مركز مدار : اليمين الجديد" في مواجهة "اليمين القديم"- خلافات في المواقف وآليات العمل و… رائحة انتخابات!
المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلي “مدار” 20/3/2018
في خطوة كثيفة الدلالة على ما يجري من صراع “هادئ” و”تحت السطح” بين قوتين مركزيتين في داخل “البيت اليميني” الإسرائيلي، نشر موقع “ميداه” اليميني (المقرب من الليكود وزعيمه شخصيا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو) مقالا كتبه رئيس تحرير الموقع، زيف ماؤور، وخصصه لنقد ومهاجمة صحيفة “مكور ريشون” اليمينية (المقربة من حزب “البيت
اليهودي” والتيار الصهيوني المتدين عامة) ورئيس تحريرها، حجاي سيغال، من خلال الفرز والتمييز بين “يمين قديم”، تمثله “مكور ريشون” و”البيت اليهودي” من جهة، و”يمين جديد” يمثله موقع “ميداه” ونتنياهو من جهة أخرى، حسب تشخيص الكاتب وتقييمه.
يمكن الجزم بأن توقيت هذا المقال، الذي يمكن اعتباره استثنائياً في هذه الفترة وهذه الظروف، والذي حمل عنوان “هكذا تُخرِس مكور ريشون اليمين الجديد” (13/3)، لم يأت صدفة، إطلاقا. فإلى جانب ما يطرحه المقال من خلافات واختلافات في الرؤى والتوجهات بين قوتيّ اليمين المركزيتين المذكورتين، تشكل المنافسة الحزبية ـ الانتخابية بينهما دافعا واضحا لنشره الآن بالذات، بالنظر إلى الحديث المتزايد عن احتمال إنهاء الحكومة الحالية دورتها والتحركات الفعلية الذاهبة في اتجاه تبكير موعد الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، على خلفية تورط رئيس الحكومة، نتنياهو، في مخالفات جنائية مختلفة والتوصيات التي قدمتها الشرطة بشأن تقديم لوائح اتهام جنائية بحقه في ملفّين اثنين حتى الآن، فضلا عن التحقيقات التي ما تزال جارية في ملفات جنائية أخرى، تعتبر أكثر خطورة وأهمية.
مما يرجّح هذا التقييم ويؤكده أن الحجة العينية المباشرة لكتابة هذا المقال ونشره الآن تتمثل في خطوة أقدمت عليها صحيفة “مكور ريشون” مؤخرا بالمبادرة إلى عقد مؤتمر مشترك مع “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، تحت عنوان “70 سنة من الديمقراطية”، من دون إشراك أي متحدث من “اليمين الجديد” فيه. لكن هذا المؤتمر لم يكن التعاون الأول من نوعه، ولا الثاني ولا الثالث حتى، بين هذين المنظمّين (“مكور ريشون” و”المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”) اللذين يستبعدان “منظمات يمينية حقيقية وممثليها”، بل سبقه ـ حسبما يسجل كاتب المقال في “ميداه” ـ مؤتمر عقداه في الصيف الأخير حول قضايا اقتصادية، وقبله مؤتمر عقد في تموز 2015 تحت عنوان “عشر سنوات على الانفصال” (عن قطاع غزة) وغيرهما.
حقوق الإنسان،الديمقراطية واليسار
يستهل محرر “ميداه”، زيف ماؤور، مقالته هذه بالإشارة إلى أن صحيفة “مكور ريشون” عقدت، يوم الأحد الماضي، مؤتمرا مشتركا مع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية تحت عنوان “70 سنة من الديمقراطية”. و”باستثناء مراسلي الصحيفة، صحافيين آخرين وعدد من مستخدمي الدولة والسياسيين، لم يتحدث في هذا المؤتمر سوى ثلاثة ممثلين من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية فقط. لم يُدعَ إلى هذا المؤتمر أي تنظيم يميني، ولو من باب التوازن، للرد على المواقف اليسارية التي عرضها ممثلو المعهد”!
كيف يستدل كاتب المقال على “يسارية المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”؟ يوضح قائلا: “تعريفه كذلك ينبع، بصورة حتمية، من تعريفه (المعهد) لمصطلح الديمقراطية: فهدف “مركز القيم والمؤسسات الديمقراطية”، الذي يشكل درة تاج مشاريع المعهد، هو الدفاع عن “الديمقراطية الجوهرية وقيمها في دولة إسرائيل. تنصب جهود المعهد في تعزيز التزام المؤسسات وصناع القرارات بحماية حقوق الإنسان، مبادئ الحرية والمساواة في دولة إسرائيل”. أي، بكلمات أخرى: يتبنى المعهد التعريف الكاذب والمشوه الذي وضعه اليسار لمصطلح الديمقراطية. فهي ليست آلية لتسيير إرادة المواطنين وترجمتها إلى أعمال وإجراءات سلطوية، وإنما هي الامتثال لمبادئ مجردة تتعلق بحقوق الإنسان تخضع (المبادئ) للتفسيرات الذاتوية التي تضعها جهات غير منتخبة، مثل قضاة المحكمة العليا”! ويضيف: “جميع النشاطات الواسعة والمتشعبة جدا التي يقوم بها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، في مجالات الإدارة والحكم، الاقتصاد، الدين والدولة، الأمن والاتصال والإعلام، تستمد وقتها من ذلك التعريف المغلوط والمشوه ـ والمنحاز سياسيا، أيضا ـ لمصطلح الديمقراطية”!!
