطبيع لم تقرّب فرص السلام الخاصة بالصراع الحقيقي الدائر بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي الذي تحول إلى نظام أبارتهايد عنصري، بل أبعدت تلك الفرص. كما عزّزت هذه الاتفاقيات اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل وقوّته، وشجعت نتنياهو على تنفيذ تصعيدٍ غير مسبوق في التوسع الاستعماري الاستيطاني الذي يدمر إمكانية إنهاء الاحتلال وفرص إقامة دولة فلسطينية حقيقية. وما من تزوير أشد صفاقة لكلمة “سلام” من تسمية الاتفاقيات مع نتنياهو بهذا الاسم، في وقت يعلن فيه ليل نهار رفضه قيام دولة فلسطينية، وإصراره على فرض القانون والسيادة الإسرائيلية على كل الضفة الغربية وضم الأغوار ومناطق المستعمرات الاستيطانية، بعد ضم القدس.

“جميع حكام إسرائيل السابقين لم يقبلوا في أي يوم صيغة دولة فلسطينية مستقلة وحقيقية “.

إلى هذا الأمر، تتحدّث معظم دول العالم عن “حل الدولتين”، وقد أصبحت هذه العبارة كليشيه يتكرّر في كل مناسبة تتعلق بالشرق الأوسط. ومع اقتراب تولي بايدن الرئاسة في الولايات المتحدة، تتكاثر الأحاديث عن مفاوضات إسرائيلية فلسطينية جديدة. وتستعد إسرائيل لهذا الاحتمال بجميع الأفكار والافتراضات المكتوبة في صفقة القرن عن فكرة الدولة الفلسطينية. وبدلا من صيغة دولة ذات سيادة حقيقية، ستجد السلطة الفلسطينية على طاولة المفاوضات، إن ذهبت إلى مفاوضات ثنائية أو متعدّدة مع إسرائيل، الصيغة الإسرائيلية لكيان حكم ذاتي هزيل، لن يتجاوز نموذج حكومة بانتوستان على غيتوات مقطعة الأوصال. ومن المهم التذكير بأن جميع حكام إسرائيل السابقين لم يقبلوا في أي يوم صيغة دولة فلسطينية مستقلة وحقيقية. بل تراوحت أفكارهم بين “حكم ذاتي” يعيش في كنف الهيمنة الإسرائيلية واسم “دولة” فلسطينية مجرّدة من مضمونها. ولاحاجة للتنبؤ بما ستطرحه إسرائيل على طاولة المفاوضات، فهو لن يتجاوز الصيغ الواردة صراحة في صفقة القرن، ومنها مرحلة انتقالية اجبارية مدتها أربع سنوات، تخضع فيها السلطة الفلسطينية لامتحانات إسرائيلية يستحيل النجاح فيها، ويطلب منها تنفيذ 52 شرطا، هنا بعضها:

التخلي عن القدس العربية وعن حق الفلسطينيين في إقامة عاصمة فيها، والاعتراف بكامل القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. التخلي الكامل عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة. القبول بمشاركة الإسرائيليين في المسجد الأقصى. القبول بضم الأغوار وشمال البحر الميت لإسرائيل (حوالي 30% من الضفة الغربية). الاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية والقبول بضمها جميعا لإسرائيل. القبول بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية المطلقة على كل ما يقع غرب نهر الأردن بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. القبول بالسيطرة الإسرائيلية على جميع مصادر المياه والثروات الطبيعية والأجواء والمجال الكهرومغناطيسي في كامل الأراضي المحتلة. تنفيذ حرب أهلية في قطاع غزة لنزع السلاح، واستبدال السلطة فيه. التخلي عن الرواية التاريخية الفلسطينية والالتزام بالرواية الإسرائيلية. الاعتراف بإسرائيل (المقصود كل فلسطين) دولة للشعب اليهودي ينحصر حق تقرير المصير فيها باليهود فقط. اشتراط أي عضوية فلسطينية في المنظمات الدولية بالموافقة الإسرائيلية.

“السلطة الفلسطينية تعمل كوكيل أمني في 224 جزيرة مقطّعة الأوصال في الضفة الغربية وقطاع غزة “.

ولا أظن أنني في حاجة لذكر ما تبقى من الشروط، ومن يرغب بالاستزادة يستطيع العودة إلى مجمل الشروط التي فصّلتُها في كتاب “خدعة القرن .. أبعادها واستراتيجية مواجهتها” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020)، فماذا يبقى بعد ذلك من فكرة “الدولة الفلسطينية” و”حل الدولتين”. .. سلطة محدودة الصلاحيات، أشبه بما كانت عليه حكومات البانتوستان أيام نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا، تعمل كوكيل أمني في 224 جزيرة مقطّعة الأوصال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وشعب فلسطيني مقموع سياسيا واقتصاديا بنظام تمييز عنصري، يشمل كل مكونات الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وأراضي 1948، والفلسطينيين المهجّرين في الخارج بحرمانهم من حق العودة إلى وطنهم.

“تنصبّ الجهود الإسرائيلية على بيع نظام الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي للمجتمع الدولي والعربي أنه “حل الدولتين” .

على مدار ثلاثين عاما من المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، عملت الحركة الصهيونية على نشر وترسيخ الرواية الإسرائيلية، وعلى ممارسة ضغوط، شاركت فيها أطراف دولية، على المفاوضين الفلسطينيين لتقديم التنازل تلو التنازل، بحجّة الواقعية، والقبول باتفاقيات منقوصة ومليئة بالألغام الإسرائيلية، كاتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي، والاستعاضة عن إنهاء الاحتلال وإزالة الاستيطان واتفاق نهائي وشامل، باتفاقيات جزئية مرحلية استخدمتها الحكومات الإسرائيلية لكسب الوقت، وجعلتها غطاءً لتوسيع المستعمرات الإسرائيلية، ورفع عدد المستوطنين المستعمرين في الضفة الغربية من 110 آلاف مستوطن، عندما وقع اتفاق أوسلو، إلى 750 ألفا اليوم.

ومثلما جرى تزوير مفهوم “السلام” عبر صفقة القرن واتفاقيات التطبيع، تنصبّ الجهود الإسرائيلية على تزوير مفهوم” الدولة” وبيع نظام الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي العنصري للمجتمع الدولي والعربي على أنه “حل الدولتين”. ولفترة طويلة ساد لدى أجزاء كبيرة في الساحة الفلسطينية اعتقاد بإمكانية الوصول إلى حلّ وسط مع الحركة الصهيونية، وتكرّست في أدبيات فصائل فلسطينية عديدة وبرامجها فكرة أن القبول بدولة صغيرة على 22% من أراضي فلسطين التاريخية، في الضفة الغربية وقطاع غزة سينهي الصراع ويحقق للفلسطينيين ممارسة حق تقرير المصير. ولكن ما فعلته حكومات إسرائيل المتعاقبة والحركة الصهيونية على مدار ثلاثين عاما بتولية اليمين العنصري مقاليد الحكم، وتصعيد التوسع الإستيطاني، وتكريس ضم القدس، وإقرار قانون القومية الإسرائيلي يرسل إلى الشعب الفلسطيني رسالة واحدة، أن الحركة الصهيونية وحكّام إسرائيل لن يقبلوا بحل وسط، ولن يسمحوا بقيام دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة، وكل اتفاق ومفاوضات جديدة لن تكون سوى محطةٍ على طريق ضم كل فلسطين التاريخية وتهويدها.

ولن تتغير مواقفهم إلا بتغيير ميزان القوى، وما من قول أصدق مما قيل يوماً “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.

 *الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى