ترجمات أجنبية

مركز ستراتفور – لبنان : مذبحة وقانون انتقام

مركز التنبؤات الاستراتيجية  – تشارلز غلاس* –  28/11/2018

يوم الخميس قبل الماضي، احتفل الأميركيون بعيد الشكر، واحتفل لبنان بذكرى استقلاله. فقد مرت 75 سنة على اليوم الذي غادرت فيه القوات الفرنسية، التي كانت قد احتلت البلد واقتطعته من سورية التاريخية في العام 1920. ومنذ ذلك الحين، عانى لبنان من حربين أهليتين أسفرتا عن مقتل نحو 150 ألف شخص، وثورة فلسطينية أتت بنتائج عكسية، واحتلال سوري، وغزو إسرائيلي، واغتيالات لا حصر لها للسياسيين والصحفيين، ومن وصول الملايين من الأتراك الأرمن واللاجئين الفلسطينيين والسوريين، ومن الهجرة الجماعية للشباب الواعد الذين لا يستطيعون التقدم في نظام محسوبية فاسد، والذي يمنح الوظائف والمكافآت لذوي الصلات على حساب العاملين المجدين. وبينما كانت الفرق الموسيقية العسكرية تشارك في عرض الجنود على الواجهة البحرية لبيروت للاحتفال بهذه المناسبة، لا بد أن يكون العديد من اللبنانيين قد تساءلوا عما هو الذي ينبغي لهم الاحتفال به.

في الوقت الحالي، لا يستطيع ساستهم الاتفاق على تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أيار (مايو)، وقد انزلقت المفاوضات حول تشكيلها إلى شجار بين حزب الله الشيعي ورئيس الوزراء السني في الانتظار، سعد الحريري، على مقعد واحد في مجلس الوزراء. وما تزال إمدادات الكهرباء متقطعة، وتعتمد على المولدات الخاصة التي تمتلكها ما تسميه وسائل الإعلام المحلية “مافيا المولدات“. وجمع القمامة في البلد عارٌ حقيقي، وإدارة النفايات غير موجودة. ومياه الصنابير غير آمنة للشرب، مما يدفع الجميع، الأغنياء والفقراء، إلى الاعتماد على المياه المعبأة في زجاجات. ويتطلب إنشاء الطرق وبناء المباني دفع رشاوى ثقيلة. ولبنان، كما يشتكي كل مواطن، فوضى كاملة. ومع ذلك، ما يزال يشكل البلد الأكثر ملاءمة للعيش في العالم العربي.

ثأر على مدى أربعة عقود

يقولون إنك إذا كنت تعتقد بأنك تفهم لبنان، فإنك يجب أن تفكر في اعتقادك مرة أخرى. وعندما يريد لبناني أن يشد انتباهك، فإنه يسألك ببساطة “هل تريد أن تسمع قصة؟” والجميع يريد سماع قصة. وفيما يلي واحدة لشرح شيء من الماضي القبلي، الإقطاعي الذي لم يفلت لبنان منه بعد.

قبل أربعين عاماً في إهدن، وهي قرية جبلية في شمال لبنان، قتل رجال ميليشيات مسيحيون قائداً مسيحياً من ملتهم وزوجته وابنتهما البالغة من العمر ثلاث سنوات. ونجا ابنهما البالغ من العمر 12 عاماً في ذلك الحين، لأنه كان يقيم مع جديه. وقام أهل إهدن وشقيقتها زغرتا بدفن توني وفيرا وجيهان فرنجية في مقبرة الأسرة. وقد استنكر والد توني، الرئيس السابق سليمان فرنجية، الانتقام، وفسر في وقت لاحق في فيلم تلفزيوني وثائقي: “كان هذا من الماضي ويجب أن يُنسى. أنا لا أسعى إلى الانتقام لأن الله هو القاضي الوحيد؛ ولذلك، سيطاردهم ضميرهم لبقية حياتهم”. ومع ذلك، ووفقًا للتقاليد الجبلية، فإن العديد من أهل إهدن وزغرتا -إن لم يكن معظمهم- كانوا يتوقعون الانتقام.

كان الجناة مسلحين من ميليشيا القوات اللبنانية التي كان يرأسها في ذلك الحين بشير الجميل. وقام الجميل، نجل مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل، بإرسال إيلي حبيقة وسمير جعجع مع أكثر من 200 رجل مسلح للقضاء على منافس بشير الجميل على قيادة الأقلية الكاثوليكية المارونية المهيمنة في البلاد. وقاموا بذبح العائلة، والحراس الشخصيين وكلب العائلة. وبعد أربع سنوات لاحقاً، في العام 1982، سوف يقوم البرلمان اللبناني، تحت ضغط من الجيش الإسرائيلي المحتل، بانتخاب بشير الجميل رئيساً للبلد، كمكافأة له على دعمه للغزو الإسرائيلي في ذلك الصيف. وسوف تغتاله العناصر المؤيدة لسورية قبل أن يتم تنصيبه. وبعد بضعة أيام، سيقود حبيقة القوات التي قامت بذبح النساء والأطفال والمسنين من الفلسطينيين العُزّل في مخيمات صبرا وشاتيلا قبل أن يحوِّل ولاءه من إسرائيل إلى سورية. وقبل وقت قصير من موعد إدلائه بشهادته في بلجيكا ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، سيتم قتل حبيقة بواسطة سيارة مفخخة. وسوف يأخذ سمير جعجع القوات اللبنانية إلى جبال الشوف في العام 1983 ليتنمّر على الطائفة الدرزية. ثم ستؤدي عمليات النهب التي قادها جعجع إلى حملة درزية مضادة، والتي أسفرت عن مقتل المئات من الموارنة وأجبرت الباقين منهم على ترك منازلهم. وفي وقت لاحق، قيل: “حيث يخطو سمير جعجع، لا يبقى مسيحي”. وسوف يقضي جعجع 11 سنة في السجن بتهمة القتل، وسيحصل على عفو في العام 2005 ويتولى قيادة القوات اللبنانية، التي حولت نفسها من ميليشيا إلى حزب سياسي.