المؤسسات المنحازة سياسيا وطرق مواجهتها
يرى الكاتب أن صحيفة “مكور ريشون” ترغب في اعتبارها، والاعتراف بها، “وسيلة إعلام جدية ورصينة في معسكر اليمين الإسرائيلي”، ثم يتساءل: “فكيف بالإمكان، إذن، تفسير قصة الغرام المتواصلة بين هذه الصحيفة والمعهد الإسرائيلي للديمقراطية”؟
أما الإجابة على هذا السؤال، كما يعرضها محرر موقع “ميداه”، فتبدأ من العودة إلى الوراء “إذ شهد اليمين في إسرائيل، خلال العقد الأخير، تحولات متسارعة. كان اليمين القديم يؤمن بنوايا المؤسسات المختلفة في إسرائيل وأخذ على عاتقه المسؤولية/ الذنب عن الانحياز السياسي القائم فيها”. ويورد، في هذا السياق، “مقالا مؤسِّسا”، على حد وصفه، كتبه الصحافي وعضو الكنيست الراحل أوري أورباخ في العام 1987، أعلن فيه: “نحن المذنبون في الانحياز اليساري في المؤسسة الإعلامية”. ويضيف زيف ماؤور، في مقالته في “ميداه”: هذه الظاهرة، على مختلف الثورات المحلية التي كانت تطمح في خوضها، منيت بفشل ذريع. فقد أدركنا أن المشكلة ليست فينا، ليست في أننا لم نتجند للوحدات الصحيحة أو أننا لم ندرس المواضيع المناسبة. لقد استغرق الأمر عقدين من الزمن كي يدرك اليمين أن المشكلة المركزية هي أن هذه المؤسسات غير قادرة على وغير مستعدة لاحتواء آراء مغايرة تختلف عن تلك الراسخة لدى المسؤولين عنها والعاملين فيها”! ولهذا، فإن “هذه الخلاصة، التي تم التعبير عنها على صفحات مكور ريشون أيضا أكثر من مرة، قد أنجبت يمينا جديدا… يمينا يردّ على المؤسسات المنحازة سياسيا بثلاث طرق مختلفة”:
الأولى: حين يدور الحديث عن مؤسسة حكومية منحازة وجودها ضروري وحيوي، مثل المحاكم، يطلب “اليمين الجديد” ويتوقع من منتخَبيه وممثليه استخدام صلاحياتهم لإصلاح الاعوجاج وتقويم الانحياز فيه، ثم الوقوف بحزم ودونما هوادة في وجه الموظفين الذين يتباكون على تدمير هذه المؤسسات وسلبها قوتها وتأثيرها.
الثانية: حين يدور الحديث عن مؤسسة حكومية منحازة ولا حاجة لها، بمعنى أنها غير ضرورية وغير حيوية، مثل “غالي تساهل” (إذاعة الجيش الإسرائيلي) والبث الجماهيري بشكل عام، أو مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست، يطلب “اليمين الجديد” إغلاق هذه المؤسسات، من خلال تبني واستخدام خطاب ومنظور ليبراليين.
الثالثة: حين يدور الحديث عن مؤسسة نخبوية منحازة، مؤسسة خاصة غير حكومية أو عامة، مثل “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” أو “الصندوق الجديد لإسرائيل”، يبادر “اليمين الجديد” إلى خلق وتأسيس منظمات ومؤسسات بديلة لها. هكذا فعل حينما أقام “صندوق الأمل” (كيرن تكفا)، “منتدى كوهلت”، “الحركة من أجل الحوكمة والديمقراطية” و”جمعية حق الجمهور في المعرفة”، وهذه كلها “عينات فقط من البدائل التي أقامها اليمين الجديد”، كما يفاخِر زيف ماؤور.
“اليمين القديم” وبدائل “اليمين الجديد”
منطقيا وموضوعيا، كان من المفترض أن تجد هذه المنظمات والمؤسسات البديلة التي أقامها “اليمين الجديد” خلال العقد الأخير، بوجه خاص، “بيتا دافئا على صفحات صحيفة مكور ريشون وعلى منصات المؤتمرات التي نظمتها هذه الصحيفة”، كما يقول زيف ماؤور، الذي يضيف على الفور: “لكنّ هذا لم يحدث”!
لماذا لم يحدث هذا “المنطقي والموضوعي”، برأي ماؤور، الذي يتحدث باسم “اليمين الجديد”؟ ـ لأن “رئيس تحرير مكور ريشون، حجاي سيغال، لم يفهم ولم يذوّت، كما يبدو، مبادئ اليمين الجديد”! ولأنه “ما زال ملتزما بمنظور اليمين القديم إلى الواقع، والذي يطمح إلى الاندماج في عليّة النخب اليسارية، لا إلى استبدالها والحلول مكانها”! وهذا هو، كما يبدو، “السبب المركزي الذي يقف وراء هذه العلاقة الحميمة الوثيقة التي تقيمها صحيفة مكور ريشون مع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، برأي ماؤور.
غير أن ماؤور يستدرك فينوّه بأن “هذا السبب (المركزي!) ليس كافيا وحده لتفسير الغبن اللاحق بممثلي اليمين الجديد ومنظماته على صفحات مكور ريشون ومنصات مؤتمراتها”. ومن أجل فهم ذلك، يجب أولاً فهم “سمة أخرى هامة من سمات اليمين القديم”: ليس فقط رغبته القوية جدا، بل تطلعه الفعلي، إلى الانخراط في صلب النخب القديمة، وإنما سعيه المستمر إلى الفوز باعترافها وبما تسبغه عليه من شرعية، أيضا. ولهذا فإن “إقصاء منظمات وممثلي اليمين الجديد عن صفحات مكور ريشون ومنصاتها هو نتيجة طبيعية، حتمية، لنمط التفكير السائد لدى اليمين القديم، لأن هذه المنظمات تشكل تحديا جوهريا، قويا وثابتا، للنخب القديمة، التي يشكل المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أحد أبرز مراكزها”. ومن مقوّمات “نمط التفكير السائد لدى اليمين القديم”، كما يصفها ماؤور، مثلا، أن منح حجاي سيغال وصحيفة مكور ريشون منصة لائقة وتمثيلية لتلك الآراء والطروحات التي تعرضها منظمات اليمين الجديد سيشكل “استئنافا، بل تعديا، على استراتيجية التجاهل التي تعتمدها النخب اليسارية” (!!)، مما سيكبدهما (سيغال وصحيفته) بالتالي “خسارة ثروة ثمينة جدا، في نظرهما على الأقل”، كما يقول ماؤور بكثير من السخرية الحادة، ويضيف موضحا: سيخسران تصريحات من قبيل “أنا أقرأ (صحيفتيّ) هآرتس ومكور ريشون فقط” أو “مكور ريشون هي صحيفة يمينية، لكنها جدية ورصينة” ـ مثل هذه المقولات “التي ليس ثمة يميني واحد لم يسمعها” هي التي تشكل “خبز حجاي سيغال ومصدر اعتزازه، بصفته رجل اليمين القديم وممثله”!
بيد أن ماؤور لا يعتقد بأنه ما زال في إسرائيل ثمة “يمين قديم” قوي وذو تأثير يحتل مواقع ومناصب هامة، بل يقول: “حجاي سيغال، على ما يبدو، هو الممثل الأخير لليمين القديم الذي لا يزال يتمتع بمكانة قوية، أيا كانت. ويمكننا فقط التساؤل عن سبب إصراره على عدم الاستفاقة والتعقل والانخراط في صفوف اليمين الجديد”! ثم يضع ماؤور “المعادلة” التي تمثل ما يشبه التهديد، الصحافي ـ الإعلامي أساسا لكنه لا يخلو من معانٍ انتخابية أيضا، ليس لحجاي سيغال شخصيا فقط وإنما لكل ما يمثله من “يمين قديم”، بتعريف محرر “ميداه”: “إذا ما أصرّ (سيغال) على رفضه الإيديولوجي، فيبدو أنه لا مناص من تذويت الحقيقة الأساسية التالية: هذا الرفض هو الذي يقيم حاجزا كبيرا ومرتفعا بينه وبين جمهور الهدف الطبيعي لصحيفته. لن يستطيع الاستمرار في تصوير نفسه عنصرا هاما ومركزيا في السجال اليميني، في الوقت الذي يغازل فيه اليسار، باستمرار، برؤية يمينية متهالكة”.
يشار، أخيرا، إلى أن حجاي سيغال هو رئيس تحرير “مكور ريشون” (الصحيفة اليمينية التي تأسست في العام 1997) ابتداء من تموز 2014؛ مستوطن يسكن في مستوطنة “عوفرا”؛ وإرهابي أدين في العام 1980 بعضوية “التنظيم الإرهابي السري اليهودي” وحُكم عليه بالسجن الفعلي لمدة سنتين، على خلفية مشاركته في محاولة اغتيال ثلاثة رؤساء بلديات فلسطينيين في حزيران 1980: كريم خلف (رام الله)، بسام الشكعة (نابلس) وإبراهيم الطويل (البيرة). وهو والد معلق الشؤون الحزبية في القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، عميت سيغال.
كما يُشار إلى أن موقع “ميداه” تأسس في العام 2012 بمبادرة من ران بارتس، المستوطن في “كفار أدوميم” والناشط السابق في منظمة “إم ترتسو” اليمينية ثم مدير طاقم الإعلام في ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، بين العامين 2016 و 2017.