مروان إميل طوباسي: الميلاد تحت القَهر، حين تتكرر الطريق

مروان إميل طوباسي 22-12-2025: الميلاد تحت القَهر، حين تتكرر الطريق
مع اقتراب ذكرى ميلاد السيد المسيح ، رسول المحبة والسلام ، وصاحب الرؤية في مواجهة القهر والأضطهاد ، لا يمكن للفلسطيني أن يتعامل مع هذه المناسبة بوصفها مناسبة دينية فقط ، أو طقساً احتفالياً مجرداً ، منفصلاً عن الواقع المعاش اليوم أو مجرداً عنه . فالمسيح ، كما نعرفه في وعينا الجمعي ، لم يكن إبن معبد متصالح مع الظلم ، بل صاحب رسالة حق اصطدمت برغبات كهنة الهيكل حين حولوا الإيمان إلى تجارة والقداسة إلى سِلعة ، فخاض الصراع معهم ودفع ثمن موقفه صلباً على طريق الحقيقة .
ذلك الدرب من الالآلم و الشهادة ، ما زال شعبنا الفلسطيني الذي يتوق الى كرامة الحياة الحرة الجميلة ، يسير بطرقاته حتى اليوم عبر عقود طويلة ماضية من الظلم التاريخي المفروض قسراً على مرأى ومسمع من العالم . حيث فلسطين ، التي شهدت الميلاد الأول لطفل مغارة بيت لحم ومن ثم القيامة من على الجلجلة بجبل الزيتون بقُدسنا ، بما تمثله من أنتصار للنور على الظلمة والحق على الباطل ، ما زال شعبها يتعرض لمسيرة الآلام ذاتها ، وللقهر نفسه ، لكن بوجوه وسلطات متجددة لا تختلف بالفكر والهوية ، اكثر قهراً واضطهاداً وعنصرية . شعب فلسطين يُحاصر ويُقتل ويُهجر ، ويُطلب منه في الوقت ذاته أن يحتفل ، أو أن يصمُت ، أو أن يتكيّف مع القهر بوصفه قدراً ، الا أنه شعب عظيم يُصر على أن يصمد ويقاوم حتى ينتصر للحق والحقوق ويحتفل على طريقته في مواجهة القهر والظلم ليستذكر العالم اطفال غزة الذين يحيطهم عيسى ابن مريم بمحبته .
في القُدس المحتلة ، ومَن في القُدس إلا أنتَ ، تتجلى هذه المفارقة بوضوح صارخ . ففي الوقت الذي تفرض فيه بلدية الأحتلال إجراءات تُقيد حق المسيحيين الفلسطينيين وشركاؤهم أبناء شعبنا المسلمين كأصحاب للأرض والتاريخ والهوية ، في إقامة احتفالاتهم الدينية بحرية وكرامة وأخرها منعهم حتى من الدخول إلى باب الجديد بالقدس للإحتفال بسبت ظهور نور يوم القيامة وبالإقتحامات التهويدية للمسجد الأقصى ، الى جانب تغيير الوضع التاريخي والديمغرافي والقانوني للمدينه المُقدسه بما يخالف كل القرارات الدولية والمكانة المفترضة لها ، وتتكامل مع دور حركاتها الأستيطانية للإستيلاء على عقارات الكنائس التاريخيه في قلب حارة النصارى وباب الخليل وغيرها من البيوت بوسائل مختلفة ومشبوهة في بعض صفقاتها المُرّة ، الى جانب مشروع قانون يتم التحضير له لتحويل المسجد الأقصى من مكان مقدس للمسلمين ، لموقع عام ودخول اليهود اليه .
هذه الايام تنظم بلدية الأحتلال بالقدس أسواقاً ميلادية وتزين شجرة الميلاد في محيط باب الجديد بالقُدس الشريف ، في مشهدٍ دعائي مُزيف يعمل على أسرلة الحي وتهويده ، و يُراد له أن يُجمل وجه الأحتلال البشع أصلاً ، لا أن يحترم روح الميلاد المجيد ، بل وبمحاولة فرض الأحتفال من أعداء المسيح على اتباعه .
والسؤال هنا ، كيف يروجون للأحتفال بعيد ، فيما تُقصف كنائس أصحاب الميلاد ، كما والمساجد في غزة كما في جنوب لبنان الشقيق ، ويُقتل الأبرياء تحت أنقاض بيوتهم ودور عبادتهم من قبل مرتكبي الجرائم الجديدة الذين يزورون معنى العيد ذاته ؟ وكيف يُحاولون فرض الاحتفاء بالميلاد ، بينما يعتدي قطعان مستوطنيهم على الكنائس والمساجد في قرى فلسطين ويحاصرون بيت لحم بالحواجز والأستيطان ، يكتبون شعارات عنصرية على جدرانها ، يضرمون النار فيها ويعتدون بالضرب على رهبان الكنيسة في ساحة القيامة ، في انتهاك فاضح لقدسية المكان والإنسان معاً بما يكتمل مع مشروعهم الإستعماري .
الأخطر من ذلك ، هو السماح والقبول بأن تختطف بلدية الأحتلال بالقُدس عيد الكنيسه لمرائبها الخبيثه ولفرض التهويد الجاري على المدخل الرئيسي للباب المؤدي إلى كنيسه القيامة تدريجياً وبوتائر متسارعه كما وفي كل ابواب القُدس ، وهي أي حكومة الأحتلال نفسه تمنع اهلنا بالقُدس من الإحتفال مُدعية الحفاظ على المكون المسيحي الذي تضطهده أصلاً من ضمن قهرها لكل مكونات شعبنا بالحديد والنار . ان ذلك يستدعي من رؤساء الكنائس بالقُدس للأرتقاء إلى مستوى الصرخة الأخلاقية بل والسياسية والقانونية المطلوبة للحفاظ على ما تبقى من الوجود الكنسي المسيحي كمكون من الفسيفساء الفلسطيني الجميل احتجاجاً على سياسات بلدية الأحتلال التي تعمل ليلاً ونهاراً وبشراكة كاملة مع كل مكونات الأحتلال لإضعاف هذا الوجود إن لم يكن إنهائه كما ترغب بذلك عقلية التطرف التلمودي والسياسي الصهيونية . صمتٌ يزداد إيلاماً حين نقارنه بسرعة إدانة الكنيسه المحلية لعملية إرهابية بحق يهود في أستراليا ، وهي جريمة نُدينها نحن دون تردد ، لا بل ندينها أكثر لأن شعبنا الفلسطيني كان ولا يزال الضحية الأولى للإرهاب المنظم لدولة الأحتلال منذ ما قبل جريمة النكبة وحتى اليوم مروراً بما جرى وما زال من تطهير عرقي في غزة ومخيمات اللاجئين بالضفة .
إن الميلاد ، في جوهره ليس زينة ولا أسواقاً ، ولا تساوقاً من البعض الدولي مع الجلاد أو بإتباع ازدواجية المعايير ولابتعاطي أصحاب النفوس الضعيفه مع اجندات المحتل . بل موقف إلى جانب المظلوم ، وصرخة في وجه القهر ، وانحيازٌ أخلاقي للحق وحماية لما تبقى من هذا الوجود الأصيل . وكل ميلاد لا يُترجِم هذا المعنى بفلسطينيته ، يبقى أحتفالاً ناقصاً ، مهما ازدانت الشوارع وتلألأت الأضواء . فما نطلبه من بطاركة ورؤساء الكنائس الأنخراط مع شعب هذه الأرض كما مع المؤسسات المسيحية والإسلامية الوطنيه ورجالات القُدس المخلصين في مقاومة تهويد القُدس وأسرلتها ، وفي وقفة ضمير وحق في وجه بلدية وسلطات الأحتلال تترجم رسالة ميلاد المسيح الذي وصفه زعيمنا الراحل أبو عمّار بالثائر الفلسطيني الأول الذي أنبعثت رسالته الى الإنسانية من قلب فلسطين تحمل معاني الكرامة والحق والعدل والسلام ، لذلك نحتفل بوعيٍ وحذر ، لأننا معرَّضون كل يوم لخطر الموت والحرب في غزة وفي كل فلسطين ، نحتفل ونفوسنا مثقلة بالموت على أرضنا حتى في قلب مدينتنا في القدس الشريف ، كما جاء في رسالة الميلاد الصادرة أمس من القدس من أجل العدل.