لم يكن قتل بشير الجميل وحبيقة سوى انتقام جزئي فقط بالنسبة للناس في إهدن-زغرتا طالما بقي جعجع حياً. وكانت عداوة الدم تذهب عميقاً: فقط نشأت عائلة جعجع في قرية بشري الشمالية المارونية. وتُعرف بشري بأبنها الأكثر شهرة، الشاعر خليل جبران، لكن العداء بين معاقل الموارنة في الشمال سوف يروِّع تلك الروح اللطيفة الطيبة التي كتبت، “أنت أخي، وأنا أحبّك، أحبّك ساجدا في جامعك، وراكعا في هيكلك، ومصليا في كنيستك”.

انتهى هذا الثأر هذا الشهر بمصافحة وقبلات على الخد. وتحت نظر بطريرك الكنيسة الكاثوليكية المارونية، قام سليمان فرنجية، ابن توني فرنجية البالغ من العمر الآن 53 عاماً، وحفيد الرئيس السابق الذي يشترك معه في اسمه، والذي يقود الآن حزبه السياسي، المردة، قام بمسامحة جعجع علناً على قتله والديه وأخته. وربما تكون هذه المصالحة ذات أهمية محلية فقط، لكن انتصار بشار الأسد في سورية، والقوة المتنامية لمقاتلي حزب الله المخضرمين الذين اختبرتهم المعارك، والاهتمام الذي تبديه روسيا بالبلد، تؤثر كلها على لبنان. وقد يكون فرنجية وجعجع قد دفنا الأحقاد، لكن فرنجية يؤيد سورية وحزب الله، بينما ينحاز جعجع نفسه إلى المملكة العربية السعودية والغرب. وهكذا، لا يتعلق الأمر أبداً بلبنان فقط. ويتبادر إلى الذهن عنوان ديفيد هيرست لتأريخه الرائع للبنان، “احذر من الدول الصغيرة”.

مخاوف من تجدد زعزعة الاستقرار

مكنت الولايات المتحدة الجيش اللبناني من إعادة بناء نفسه بعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990؛ حيث قدمت له مبلغ 1.7 مليار دولار كمساعدات. وقام الجيش، بمساعدة من حزب الله، بطرد مقاتلي “داعش” من قرية عرسال بالقرب من الحدود مع سورية في العام الماضي. وأشرف البريطانيون على بناء أبراج مراقبة على طول الحدود لمنع تسلل المقاتلين الإسلاميين المتشددين إلى البلد. لكن هذا الالتزام الغربي بأمن لبنان أصبح موضع تساؤل نتيجة للانتخابات البرلمانية التي جرت في أيار (مايو)، والتي منحت للجناح السياسي لحزب الله اليد العليا في تشكيل الحكومة. ويجعل احتمال قيام الولايات المتحدة بتمديد الحظر الذي تفرضه على إيران ليشمل لبنان، جميع اللبنانيين يخشون من زعزعة استقرار البلاد.

تطلب اتفاق الطائف في العام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية نزع سلاح الميليشيات اللبنانية. وقد فعلت كلها، باستثناء حزب الله. وكان السبب المنطقي للاحتفاظ بوحداته العسكرية هو أنه بحاجة إلى مقاومة احتلال إسرائيل لجنوب البلاد. وعندما انسحبت إسرائيل من لبنان في العام 2000، ظلت الميليشيا ترفض حل نفسها. وكان العذر للاحتفاظ بالسلاح هو أن الانسحاب الإسرائيلي كان جزئياً فقط، لأن إسرائيل احتفظت بقطعة تبلغ مساحتها 8 أميال مربعة من لبنان تسمى مزارع شبعا. ولم يكن أحد في لبنان، باستثناء حزب الله، قد سمع عن شبعا. وهي أرض لبنانية في الأساس، لكن سورية سيطرت عليها بعد الحرب مع إسرائيل في العام 1948. وقد احتلت إسرائيل هذه الأرض في العام 1967 من سورية، وليس من لبنان، وهي تصر على أن مستقبلها يعتمد على المفاوضات حول الأراضي السورية، بما في ذلك مرتفعات الجولان. وبذلك، يكون الطريق السلمي لتجريد حزب الله من ذريعة للاحتفاظ بقواته المسلحة هو أن تعرض إسرائيل إعادة مزارع إلى لبنان مقابل نزع سلاح حزب الله.

لكن هذا لن يحدث. ويهدد هوس الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية بإيران بتحويل لبنان إلى ساحة معركة للقوى الخارجية -هذه المرة إسرائيل وإيران- لتسوية خلافاتها. وفي الأثناء، يتشاجر السياسيون اللبنانيون حول كم من خزينة البلد يحق لكل منهم أن يسرقه.

*كاتب أميركي- بريطاني، وصحفي، ومذيع وناشر متخصص في شؤون الشرق الأوسط والحرب العالمية الثانية. وهو عضو مجلس المساهمين في “ستراتفور”، الذي يقدم القراءات والإحصاءات والتحليلات والتعليقات من داخل المركز، بالإضافة إلى المساهمين الضيوف من القادة البارزين في حقول خبرتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى