شوؤن عربية

مركز كارنجي : العودة إلى أي مستقبل؟ ماذا سيبقى للنازحين في سورية؟


دراسة من إعداد: خضر خضور، مركز كارنجي للشرق الاوسط ٢-٢-٢٠١٨م
ملخّص
عانى تنظيم الدولة الإسلامية من نكسات في شرق سورية مع تحرير الرقة ودير الزور. بيد أن هذا وحده لن يُسهِّل عودة واسعة النطاق للاجئين. فقد خسرت كلتا هاتين المحافظتين وضعيتهما كمركزين اقتصاديين، وتتنازع السلطة على أراضيهما قوى متنافسة. ومما فاقم من مسألة اللااستقرار والتقلُّب تصاعد التوترات بين العرب والأكراد، ووسائل التدقيق الأمني التعسفية التي تطبّقها قوات يدعمها التحالف الدولي. وكل هذا يقلّص من فرص العودة.
مستقبل سورية؟
هزيمة الدولة الإسلامية في محافظتي الرقة ودير الزور لن تؤدي وحدها إلى عودة واسعة النطاق للاجئين.
من غير المحتمل أن يُعاد وصل ما انقطع من روابط اقتصادية بين الرقة ودير الزور وبين المحافظات المجاورة لها في المستقبل القريب.
بسبب النزاع، قامت الجماعات المسلحة بانتقاء قيادات محلية فوقية، ماجعل هذه القيادات أقل تمثيلية، وبالتالي أقل التزاماً بعودة اللاجئين.
آليات التدقيق العشوائية للاجئين العائدين التي تقوم بها قوات سورية الديمقراطية تفتح الأبواب والنوافذ أمام التجاوزات، الأمر الذي يثير مخاوف من عمليات قتل انتقامية.
أذكت شكوك العرب بأهداف الأكراد في شرق سورية التوترات بين الطرفين. هذا، إضافة إلى أن الإحساس العميق بالاقتلاع من الجذور في نفوس العديد من اللاجئين، يقوّض التماسك الاجتماعي الذي يعتبر ضرورياً للتحفيز على العودة.
توصيات
منطقة شرق سورية حيوية لجهود نظام الأسد لإعادة وضع الأراضي تحت سيطرته. كما أنها حاسمة بالنسبة إلى قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد لضمان الحصول على الشرعية السياسية في تسوية مابعد الحرب. ولذا، قد يلي إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية صراع بين هذين الطرفين، مايعيق عودة اللاجئين.
يتعيّن ألا يتم الفصل بين التسوية السياسية السورية وبين أزمة اللاجئين. فأي تسوية من دون عودة اللاجئين ستعيق عملية إعادة الإعمار، لأنها ستُقصي المهنيين وأطراف المجتمع المدني الذين تشتد الحاجة إليهم في هذه العملية. كما أن عودة من دون تسوية، ستؤدي إلى نشوب نزاعات بين القيادات التقليدية وبين القيادات الجديدة التي جرى تمكينها بفعل الحرب.
لكي تُكلل عملية عودة اللاجئين بنجاح، يجب أن تكون مُتضمَّنة في تسوية سياسية أعم تستهدف استعادة الأدوار التقليدية للرقة ودير الزور في نظام المناطق المحلية السوري، كما يجب أن تنخرط مع المهنيين والمجتمع المدني، مما يُعزّز التماسك الاجتماعي.
يمكن أن تتضمن التسويات في المناطق التي استولت عليها قوات سورية الديمقراطية تشجيعها على وضع هيئات الحوكمة المحلية التي شكّلتها تحت مظلة الدولة السورية، وحظر نفوذ شخصيات من أجهزة أمن النظام والكوادر التي لها خلفية مع حزب العمال الكردستاني في هذه الهيئات. وهذا قد يساعد المحافظتين على استئناف دورهما في نظام المناطق المحلية لسورية، ويشجّع على عودة التكنوقراط، ويحافظ على التوازن بين النظام وبين حزب العمال الكردستاني.
مقدّمة
بدا في أواخر 2017، حين فقدت الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً الأراضي التي سيطرت عليها في شرق سورية، أن فرص عودة مئات اللاجئين والنازحين قريباً إلى ديارهم عادت لتجتذب اهتماماً متجددا. لكن بالنسبة إلى أولئك الذين يداعبون فكرة العودة، كان القرار بهذا الشأن أبعد مايكون عن الوضوح. وهذا ينطبق على وجه الخصوص على أهالي الرقة ودير الزور، المدينتان الأهم في شرق سورية اللتان تعرضتا إلى دمار كاسح منذ اندلاع الانتفاضة العام 2011، ما تسبَّب في نزوح السكان قبل وصول تنظيم الدولة الإسلامية، ثم خلال فترة سيطرتها، وبعدها غداة تحرير المدينتين.
لقد دمّرت الحرب في سورية المنازل، ومقومات حياة الناس، والخدمات العامة، ومؤسسات الدولة، وحرمت المدن من وظائفها الاقتصادية والسياسية التي كانت تقوم بها قبيل 2011. كما أن النزاع اجتذب مروحة واسعة من القوى المحلية والأجنبية وفكَّك النسيج الاجتماعي للبلاد. وهذا يصح على وجه الخصوص في المناطق التي كانت تحت سيطرة الدولة الإسلامية، حيث برزت هناك ديناميكيات اقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية معقّدة. ففي الرقة، على سبيل المثال، قبيل وبعد صعود نجم الدولة الإسلامية، فرّ السكان المحليون برمتهم تقريباً من المدينة بسبب القتال.1 ودير الزور لم تعد تقوم بالدور الذي كانت تتسنّمه قبل الحرب كمركز سياسي واقتصادي محوري لشرق سورية. واليوم، تضارب القوى العسكرية والسياسية المُتعادية تجعل من الاستقرار أمراً غير محتمل. ثم تأتي التوترات العربية- الكردية لتضيف عاملاً معقّداً آخر على احتمال تحقيق تسوية مُستدامة في شرق سورية.
ما يردع عودة فئة من السكان، الذين تعتمد عليهم المجتمعات المحلية كي تعمل على نحو سليم، هي على وجه الخصوص مشاعر القلق وعدم الأمان التي تغشى العديد من المناطق التي تحرّرت من قبضة الدولة الإسلامية. وهذا يشمل الموظفين الرسميين، والمهندسين، والأطباء، والمهنيين الآخرين الذين يُهدد غيابهم بتقويض قدرة هذه المجتمعات على ممارسة الحياة السويّة. لقد أدى العنف الذي ضرب محافظتي الرقة ودير الزور إلى تحلّل الوحدات الاجتماعية كالأسر والقبائل والروابط المهنية، وزعزع الفضاءات المدينية، وقطع أواصر الروابط بين السكان وبين مناطقهم الأصلية. وفي هذه الأثناء، سيستغل بعض الأفراد والمجموعات مناحي القوة التي حازوا عليها مؤخراً في المناطق التي يرغب اللاجئون في العودة إليها، وسيستخدمونها كورقة ضغط في المفاوضات مع الأطراف الخارجية، بهدف موضعة أنفسهم كوسطاء في إطار النخبة الجديدة التي تنبثق الآن من أتون النزاع السوري.
هذا هو السبب الذي يمكن أن تؤدي فيه أي عملية لإعادة البناء بمعزل عن التسوية السياسية الأوسع في سورية، إلى جعل هذه المناطق مكشوفة أمام مخاطر التنافس بين القوى المحلية والاقليمية. ومثل هذا الوضع يوفّر للفصائل العسكرية التي قادت الحملة ضد الدولة الإسلامية القوة والسطوة، ما قد يُعقّد عملية إحلال الاستقرار في الأراض المحررة، وتُثبط عودة اللاجئين والنازحين داخليا. بكلمات أوضح، إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية لن يكون الحافز على عودة من غادروا، بل المطلوب حل أوسع يشمل كل البلاد. وهذا لايمكن أن ينجح في شرق سورية، إلا إذا انخرط قادة المجتمعات المحلية خلال فترة ما قبل النزاع في هذه العملية، وعادت المدن كالرقة ودير الوزر إلى ممارسة أدوارها الاقتصادية الجغرافية المتجذّرة السابقة.
نظام أراضٍ ممزّق
سبّب النزاع السوري في كلٍ من مدينتي ومحافظتي الرقة ودير الزور تفكّكاً وتحولات كبرى. وكل منطقة من هذه المناطق توضح بطريقتها الخاصة طبيعة التحديات العديدة والجمّة التي تنطوي عليها عودة اللاجئين. لكن مستقبل كلٍ من الرقة ودير الزور يبقى موضع إهمال، لأن أولئك الذين استعادوا الأراضي من أيدي الدولة الإسلامية ليس لديهم، حتى الآن على الأقل، تصوّر لما يجب أن يحدث لاحقا. وهذا يعود جزئياً إلى أن أوضاع المحافظتين غير واضح، في ضوء العدد الكبير من القوى المُتجابهة فيهما.
الرقة: مستقبل في عزلة؟
قبيل العام 2011، بلغ عدد سكان الرقة نحو 220 ألف نسمة، يشكلون بنية اجتماعية مترامية الأطراف ومعقدة. وكانت سياسات نخب المدينة متقاطعة مع جوارها الريفي ومع القبائل المحلية التي لها ولاءاتها المميّزة، وكذلك مع الدولة المركزية البعثية التي كانت المنطقة تعتمد عليها بشدة.2
حافظت الحكومة في دمشق قبل الانتفاضة على علاقات مع الداخل الريفي، أساساً من خلال المؤسسات المحلية والأفراد المرتبطين بالقطاع الزراعي. وهذا شمل جمعيات الفلاحين، والإدارات الزراعية في الحكومة المحلية التي اختفت برمتها تقريباً في خضم الحرب.3 كان حزب البعث قد سعى منذ الستينيات إلى تحطيم الأنماط الاقطاعية في المنطقة، عبر تمكين الشخصيات القبلية الريفية التي كانت مُهمّشة في ذلك الحين ووضعها في المؤسسات الزراعية. وقد وازن نظاما الرئيس السابق حافظ الأسد وبعده الرئيس بشار الأسد هذه الخطوة بوضع مجموعات أخرى من خلفيات قبلية (خاصة أولئك الذين جرّدتهم القيادة البعثية الراديكالية السابقة من سلطتهم) في الأجهزة الأمنية، والبرلمان، ومؤسسات حوكمة أخرى.4
أدى وصول تنظيم الدولة الإسلامية إلى المنطقة في ربيع 2013 إلى فرار العديد من النخب المدينية المحلية، من أطباء ومهندسين ومعلمين وموظفين رسميين وشيوخ قبائل، من الرقة. كانت النخب الريفية هذه تُمارس نفوذها على قطاعات كالتعليم والسياسات العامة والتجارة، لكن معظمها استقّر إما في دمشق (إذا ما اصطفّت مع النظام) أو في أورفة في تركيا، أو في بلدان أوروبا (إذا كانت متعاطفة مع المعارضة).5 وبحلول العام 2014، كان الحكم الوحشي للدولة الإسلامية قد عزل السكان الذين بقوا في الرقة عن النخب المحلية التي غادرت المدينة. وحين بدأ التحالف الدولي ضد الدولة الإسلامية حملته في الرقة، فرض المتشددون في هذه الجماعة قيوداً أمنية قاسية أسفرت عن إدماج المدينة أكثر في المناطق التي يسيطرون عليها في سورية والعراق، وقطعوها عن أولئك الذين لاذوا بالهرب. وهذا عنى أن نخب ماقبل الحرب التي نزحت إلى أورفة خسرت وضعيتها ونفوذها، ولم يعد أمامها إمكانية للعودة بسبب تواصل القتال والقيود الأمنية. وفي هذه الأثناء، بدأت تتشكّل هياكل سلطة سياسية واجتماعية جديدة في الرقة.6
دشّنت قوات سورية الديمقراطية، التي تدعمها الولايات المتحدة وتتكوّن أساساً من مقاتلين اكراد، هجومها العسكري لاستعادة الرقة وضواحيها في تشرين الثاني/نوفمبر 2016.7 وفي حين أن هذه القوات تضم مجموعات عربية، إلا أنها تقع تحت هيمنة وحدات حماية الشعب الكردية التي تخضع هيكليتها القيادية إلى قادة أكراد درّبهم حزب العمال الكردستاني.8 وعلى رغم أن قوات سورية الديمقراطية نجحت في استعادة الرقة، ليس من الواضح البتة ما إذا كانت قادرة على الحفاظ على الأمن والنظام فيها، وأيضاً على بلورة حوكمة فعّالة في مرحلة مابعد الدولة الإسلامية. حتى الآن، كانت تجربة قوات سورية الديمقراطية في ممارسة الحكم المباشر لسكان غير أكراد قصراً على مناطق ريفية وقرى وبلدات صغيرة. على سبيل المثال، حررت وحدات حماية الشعب في العام 2015 بلدة تل أبيض وشكّلت مجلساً من الأعيان المحليين لإدارة الشؤون المدنية،9 لكن، تعيّن عليها أن تتعامل مع ديناميكيات اجتماعية وسياسية أكثر تعقيداً بكثير حين استولت على مدينة الرقة في تشرين الأول/أكتوبر 2017، لأن تعداد السكان الأصليين فيها كان أكبر بكثير من تعداد سكان تل أبيض قبيل الحرب (15 ألف نسمة).10
كانت الرقة هي العاصمة الرمزية للدولة الإسلامية. وبما أنه ليس هناك حكومة مركزية- على الأقل من ذلك النوع الذي تعتبره الولايات المتحدة شرعيا- للامساك بناصية المسؤولية بعد انتهاء القتال، بذل التحالف الذي تقوده واشنطن ضغوطاً على قوات سورية الديمقراطية لوضع خطة حوكمة لحقبة مابعد الدولة الإسلامية. كانت هذه القوات قد لمّت، خلال تجاربها السابقة في مناطق أخرى، شمل أعيان في مجالس محلية في قرى وبلدات قبيل المعركة، بهدف تلبية متطلبات الحوكمة للسكان غداة العمليات العسكرية. لكن في الرقة بدت خطة القوات مُثقلة بالإشكاليات.
كانت هذه الخطة تشق طريقها من دون أنموذج مشابه لما جرى تطبيقه في مناطق أخرى، فيما كانت القوات العسكرية تتوغّل في المناطق الريفية حول مدينة الرقة. وفي نيسان/أبريل 2017، وفي بلدة عين عيسى الصغيرة التي تبعد 65 كيلومتراً شمال الرقة، نظّم قادة قوات سورية الديمقراطية تجمعاً لشخصيات قبلية تتحدّر من المدينة، وشكّلوا مجلس مدينة الرقة المدني ترقباً لهزيمة الدولة الإسلامية.11 تكوّن هذا المجلس بأغلبية كاسحة من عرب أصدقاء للقوات، بمن فيهم شخصيات معروفة في الرقة، وبدا ذلك جزءاً من استراتيجية قوات سورية الديمقراطية لإضفاء شرعية محلية على حكمها. بيد أن تبنيها للشعار المستوحى من زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان “أخوة الشعوب والتعايش هما الضمانة للأمة الديمقراطية،12 خلق انطباعاً بأنها تسعى إلى الاحتفاظ بالنفوذ الإيديولوجي لحزب العمال الكردستاني حتى في المناطق التي يقطنها عرب.
لكن، حال الاستيلاء على الرقة، عجزت قوات سورية الديمقراطية عن تبنّي المقاربة التي طبّقتها في مناطق محررة أخرى، وهي أرجأت تسليم السلطة إلى المجلس المحلي لأن البنى التحتية كانت قد دُمِّرت خلال الحملة ضد الدولة الإسلامية وكان ثمة ضرورة لنزع الألغام في المدينة. وقد عمدت القوات إلى إدارة نقاط التفتيش وشكّلت قوات شرطة محلية، لكن هذا أوضح إلى أي مدى كان مجلس المدينة غير جاهز للقيام بواجباته من دون دعم قوات سورية الديمقراطية. وكل هذا يجعل من الصعب على السكان العودة.
الآن، حتى لو أزيلت الألغام من المدينة، لاتزال هناك تحديات أخرى أبرزها أن الرقة ستبقى معزولة إلى حد كبير عن المناطق المجاورة التي كانت مُرتبطة بها تاريخياً وتعتمد عليها اقتصاديا. فقبل اندلاع النزاع، كان الموقع المحوري للرقة بين محافظات دير الزور والحسكة وحلب قد حوّلها إلى مركز تجاري مهم يتم فيه على وجه الخصوص تداول المنتوجات الزراعية المُرسلة إلى حلب. ولأن الحكومة المركزية في دمشق تعتبر الرقة وشرق سورية عموماً مناطق تُنتج موارد استراتيجية، كالنفط والقطن والقمح، عمدت إلى تسهيل تدفق التجارة، مثلاً عبر تعيين مسؤولين موثوقين للإشراف على صوامع الغلال في المنطقة.13 وفي حين أن اقتصاد الحرب والسوق السوداء سيستمران على الأرجح في هذه المحافظات، إلا أنه من المستبعد أن يعاد في مستقبل قريب إحياء هذه الروابط التجارية السابقة وقُطعت خلال النزاع. ثم أن العديد الكبير من نقاط التفتيش التي تديرها مجموعات مسلّحة في المنطقة، جنباً إلى جنب مع الهياكل الإدارية المُتنافسة والمُتداخلة التي فُرضت في غياب السلطة المركزية السورية، يعني أن العلاقات التجارية السابقة لايمكن إحياؤها بفعالية اليوم، ناهيك عن إمكانية تنظيمها على نحو سليم.
ثمة تحدٍ ثانٍ: يُرجّح أن تقاوم النخب المدينية في الرقة الخطة التي طبقتها قوات سورية الديمقراطية في بلدات أخرى. ولذا، ستحتاج هذه القوات، أولاً، إلى كسب ثقة الموظفين الرسميين، والمهندسين، والأطباء، ونشطاء المجتمع المدني الذين لاتستطيع المدينة من دونهم أن تستعيد تماسكها الاجتماعي. وهذا ينطبق على وجه الخصوص على أولئك الذين دشّنوا حياة جديدة وأسّسوا أعمالاً في تركيا، أو وجدوا عملاً وأقاموا علاقات جديدة، أو أدخلوا أولادهم إلى مدارس. وفيما قلة فقط تود البقاء في تركيا إلى ما لانهاية، إلا أن التدمير وفقدان الأمن في سورية منع معظم اللاجئين من العودة.14 والواقع أنه سيكون من الصعب على أيٍ كان طرق أبواب الرجوع فيما المدينة مُدمّرة إلى حد كبير، والهياكل الاجتماعية مشلولة كليا، ويفتقد القادة الجدد الذين جرى تمكينهم إلى الاستقلالية عن القادة الكرد في مجالات الأمن وصنع القرار.15 وثمة هنا لازمة يكررها السوريون في تركيا حين يُسألون عما إذا كانوا سيعودون إلى بلادهم، وهي: “نعود إلى أين”؟ ستحتاج النخب المحلية قبل اجتثاث حياتها ثانية لأن تتلقى ضمانات بأن الحكم الجديد في الرقة يستطيع الاستقرار والعمل على نحو سليم.
وهناك تحدٍ ثالث يكمن في طبيعة العلاقات مع النظام في دمشق ومع تركيا. فالنظام السوري له مصلحة عميقة في فشل نماذج الحوكمة التي تُطبّق خارج سلطته، فيما أنقرة تعارض بقوة تنامي النفوذ الكردي على طول حدودها مع سورية. هذا علاوة على أن العديد من القادة القبليين السابقين المُتحدرين من محافظة الرقة يقطنون الآن في دمشق، وأن النظام حافظ على الاتصالات القبلية التي قد تعمل كمعرقلة لأي عملية انتقال سياسي.
نظام الحوكمة المحلي الجديد الذي وضعته قوات سورية الديمقراطية سيخلق رابحين وخاسرين في أوساط الشخصيات القوية في الرقة، وهو يمكّن بعض الاحزاب ويحرم غيرها. وهذا سيسمح لمن يسعى إلى زعزعة استقرار النظام الجديد باستغلال التظلمات لمصلحته.
عدا عملية إعادة البناء والحوكمة، يخشى العائدون المُحتملون- خاصة منهم النخب المحلية التي تستطيع كسب لقمة عيشها في أماكن أخرى- من أنه عند العودة قد يواجهون منافسين جدداً أوجدتهم قوات سورية الديمقراطية، أو أنهم قد يُستهدفون من قِبَل إجراءات الأمن والرقابة. وإذا ماشعر العائدون أنه لم يعد لديهم دور في المدينة، على رغم هزيمة الدولة الإسلامية، فحينها لن تكفي حتى عمليات إعادة بناء شاملة لإقناعهم بالعودة إلى الرقة.
دير الزور: مركز مدمّر
بدورها، تعاني محافظة دير الزور من مشاكل كثيرة. فمدينة دير الزور، وهي المركز التاريخي للمحافظة، تعرّضت إلى الدمار خلال النزاع، ومن غير المحتمل أن تكون في موقع يمكّنها من إعادة إنتاج دورها السابق في أي وقت قريب. وحتى لو تمكّنت، فإن بقية المحافظة تفتتت إلى جيوب معزولة تُسيطر عليها مختلف الفصائل المسلحة. وهذا قوّض الاستقرار العام ومعه أي أمل بعودة كثيفة للاجئين إلى المنطقة.
قبيل العام 2011، عملت دير الزور كمركز لشرق سورية.16 وقد احتفظ النظام بقاعدة عسكرية كبيرة في المنطقة. والمقر العام لمديرية المخابرات الجوية القوية التي يغطي عملها محافظات الحسكة والرقة ودير الزور كان موجوداً في المدينة. كما أن جامعة الفرات، التي تستقبل طلاباً من كل أنحاء شرق سورية، كانت أيضاً في دير الزور. ويُبرز وجود القوات العسكرية وأجهزة الأمن في هذه المدينة ليس فقط أهميتها الاقتصادية بل أيضاً مخاوف النظام من أن تفلت من قبضته.17
أهم الفروقات المهمة بين دير الزور والرقة تتعلّق أساساً بالجغرافيا. فمدينة دير الزور ضعف مساحة مدينة الرقة، ومحافظة دير الزور أكبر بكثير أيضاً من محافظة الرقة. وفي حين أن مدينة الرقة مُحاطة بقرى، تُزنِّر دير الزور مناطق أخرى مع وجود مسافات أكبر بكثير بين المراكز السكانية. يَقسم السكان المناطق حول مدينة دير الزور إلى رُبعيات: الريف الشرقي والغربي، ومناطق الجزيرة شمال دير الزور، والمناطق الجنوبية المعروفة باسم الشامية. ويفصل نهر الفرات الذي يخترق المدينة بين الربعين الشمالي والجنوبي.
بسبب أهمية مدينة دير الزور، بَذَلَ النظام السوري دماً ومالاً كثيفين للدفاع عن وجوده هناك بعد بدء الانتفاضة العام 2011 وخلال الحصار الذي فرضه تنظيم الدولة الإسلامية في الفترة بين أوائل 2015 وأيلول/سبتمبر 2017.18 وهذا عنى أن النظام كان في أفضل تموضع للسيطرة على المدينة وضواحيها بعد كسر الحصار. التركيبة الاجتماعية لدير الزور معقّدة، فهي تتتضمّن طبقة وسطى متعلّمة ونخباً من رجال الأعمال بعضهم لم يعد يقطن في المدنية لكنه يحافظ على روابط حيوية مع الاقتصاد. وفي حين أن نخب رجال الأعمال هذه لديها روابط بحكم الضرورة بالنظام، إلا أنها تميل إلى العمل بشكل مستقل، مايعني أنه من غير المحتمل حدوث جهد موحّد لإعادة اللاجئين. علاوة على ذلك، الكثير من سكان مدينة دير الزور يأتون من خلفيات قبلية، وبالتالي الروابط بينهم تشكّل الجغرافيا المدينية التي تنحو إلى تأكيد أنفصالهم وليس وحدتهم. وقد أُطلق على بعض الأحياء أسماء قبائل ارتبطت تاريخياً بهذه المناطق.
على رغم أن النظام استعاد دير الزور، إلا أن المدينة تعرّضت إلى دمار ماحق يشبه ما حلّ بأحياء حمص وحلب التي كانت تحت سيطرة المتمردين. معظم سكان دير الزور هُجِّروا، ولايبدو أن لدى النظام خطة لمعالجة هذا الأمر في وقت قريب.19 ولاحظ مسؤول في النظام في حزيران/يونيو 2017، حين سُئل عن أفاق المصالحة، “نحن نتصالح مع الأرض وليس مع الناس”.20 ما يشي به هذا البيان هو أولاً: أن مزيداً من الناس سيُهجرون نحو المناطق التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية فيما يتقدّم النظام، وثانياً أن أولوية هذا الأخير هي استعادة الأرض، مايوفّر له أوراق ضغط للتفاوض على عودة النازحين وفق شروطه. وهذا مُشابه للمنطق الذي طبقه النظام في النصف الشرقي لمدنية حلب الذي كان خالياً تقريباً حين سيطرت عليه الحكومة مجدداً في كانون الأول/ديسمبر 2016.
من شأن استراتيجية تقوم على الاستغلال السياسي لعودة النازحين أن تعطي النظام فرصة لاستعادة الاعتراف الدولي، من خلال إجبار الحكومات الغربية على التفاوض مع دمشق لتسهيل عودة هؤلاء. وهذا ليس من شأنه سوى تعقيد صعوبات العودة، لأن الكثير من السكان السابقين قد يترددون في الرجوع إلى ديارهم خوفاً من الاعتقال أو من إجبارهم على الخدمة العسكرية.
يمثّل تدمير دير الزور، بوصفها مركزاً محورياً لشرق سورية، تطوراً تاريخياً لا حلّ واضحاً له في الأفق. كان هم النظام الأساسي حين شنّ الهجوم في محافظة دير الزور هو استعادة أكبر قدر من الأراضي وإعادة وصلها بالمناطق التي يسيطر عليها في باقي أنحاء شرق سورية. وقد مهّدت هزيمة الدولة الإسلامية الطريق أمام طراز جديد من التنافس لتحديد من سيحكم وشكل الحكم الذي يمكن إقامته في المناطق التي كانت تحت سيطرة تلك الجماعة. ولذا، السؤال عما إذا كان بمقدور النازحين العودة أم لا سيعتمد على من سيحكم هذه النواحي وكيف. وحتى بعد إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، يمكن للحكّام الجدد التحكّم أوحتى تقييد عودة اللاجئين لأسباب أمنية.
العقبات أمام عودة النازحين
حالة الرقة
اتجاهان ظهرا خلال الصراع السوري سيتحكّما إلى حد كبير بمستقبل محافظة الرقة. الأول، هو الكيفية التي غيّر فيها النزاع هياكل السلطة المحلية، خاصة منها دور مهنيي الطبقة الوسطى، وانتفاء احتمال العودة إلى ما كان سائداً سابقا. والثاني، هو آليات الغربلة الأمنية الجديدة التي طورتها وطبقتها القوات المدعومة أميركياً والتي قاتلت لانتزاع محافظة دير الزور من قبضة الدولة الإسلامية. وقد كانت حصيلة هذين الاتجاهين بروز نخبة محلية جديدة، وكذلك تطبيق أنموذج أمني في الرقة يتّسم إلى حد بعيد بالعسف والعدوانية.
حين أعلنت قوات سورية الديمقراطية بدء الحملة لاستعادة الرقة، بدأ السكان يفروّن إلى ثلاثة مخيمات للنازحين أنشأتها هذه القوات شمال المدينة.21 هناك، أُخضع النازحون إلى عملية تدقيق قام بها جهاز الأسايش، وهو قوة شرطة تتكوّن من عرب محليين مُجندين، ووحدات حماية الشعب، وأعيان محليين مكّنتهم القوات الكردية لبناء شبكة من الاشخاص الموثوقين الذين يمكنهم أن يكفلوا شخصياً الأفراد الذي يجري التحقيق معهم.22 هؤلاء الأعيان استخدموا معرفتهم بالعائلات الرئيسة في الرقة (وفي بعض الحالات كانوا أقارب لها) لتقديم معلومات قيّمة وللقول، بقدر معقول من الدقة، ما إذا كان بعض الاشخاص قد عملوا مع الدولة الإسلامية، وإلى أي مدى.
بالطبع، مثل هذا التدقيق غير المنظّم وذو الطبيعة العشوائية، والذي يعتمد غالباً على وسطاء، مفتوح على التجاوزات ويُثبط عزم النازحين على العودة. ثم هناك احتمال كبير أيضاً بحدوث هجمات انتقامية وحتى مذابح، بسبب التظلمات الشخصية التي يحملها العديد من المقاتلين. على سبيل المثال، زعم مقاتل في قوات سورية الديمقراطية- وهو عضو سابق في الجيش السوري الحر كان قد تهجّر مع عائلته حين استولى تنظيم الدولة الإسلامية على الرقة في كانون الثاني/يناير 2014- أن 18 فرداً في عائلته الممتدة قتلوا. وحين سُئِلَ من المسؤول عن عمليات القتل هذه، لم يُنحِ باللائمة على الدولة الإسلامية، بل قدّم بدلاً من ذلك لائحة بأسماء أشخاص في المدينة، ما يشي بأن هزيمة الدولة الإسلامية لن يضع حداً لعمليات الانتقام.23 وإذا ماتسنى لهذا المقاتل أن يشارك في عملية التدقيق، سيكون على الأرجح قادراً على جمع معلومات تفصيلية عن أهداف محتملة وربما حتى توسيع لائحته، وهذا خيار متوافر لآخرين في مواقع السلطة في قوات سورية الديمقراطية. هذا إضافة إلى أن البساطة الظاهرة التي تسهِّل فيها عملية التدقيق فرض العقوبات الشخصية، يمكن أيضاً أن تقوّض شرعية أي سلطة محلية تحاول إنفاذ سلطتها وتحقيق الاستقرار.
حتى الآن، تفترض قوات سورية الديمقراطية أن سكان الرقة الذين بقوا في المدينة بعد إطباق الدولة الإسلامية عليها، مرتبطون بهذا التنظيم إلى أن يثبت العكس.24 وهذا يعود إلى حد كبير إلى الحقيقة بأن تنظيم الدولة الإسلامية غرس نفسه بعمق في البنية الاجتماعية المحلية، وحمل السكان المحليين على التوجّه إلى المساجد، وفرض على قطاع الأعمال الصغيرة دفع الضرائب. ومن الصعب اليوم التمييز بين المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية وبين المدنيين الذين أُجبروا على التواطؤ معه قسراً، أو أنهم ببساطة كانوا يحاولون فقط البقاء على قيد الحياة. والحال أن مقاربة “مذنب إلى أن يثبت العكس” تعتبر معضلة وإشكالية في حد ذاتها، إذ هي تقود إلى الاعتقالات والتحقيقات الاعتباطية، والقتل خارج السياقات القضائية، علاوة على أشكال أخرى من العنف التي لن تؤدي سوى إلى مفاقمة السخط الشعبي واللااستقرار الاجتماعي.
ماذا سيعني كل ذلك بالنسبة إلى قضايا على غرار هياكل القيادة الجديدة في محافظة الرقة، وعودة اللاجئين، والمصالحة؟ في ما يتعلق بالقيادة المحلية الجديدة، ظهر نمطان إثنان من الجماعات. فقوات سورية الديمقراطية مكّنت مجموعة من القادة من خلال تعيينهم في هياكل الحوكمة كالمجالس المحلية. وحصدت مجموعة ثانية النفوذ عبر عملية الغربلة الأمنية عقب انتهاء القتال ضد الدولة الإسلامية. هذات النمطان سيمسكان بتلابيب المفاتيح الخاصة بعودة اللاجئين وعملية المصالحة في الرقة. لكن المشكلة أنه تم انتقاء هؤلاء الاشخاص في عملية تمت من فوق إلى تحت، أي أنهم لم يكونوا مُمثلين حقاً لمجتمعاتهم المحلية، ولذا لامصلحة لهم في عودة اللاجئين الذين لا يتحدثون هم باسمهم.
حالة دير الزور
يبدو الوضع في دير الزور مختلفاً إلى حد ما. ففي حين تطلّب الاستيلاء على محافظة الرقة أساساً تطويق واجتياح المدينة الرئيسة، انطوت الحملة العسكرية ضد الدولة الإسلامية في دير الزور على هجمات متعددة، شُنَّت ضد أهداف جغرافية مختلفة من قِبَل قوى متنوّعة ومن اتجاهات مختلفة. إضافة إلى ذلك، كانت القوات في دير الزور تتكوّن من مزيج أوسع من ذلك الذي كان في الرقة- وهنا المقصود ليس فقط قوات سورية الديمقراطية وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بل أيضاً مختلف فصائل الجيش السوري الحر وكذلك الجيش السوري والميليشيات المتحالفة معه.25 ثم ان الطبيعة المُتشظية للغاية للمنطقة، ستؤثر على الطريقة التي سيتم فيها تقاسم السيطرة بعد رحيل الدولة الإسلامية بين هذه القوات، وستسبك طبيعة الآليات الأمنية التي ستقام. وهذا بدوره سيحدد كلاً من آفاق الإستقرار وعودة اللاجئين.
قوّض هذا التشظي دور مدينة دير الزور كمحور اقتصادي وسياسي للمحافظة ككل، وقطع في الوقت نفسه دابر علاقاتها المديدة بالحسكة والرقة. لكن، منذ بداية النزاع السوري، جهد النظام لضمان وجود ولو حد أدنى من مؤسسات الدولة قيد العمل في المدينة. على سبيل المثال، أبقى النظام أبواب الجامعة وحفنة من المستشفيات مفتوحة، وواصل إصدار الوثائق الرسمية. وهذا وفّر له قاعدة يستطيع منها توسيع نفوذه حالما يُغلَق فصل الحملة العسكرية.26
السؤال الملح الآن هو: كيف ستبدو دير الزور في الأشهر والسنوات المقبلة. الأرجح أن المحافظة ستتشظى إلى جزر سيطرة منعزلة عن بعضها البعض ولكل منها أجهزته الإدارية والأمنية التي لاتنسق مع الأجهزة في مناطق أخرى. وبذا، سيكون من المستحيل وضع الخطط لعودة النازحين إلى محافظة دير الزور ككل، بل ستكون ثمة حاجة لتقييم سياقات هذه الجزر كلاً على حدة ولحياكة خطط العودة على مقياس كلٍ منها. وهي مهمة ستكون شاقة للغاية.
توضح الاطلالة العامة على الوضع في دير الزور لماذا الوضع على هذا المنوال. ففي ريف دير الزور غرب نهر الفرات، يرتبط شيوخ قبيلة البوسرايا المهيمنين، على غرار أحمد الشلاش، على نحو وثيق بنظام الأسد، مايعطي هذه الأخير ميزة تفاضلية في هذه المنطقة. لكن في الريف الشمالي الغربي تبدو الأمور أكثر تعقيدا: إذ هناك، استأنف رأس قبيلة البكارة القوية كونه حليفاً للنظام بعد سنوات خمس من دعم المعارضة.27 هذه المنطقة مهمة لأنها تقع على حوافي الأراضي التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية. بيد أن هذه الأخيرة جنّدت أيضاً أفراداً من قبيلة البكارة في خضم قتالها الدولة الإسلامية في محافظة الحسكة ومناطق أخرى، الأمر الذي يوضح مدى الانقسامات التي ضربت هذه القبيلة.28
في الريف الشرقي لدير الزور، يتبدى الوضع بشكل أكثر تعقيداً، بفعل وجود موارد طبيعية كالغاز والنفط. فبعد اندلاع انتفاضة 2011، شهدت هذه المنطقة قتالاً عنيفاً، أساساً للسيطرة على هذه الموارد.29 معظم الجماعات في الريف الشرقي ترتبط بقبيلة العقيدات الذي يشتق اسمها من تعبير “العقد”، مايشير إلى أن هذه القبيلة هي مظلة لتجمعات قبلية وعشائرية أصغر وافقت على الاتحاد في بداية القرن الثامن عشر.30 وقد تباينت مع مرور الزمن قدرة عشائر العقيدات على التضامن مع بعضها البعض، ووصلت إلى أدنى مستوياتها حين انقلبت الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية. وبدءاً من العام 2013، كانت مختلف العشائر في العقيدات تتقاتل في ما بينها للسيطرة على موارد النفط، ما أحيى صراعات أو تظلمات قديمة، أو دفع العشائر إلى اتهام بعضها البعض بالارتباط بجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) المرتبطة بالقاعدة أو بالدولة الإسلامية.
كانت المضاعفات السياسية لاندلاع النزاع في أوساط أفراد قبيلة العقيدات عميقة، وأدّت إلى انهيار التضامن القبلي، كما جعلت من المستحيل إسناد أي أنموذج حوكمة جديد في مرحلة مابعد الدولة الإسلامية على الهوية والانتماء القبليين. والواقع أن فشل الجهود لتشكيل هيئات تمثيلية موحّدة للقبائل يميل إلى تأكيد هذه الواقعة. ففي نيسان/أبريل 2017، أسّس بعض الأعيان المحليين “مجلس قبائل وعشائر دير الزور”.31 وقد طلب “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” من المجلس اختيار ثلاثة أعضاء كممثلين في الائتلاف، بيد أن المجلس لم يستطع الاتفاق على من سيوفد إلى الائتلاف، ثم جرى تشكيل مجلس جديد بعدها بثلاثة أشهر في البحرين أُطلق عليه اسم “مجلس العشائر وقبائل الفرات”.32 كان هذا المجلس، الناشط في أورفة بتركيا، بقيادة أعيان محليين من دير الزور. وقد عمد بعض أعضاء مجلس قبائل وعشائر دير الزور إلى ترك المجلس السابق والانضمام إلى المجلس الجديد- برئاسة شخص من عائلة الهفل التي كانت تمثّل تاريخياً قبيلة العقيدات- حتى فيما كان المجلس السابق يواصل أعماله.
خلق غياب التضامن القبلي في شطور واسعة من شرق محافظة دير الزور وضعاً تستند فيه الآن الولاءات إلى حد كبير على العشيرة والتجاور. علاوة على ذلك، يمكن تفسير المحاولات في مختلف المناطق لتشكيل مجالس محلية لا بوصفها تعبيراً عن التضامن القبلي،33 بل على أنها ضرب من ضروب الانتهازية يقوم بها سماسرة الحكم المحلي بهدف موضعة أنفسهم سياسياً بشكل أفضل للمستقبل، وليست تعبيراً عن التضامن القبلي. ومثل هذا التشظي العام لايمكن إلا أن يعقّد الجهود التي تقوم بها مختلف السلطات في محافظة دير الزور لتحقيق استقرار مستدام، وبالتالي تسهيل عودة النازحين.
في الرقة، وُضعت خطة حوكمة بعد إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية لإدارة المنطقة، بيد أن سجل نجاحها كان محدوداً حتى الآن. وقد تطلّبت أوضاع دير الزور التخلي عن هذه المقاربة لأن فيها العديد من الأطراف، ولأن النظام المحلي مفتت. ثم أن وجود قوى خارجية رئيسة في المحافظة، أسبغ أبعاداً دولية على المعركة ستكون لها مضاعفات أعمق حول من سيحكم سورية في نهاية المطاف.
لقد سيطر النظام السوري على أراضٍ من دون سكان حين كان يتقدم في محافظة دير الزور في العام 2017، فيما كانت قوات سورية الديمقراطية تسيطر على كلٍ من الأراضي والسكان. لكن هذا لم يكن في الواقع لصالح هذه القوات، لأن التحالف الذي يقوده الأكراد لايستطيع أن يحكم هؤلاء الناس بانسجام على المدى الطويل، ما يوفّر لهؤلاء السكان دافعاً كي يعودوا إلى كنف سلطة النظام. والآن وبعد هزيمة الدولة الإسلامية، يُحتمل أن يصبح النازحون ورقة مساومة بين قوات سورية الديمقراطية وبين النظام، وربما يصب ذلك في مصلحة هذا الأخير.
بيد أن الاستقرار السياسي ليس العقبة الوحيدة أمام العودة، إذ طرأ ماهو أعمق، حيث اُقتلع اللاجئون من مواطنهم الأصلية وقُطعت روابطهم متعددة الأوجه معها، وبشكل عنيف أحياناً، بسبب طول حقبة النزاع. وهذا أيضاً سيجعل من عودة اللاجئين إلى ديارهم صعباً على نحو استثنائي. والمسألة المتعلقة بكيفية معالجة هذا الأمر ستساعد على تحديد ما إذا كان اللاجئون سيعودون إلى شرق سورية وأماكن أخرى.
لقد عانت دير الزور والرقة ومعهما حلب من دمار كاسح. وبدءاً من العام 2011، بدأ شرق سورية يخلى من سكانه بالتدريج. وعلى رغم أن الجزء الأكبر من عملية النزوح تمت العام 2015، إلا أنها في الواقع انطلقت قبل ذلك ثم استمرت بعد تلك السنة. فقد بدأ السكان بمغادرة محافظة دير الزور في وقت مبكّر من العام 2011، غداة هجوم النظام على المحتجين. وفي العام 2013، دفع القتال بين فصائل المتمردين في دير الزور العديدين على الفرار. ووصلت موجة النزوح إلى ذروتها مع وصول الدولة الإسلامية إلى مدن دير الزور والرقة في عامي 2013 و2014. كما أثار تقدُّم قوات سورية الديمقراطية خلال العام 2014 المزيد من تحركات السكان، وكذا فعلت الحملات المتعددة في 2017 ضد الدولة الإسلامية.
بيد أن اقتلاع سكان شرق سورية كان أبعد من مجرد نزوح بسيط، إذ أن أسوأ إرث للنزاع هو أنه دمّر البيئة والشبكات الاجتماعية للسوريين. فالعنف شتّت وقسم الوحدات الاجتماعية، وعلى رأسها الوحدة الأهم وهي العائلة التي كانت تشكّل محور المرجعية بالنسبة إلى الأفراد. كما أنه (العنف) أسفر عن تشظي الوحدات الاجتماعية الأكبر مثل القبائل، وحلّ الروابط بين مهنيي الطبقة الوسطى، وحرم الأفراد مما كان في السابق ملاذهم. وحتى لو بقيت العائلات جغرافياً معا، إلا أن النزوح والسخط أديا إلى انهيار العلاقات العائلية الأساسية، وقوّض الزيجات والمساعدات المتبادلة بين الأباء والأمهات وبين أولادهم. وفي الوقت نفسه، شوّه تدمير البلدات والقرى غالباً الصورة العامة المدينية والريفية، وهذه كانت خطوة مهمة في مجال فصل السوريين عن مواطنهم الأصلية. ولذا، حين ينتهي الصراع، سيكون المجال مفتوحاً أمام إمكانية عودة النازحين، لكن سيكون من الصعب عليهم استعادة الإحساس بالانتماء. وفي العديد من الحالات، سيكون ثمة فجوة عميقة بين حقائق مابعد الحرب وبين الذكريات التي كانت لدى السوريين حيال ديارهم السابقة.
الثقة الممزّقة بين العرب والأكراد
يُرجّح أن تلعب التوترات بين العرب والأكراد دوراً رئيساً حيال مستقبل الاستقرار في شرق سورية. وهذا يشمل محافظتي الرقة ودير الزور، وكذلك محافظة الحسكة في أقصى الشمال وأجزاء من محافظة حلب. وحصيلة هذه التوترات ستؤثّر تأثيراً كبيراً على عودة اللاجئين إلى هذه المناطق.
لايزال العديد من العرب الذين يعيشون خارج سورية (في العديد من الحالات منذ نحو نصف عقد من الزمن) يعتقدون أن الأكراد يسعون إلى إقامة دولة تستند إلى العرق وبالتالي لايثقون بهم. وأدى غياب أي جسر تواصل بين الطرفين إلى عرقلة الجهود للتفاوض حول عودة لاجئين يتكونون في غالبيتهم العظمى من العرب إلى مناطق يسيطر عليها الأكراد.
خلال معظم فترات الصراع في سورية، انتهج حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو أقوى الاحزاب الكردية السورية، مشروعاً لتأسيس منطقة حكم ذاتي في شمال البلاد.34 هذا المسعى، الذي يُطلق عليه هذا الحزب “الكونفيدرالية الديمقراطية” لايستند على وجه التحديد إلى الإثنية، بل هو مشروع سياسي يتودّد إلى مروحة منوّعة من المجتمعات المحلية اللامركزية. لكنه في الوقت نفسه يبني بكثافة على مشاعر تظلّم كردية تاريخية متجذّرة ويستخدمها لتعبئة قواعد الحزب. ولذا، هناك قطيعة بين الإيديولوجيا التي يروّج لها قادة الحزب، الذين يدعمون مشروعاً لا إثنيا، وبين أعضاء الحزب الذين يحملون في دواخلهم تظلمات خاصة بمجتمعهم، ويعتقدون أن مشروع الحزب هو مجرد قناة لتحقيق الحكم الذاتي الكردي. وهذا خلق إحتكاكات لم يستطع الحزب السيطرة عليها خلال تطبيق سياساته.
ثمة تاريخ من الأحقاد والشكوك بين العرب والأكراد، وهذا أدى في بعض الأحيان إلى أحداث عنيفة، على غرار ما وقع العام 2004 خلال الاحتجاجات في القامشلي ضد نظام الأسد، مادفع بعض أفخاذ القبائل العربية إلى الاصطفاف إلى جانب النظام.35 ثم أن ضم العرب إلى قوات سورية الديمقراطية وإلى التحالف العسكري الأوسع في الرقة ودير الزور، لم يخفّف من شكوك السكان العرب بالأهداف النهائية لحزب الاتحاد الديمقراطي أو نوايا وحدات حماية الشعب. ويخشى العديدون من أن وحدات حماية الشعب تهدف، في أفضل الأحوال، إلى فرض هيمنة كردية أو، في أسوئها، إلى التطهير العرقي لشمال سورية من العرب.36 لكن ليس من المحتمل أن تكون لدى قوات سورية الديمقراطية ووحدات حماية الشعب خطة لتطهير الأراضي التي يسيطرون عليها من العرب، حتى ولو كان ثمة تصرفات فردية تُعزز هذا الانطباع. إلا أن الخطوات التي يقوم بها الحزب والوحدات والتي قد تُغذي هذه الانطباعات، ستكون لها تبعات كبيرة، ومُثبطة، على مستقبل الاستقرار، وتؤثّر سلباً على عودة اللاجئين.
أحد الأمثلة على الكيفية التي جرى فيها فيها تفسير الأحداث الراهنة، (وهو التفسير فاقم التوترات العربية- الكردية)، كان الدور الذي لعبه محمود شواخ البروسان، أحد الشيوخ القبليين. يتحدر بروسان هذا من مجموعة من الأفراد القبليين الذين أعادت الحكومة البعثية توطينهم بعد طوفان سد الفرات في العام 1968. وتضمنت هذه الخطوة نقل عشائر معيّنة إلى محافظة الحسكة قرب القامشلي، وهي منطقة ذات غالبية كردية.37 وبغض النظر عن الدوافع، إلا أن الأكراد لازالوا إلى هذا اليوم يطلّون على هذه الخطوة بكونها جزءاّ من مؤامرة حاكتها الحكومة السورية- والعرب بشكل عام- للتوطين ولتقويض مجتمعهم.38 وقد عيّنت القوات الكردية بورسان كرئيس لمجلس الرقة، فيما كانت تعد العدة للسيطرة على المدينة بعد استعادتها من الدولة الإسلامية. وفسّر العديد من المحليين هذا على أنه إشارة إلى أن القبائل العربية التي كانت تعيش في الحسكة لمدة جيلين ربما تُجبر على العودة إلى مناطقها الأصلية.39
إضافة إلى ذلك، أذكت الأحداث طيلة الحرب في سورية هذه الشكوك، على غرار ماحدث في تل أبيض بمحافظة الرقة، حيث كان تعداد الأكراد والعرب متساوياً تقريباً قبل إندلاع النزاع، على رغم أن الأرقام الدقيقة موضع خلاف. وحين استولت الدولة الإسلامية على تل أبيض في العام 2014، تشرّد العديد من الأكراد. وبالمثل، حين استولى مقاتلو وحدات حماية الشعب على المدينة في وقت لاحق من ذلك العام، غادر العديد من العرب، أو أُجبروا على المغادرة. وقد مارست وحدات حماية الشعب نوعاً من الانتقام ضد العرب، مثلاً عبر استعادة منازل كردية كان تنظيم الدولة الإسلامية سلّمها إلى عائلات عربية.40 وعلى رغم أن حجم مثل هذه العمليات لايزال غير واضح، إلا أن هذا أدى إلى دفع العديد من العرب إلى الفرار خوفاً من الثأر. وبعدها وُضعت تل أبيض تحت سلطة كانتون كوباني التابع لإدارة الحكم الذاتي الكردية المُعلنة ذاتياً في شمال سورية، والتي يسميها الأكراد “روج آفا”. وقد اعتبر الكثير من العرب هذه الخطوة دلالة على أن الأكراد مُصممون على مصادرة الأراضي العربية وضمّها إلى أراضيهم المتوسّعة.41
تُعتبر الأحداث في قرية الحسينية، في محافظة الحسكة، مثالاً آخر على ذلك. ففي شباط/فبراير 2014، اندلعت اشتباكات هناك بين فصائل من المتمردين وبين وحدات حماية الشعب التي تكبّدت خسائر فادحة. سقطت القرية لاحقاً بأيدي تنظيم الدولة الإسلامية حتى شباط/فبراير 2015، حين استعادت وحدات حماية الشعب السيطرة عليها. كان معظم السكان قد فرّوا في ذلك الوقت، ربما خوفاً من التعرّض إلى أعمال انتقامية. وقد كشف بعض الذين بقوا لمنظمة العفو الدولية أن وحدات حماية الشعب عاثت في القرية تدميراً وخرابا، متّهمةً السكان المحليين بالضلوع في قتل المقاتلين الأكراد، والوقوف إلى جانب المتمردين ومن ثم الدولة الإسلامية.42 لكن مهما كانت دوافع الأكراد، رأى العرب في تدمير القرية مثالاً على حملة التطهير العرقي التي يشنّها الأكراد.
كانت حالة منبج في محافظة حلب، التي تتألف بمعظمها من العرب، على النقيض من هذين الوضعين. فعندما استولى الأكراد على المدينة في آب/أغسطس 2016، لم يكرروا ما فعلوه في تل أبيض والحسينية، ربما لأن المستشارين العسكريين الغربيين كانوا حاضرين. علاوةً على ذلك، لم يتمّ وضع منبج تحت إدارة منطقة “روج آفا” الكردية المتمتعة بحكم ذاتي، وبقي وجود كوادر حزب العمال الكردستاني طفيفاً نسبياً، مقارنة بمدى انتشارهم في القامشلي، على سبيل المثال، حيث قال أحد المصادر إنه يمكن رؤيتهم “حتى في الحمامات”.43
في منبج مزيجٌ غير اعتيادي من القوى السياسية، بما في ذلك الجهات الفاعلة الخارجية. غير أنه من غير الواضح، لمن ستكون الغلبة في النهاية. وبالنظر إلى الوجود الدولي الكبير في المناطق المحيطة بمنبج، فإن السكان المحليين يمزحون بالقول إنه إذا وضعت إبريق الشاي على النار وخرجت في نزهة، فقد تُصادف قوات أميركية وفرنسية وروسية، ووحدات حماية الشعب، وقوات تركية وأفراد من جيش النظام السوري، وسيظلّ أمامك الوقت الكافي للعودة إلى منزلك قبل الانتهاء من غلي الشاي.44 وبينما يستثمر كل طرف في إقامة علاقات محلية، عمد الكثير من الجهات الفاعلة التي تتنافس لكسب النفوذ إلى خلق جو من عدم اليقين يثبط بشكل خاص عودة الطبقة الوسطى، التي تسعى إلى التمتّع بالقدرة على التنبؤ وضمان الاستقرار. وعلى الرغم من وجود وحدات حماية الشعب ومحاولاتها إنشاء أنظمة محسوبية جديدة، لاتزال الدولة السورية تحتفظ بنوع من الوجود في منبج وتواصل تشغيل بعض المؤسسات، ولا سيما المؤسسات التعليمية التي تدفع رواتب المعلمين فيها. وقد ركّز النظام على التعليم لاعتقاده أن مثل هذا الاستثمار سيسمح له بالحفاظ على موطئ قدم له في المدينة والسيطرة على المناهج المدرسية، وبالتالي منع وحدات حماية الشعب من فرض منهج خاص بها. مثل هذه الإجراءات تسمح للنظام بأن يمهد الطريق ربما لكسب مزيد من النفوذ في المستقبل.
على الرغم من أن التوترات الكردية- العربية تعود إلى ماقبل الحرب في سورية، إلا أنها ازدادت حدّة في كثير من الحالات بسبب النزاع، ما أدّى إلى أعمال انتقامية وشكوك متبادلة على الصعيدين الفردي والمحلي. في هذه الحالة، يصعب على العرب أن يثقوا بدوافع حزب الاتحاد الديمقراطي، بغض النظر عن خطاب الحزب ومحاولاته لدمج العرب في القوات العسكرية وإشراكهم في عملية الحوكمة في شرق سورية. من هذا المنظور، ثمة فرصة ضئيلة أمام محاولات الأكراد لتلميع الصورة – عبر ضمّ عدد من العرب في قوات سورية الديمقراطية – لتغيير الأمور جذرياً، ومن المرجح أن يبقى شعور الريبة وانعدام الثقة هذا سائداً.
من الصعب أن نرى كيف سيؤدي دخول قوات سورية الديمقراطية إلى المناطق ذات الأغلبية العربية إلى تشجيع عودة اللاجئين. والواقع أن الصعود اللاحق للعديد من الجهات الفاعلة المحلية الجديدة سيشكّل عقبة كأداء في وجه هذه العملية. وبالنسبة إلى الكثيرين، ستكون رؤية القوات الأجنبية، التي شاركت في عمليات عسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، تقوم بإنشاء هيئات حكم جديدة وتعمل على تمكين قادة محليين غير معروفين سابقاً، أمراً مثيراً للقلق. وفي شرق سورية، لاتزال هيئات الحكم التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب غير مقبولة، حتى في أوساط الطبقة الوسطى الكردية المتحدّرة أساساً من المنطقة. ومن المرجح أن يتجلّى هذا الانزعاج أكثر إذا ماتمت غربلة عودة النازحين بواسطة وسطاء غير مألوفين مرتبطين بالقيادات الجديدة.
خاتمة: معركة جديدة في الأفق؟
هزيمة الدولة الإسلامية لن تمهّد الطريق تلقائياً أمام عودة اللاجئين إلى شرق سورية. ففي المناطق التي يتمّ فيها إرساء الاستقرار وتشجيع اللاجئين على العودة، ستكون للأطراف التي تتحكم في الأمن مصلحة في تطبيق نظام إعادة إدماج يضمن سلطتها ويُسقط الآراء المخالفة أو أي معارضة محتملة في أوساط السكان.
بعبارة أخرى، ستصبح على الأرجح عودة أولئك الذين غادروا البلاد أداة هيمنة يستخدمها أولئك الذين يمسكون بمقاليد السلطة، مع استخدام وسطاء السلطة المحلية لمسألة اللاجئين والنازحين داخلياً لموضعة أنفسهم في إطار النخبة الناشئة لسورية الجديدة. ومن المرجح أن تشمل هذه العملية صعود نجم قادة جدد، مع عمل أعضاء بارزين في المجتمع كأوجه إدارات جديدة، وإضفاء الشرعية على حكم الفصائل المسلحة الموالية إما للنظام السوري أو لقوات سورية الديمقراطية. الجدير ذكره هنا أن هذين الطرفين يسيران في مسار تصادمي في شرق سورية، حيث يعتبر كل طرف وجوده مهماً من الناحية الاستراتيجية – وحتى أيضاً من الناحية الوجودية. عين النظام ساهرة على الرقة بوجه خاص، نظراً إلى أن هدفه الأساسي يتمثّل في إعادة ربط محافظتي دير الزور وحلب، باعتبار الرقة نقطة الوصل بينهما. وبالنسبة إلى قوات سورية الديمقراطية، يُعتبر البقاء في شرق سورية مهماً بالقدر نفسه، فيما هي تسعى إلى تحويل مكاسبها الإقليمية إلى شرعية سياسية وعلاقات مُستدامة مع الولايات المتحدة.
لاينبغي توقع عودة اللاجئين على نطاق واسع، في الوقت الذي تتصاعد فيه أوجه العداوة بين النظام وبين قوات سورية الديمقراطية. سيخشى الكثيرون من حصول هجمات بدافع الانتقام وغياب الاستقرار، حيث تتنافس الجهات الفاعلة المحلية على النفوذ في ساحة مُفككة بشكل كبير. وسيواصل الدمار الذي حلّ بالرقة ودير الزور، المادي والاقتصادي على السواء، والشكوك التي تولدها التوترات الكردية- العربية تبديد تلك الآفاق. لذلك لابدّ من أن يهدف أي حل لضمان عودة اللاجئين إلى معالجة هذه العوامل. علاوةً على ذلك، إذا ما تبدّلت معالم مناطق اللاجئين الأصلية بشكل كامل، بحيث تصبح غريبة عنهم بالفعل، يمكن أن يقنع الثمن الباهظ للعودة في نهاية المطاف أولئك الذين انتقلوا إلى أماكن أخرى، ولاسيما أوروبا، بالبقاء هناك بشكل دائم.
أحد الخيارات المتاحة لمعالجة هذا الوضع يمكن أن يتضمن اقتراحاً هجيناً، توضع بموجبه المؤسسات التابعة لقوات سورية الديمقراطية تحت مظلة الدولة السورية، مع إبقاء كوادر حزب العمال الكردستاني وموظفي الأمن في النظام بعيداً عن هيئات الحوكمة في المناطق التي انتُزعت من تنظيم الدولة الإسلامية. هذه الهيئات يمكن أن تدار من قِبَل موظفي الدولة السابقين، ومن شأن مثل هذه العملية أن تتجنب حدوث شرخ بين القادة المحليين المعينين من قبل قوات سورية الديمقراطية وبين النخب المحلية السابقة، وتحقيق توازن بين الكوادر المدربة على يد حزب العمال الكردستاني والنظام، وتشجيع التكنوقراط على العودة، والسماح بعودة أكثر سلاسة للاجئين. قد يكون من المستحسن أيضاً استكشاف كيف يمكن أن تتحوّل عمليات إعادة الإعمار وعودة النازحين إلى عوامل محفزة للحصول على أوراق ضغط واستعمالها ضدّ نظام الأسد كي يوافق على عملية انتقال السلطة. وهذا يمكن أن يضع حداً لسياسة النظام التي استمرت عقوداً طويلة، والمتمثلة في استخدام السلطة من أجل إحكام قبضته على السكان السوريين.
بيد أننا يجب ألا ننسى أن أي سياسة قابلة للتطبيق في شرق سورية، لابدّ وأن تكون جزءاً لا يتجزأ من إطار تسوية سياسية أوسع نطاقاً للبلد، تركّز على تهيئة الظروف لعودة اللاجئين بدلاً من التركيز ببساطة على وضع حدّ للأعمال العدائية. ومن شأن ذلك أن يعيد إلى مدن المحافظات أدوارها التقليدية في نظام المناطق المحلية في سورية. ويعني ذلك أيضاً إدماج موظفي الخدمة المدنية والمعلمين والمهنيين الذين غادروا المدن في عملية إعادة الإعمار، وخلق الشبكات الاجتماعية الجديدة التي تشجّع الناس على العودة من جديد. واليوم، يبدو أن هذا المسار عصيّ على التبصّر، حيث أن المحصلات السياسية في شرق سورية لا تزال ضبابية بسبب جداول الأعمال المعقدة والمتعارضة، الأمر الذي سيواصل التأثير على احتمالات عودة اللاجئين. أما بالنسبة إلى العديد من اللاجئين والنازحين داخلياً، فقد كان غياب الاستقرار وأعمال العنف هو الذي جعلهم يفرّون في المقام الأول، ووحده الاستقرار الحقيقي سيكون كفيلاً بتحفيزهم على العودة.
هوامش
1 آني سليمرود، “المدنيون في الرقة على خط النار”، موقع إيرين، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، www.irinnews.org/ar/report/5127/المدنيون-في-الرقة-على-خط-النار
2 عزمي بشارة، “سورية: درب الآلام نحو الحرية – محاولة في التاريخ الراهن”، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص. 219.
3 Jonathan Rae, “Tribe and State: Management of the Syrian Steppe” (Unpublished Ph.D. dissertation, University of Oxford), 368.
4 حنا بطاطو، “فلّاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيّين الأقل شأناً وسياساتهم”، (صدر باللغة العربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، (منشورات جامعة بريستون، 1999).
5 “تقدير عدد السكان المتواجدين في سورية حسب المحافظة والجنس (بالألف) في 31/12/2011″، المكتب المركزي للإحصاء، 2011، http://www.cbssyr.sy/yearbook/2011/Data-Chapter2/TAB-3-2-2011.htm
6 مقابلات أجراها المؤلّف مع العديد من السوريين في الرقة، (عبر سكايب)، تموز/يوليو وآب/أغسطس 2017.
7 Sarah Elizabeth Williams, “‘Wrath on the Euphrates’ as U.S.-Backed Forces Launch Operation to Seize Raqqa From Isil’s Grip,” Telegraph, November 6, 2016, http://bit.ly/2ycPFXV.
8 “خيار حزب العمال الكردستاني المنذر بالسوء في شمال سورية”، مجموعة الأزمات الدولية، أيار/مايو 2017، https://www.crisisgroup.org/ar/middle-east-north-africa/eastern-mediterranean/syria/176-pkk-s-fateful-choice-northern-syria
9 “Kurdish Forces Seize Border Town of Tal Abyad, Cutting Off Key Isis Supply Line,” Guardian, June 16, 2015, http://bit.ly/2fpoYY5; وأيضاً “الحروب المحلية وفرص السلام اللامركزي في سورية”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، آذار/مارس 2017، http://carnegieendowment.org/files/Khedder_Decentralization_ARA.pdf
10 “تقدير عدد السكان المتواجدين في سورية حسب المحافظة والجنس (بالألف) في 31/12/2011″، المكتب المركزي للإحصاء، 2011، http://www.cbssyr.sy/yearbook/2011/Data-Chapter2/TAB-3-2-2011.htm
11 “U.S.-Allied Syrian Groups Form Civilian Council to Run Raqqa,” Reuters, April 18, 2017, http://reut.rs/2faaL4r.
12 “Tribal Sheikhs In Mansoura: The Project of the Brotherhood of Peoples Guarantees All Syrians Their Rights,” Syrian Democratic Forces, August, 29, 2017, http://sdf-press.com/en/2017/08/tribal-sheikhs-in-mansoura-the-project-of-the-brotherhood-of-peoples-guarantees-all-syrians-their-rights.
13 مقابلة أجراها المؤلّف مع شخصيات محلية بارزة من الرقة، اسطنبول، 14 تموز/يوليو 2015.
14 “الرقة وتحولاتها.. مجتمعاً وسياسة وإدارة آتية”، عين المدينة، 3 أيار/مايو 2017، http://bit.ly/2AlK7LD
15 مقابلة أجراها المؤلّف مع مواطن مقيم سابقاً في الرقة ويعيش الآن في أورفة، تركيا (عبر الهاتف)، تموز/يوليو 2017.
16 انظر خضر خضّور وكيفن مازور، “توقعات من الشرق: الديناميكيات المتغيرة في المناطق القَبَلِيَة السورية”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، شباط/فبراير 2017،http://carnegieendowment.org/files/Khaddour-Mazur_Syria_Tribes_ARA.pdf
17 على سبيل المثال، عُرفت المنطقة خلال ثمانينيات القرن الماضي كمركز للمعنويات المناهضة للنظام، حيث كان السكان يميلون إلى التعرّف أكثر على الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين. وتقول نكتة قديمة، عندما علم أحد سكان دير الزور أن ابن الرئيس قد توفي بعد حادث سيارة باسل الأسد المميت في العام 1994، أجاب بالسؤال عمن من أبناء صدّام، عدي أو قصي.
18 “بعد 32 شهراً من الحصار…قوات النظام تلتقي مع عناصرها المحاصرين بمدينة دير الزور وتحقق أول خطوة في كسر حصار المدينة”، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 5 أيلول/سبتمبر 2017،www.syriahr.com/2017/09/05/بعد-32-شهراً-من-الحصار-قوات-النظام-تلتقي /
19 “Syria: Deir-ez-Zor Governorate Situation Overview – Displacement and Intentions (September),” Reliefweb, September, 28, 2017, https://reliefweb.int/report/syrian-arab-republic/syria-deir-ez-zor-governorate-situation-overview-displacement-and-0.
20 مقابلة أجراها المؤلّف مع مسؤول في الجيش السوري في دمشق (عبر الهاتف)، حزيران/يونيو 2017.
21 ملكة العائد، “يوميات النزوح من الرقة: أربعة أيام في حراسة سيارة مفخخة”، 21 آب/أغسطس 2017، http://alaalam.org/ar/society-and-culture-ar/item/571-627210817
22 مقابلة أجراها المؤلّف مع أحد أعضاء حركة المجتمع الديمقراطي، موجود في كوباني (عبر الهاتف)، آب/أغسطس 2017.
23 مقابلة أجراها المؤلّف مع موظف في منظمة غير حكومية دولية يعمل في المنطقة (عبر سكايب)، آب/أغسطس 2017.
24 مقابلة أجراها المؤلّف مع رئيس منظمة غير حكومية سورية (عبر الهاتف)، أورفة، تركيا، آب/أغسطس 2017.
25 Aron Lund, “The Complex State of Play in Eastern Syria,” Cipher Brief, June 27, 2017, https://www.thecipherbrief.com/the-complex-state-of-play-in-eastern-syria.
26 خضر خضّور، “إمساك نظام الأسد بالدولة السورية”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تموز/يوليو 2015،http://carnegieendowment.org/files/Khaddour_Assad_Hold_ARA.pdf
27 “Top Opposition Figure Nawaf al-Bashir Repents and Returns to Syria,” Syria News, January 7, 2017, http://bit.ly/2yeS9EX.
28 خضر خضّور وكيفن مازور، “توقعات من الشرق”.
29 “نفط دير الزور: من الثورة حتى تنظيم الدولة الإسلامية”، عين المدينة،آب/أغسطس 2015، https://ayn-almadina.com/content_images/users/1/contents/2932/1568.pdf
30 يُعتبر اتحاد العقيدات العشائري استثنائي إذ يضمّ اثنين من بيوتات المشيخة، النجرس والهفل، نظراً إلى أنه تمّ تأسيسه في القرن الثامن عشر كاتحاد عشائر أصغر. انظر أحمد وصفي زكريا، عشائر الشام (دمشق: مطبعة دار الهلال، 1945)، ص. 568؛ وانظر أيضاً محمد جمال باروت، “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية”، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص. 59.
31 “إعلان تشكيل مجلس قبائل وعشائر دير الزور”، مقطع فيديو على يوتيوب، 4:44، نُشر بواسطة “مجلس قبائل وعشائر دير الزور”، 26 نيسان/أبريل 2017، تمّت زيارة هذه الصفحة في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، https://www.youtube.com/watch?v=KY5DVdzDMOM
32 “تفاصيل الإعلان عن تأسيس “مجلس عشائر وقبائل الفرات””، وكالة ستيب نيوز، 11 تموز/يوليو 2017، http://stepagency-sy.net/archives/154032
33 مقابلة أجراها المؤلّف مع رئيس قبيلة (عبر الهاتف)، أورفة، تركيا، آب/أغسطس 2017.
34 “خيار حزب العمال الكردستاني المنذر بالسوء في شمال سورية”.
35 Jordi Tejel, Syria’s Kurds: History, Politics and Society (London, New York: Routledge Advances in Middle East and Islamic Studies, 2008), 108.
36 انظر سامر الأحمد، “الحسكة:التعايش بين العرب والأكراد..رغم المخاوف”، 20 أيار/مايو 2017،http://bit.ly/2zmzqKW
37 انظر “نبذة عن الرئيس المشترك لمجلس الرقة المدني وعشيرته”، وكالة أنباء هاوار، 4 نيسان/أبريل 2017،http://bit.ly/2xpMcHD
38 محمد جمال باروت، ص. 742.
39 مقابلة أجراها المؤلّف مع رئيس قبيلة، أورفة، تركيا (عبر الهاتف)، تموز/يوليو 2017.
40 “تحت لهيب الشمس الحارقة: تقرير خاص حول الأحداث المؤخرة التي شهدتها محافظة الرقة”، مركز توثيق الانتهاكات في سوريا آب/أغسطس 2015، http://www.vdc-sy.info/index.php/ar/reports/1438814598#.WmnYT1WWaM-
41 المصدر السابق.
42 “We Had Nowhere Else to Go,” Amnesty International, October 2015, https://www.amnestyusa.org/reports/we-had-nowhere-else-to-go-forced-displacement-and-demolitions-in-northern-syria, 9–12.
43 مقابلة أجراها المؤلّف مع صحافي كردي (عبر الهاتف)، القامشلي، تموز/يوليو 2017.
44 مقابلة أجراها المؤلّف مع مواطن من منبج (عبر الهاتف)، آب/أغسطس 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى