مركز التوقعات الاستراتيجية “ستراتفور”- تشارلز غلاس- عالم ثائر يأخذ سخطه إلى الشوارع

مركز التوقعات الاستراتيجية “ستراتفور” – تشارلز غلاس – 25/11/2019
إضاءات
- تحدث الاحتجاجات الجماهيرية في عدد متزايد من البلدان لأسباب مختلفة وبأهداف مختلفة.
- الميل السائد هو البحث عن خيط مشترك يربط تعبيرات الغضب الشعبي التي نشهدها اليوم معاً؛ لكن مثل هذا البحث لن يكون صعباً فحسب، وإنما قد يكون عديم الجدوى أيضاً.
- فرضت الاحتجاجات التغيير في السودان والجزائر هذا العام، وحركت لبنان بروح جديدة من الوحدة المعادية للطائفية؛ لذلك، في حين أن تحقيق النجاح نادر ويصعب الحفاظ عليه، فإن القوى المهيمنة لا تسود دائماً.
****
كان المتظاهرون يتواجدون في الشوارع عندما عدت إلى فرنسا الأسبوع الماضي، ومعظمهم كانوا يحتجون بسلام، وإنما بما يكفي من حرق السيارات وتحطيم النوافذ في وسط باريس لدفع الشرطة إلى استخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع. وكان الذي أشعل هذه الموجة الأخيرة من الاحتجاجات هو مرور الذكرى السنوية الأولى لحركة “السترات الصفراء”، التي أثارها الغضب من محاولة الرئيس إيمانويل ماكرون زيادة الضرائب على وقود الديزل الذي تعمل عليه معظم السيارات في المناطق الريفية. وعلى الرغم من قيام ماكرون بسحب تلك الضريبة بسرعة، فإن الاحتجاجات استمرت في باريس وأماكن أخرى كل يوم سبت. وقد تضاءلت أعداد المشاركين، لكن أعمال الشغب التي شهدتها الذكرى أظهرت أن حركة “السترات الصفراء” لن تتلاشى. وهي تنسجم في ذلك مع التيار الرئيسي للاحتجاجات الجارية في جميع أنحاء العالم.
حصيلة متزايدة
يتزايد عدد البلدان التي تشهد الاحتجاجات الجماهيرية؛ حيث تدافع حكومة بعد أخرى عن وضع راهن يرفضه الكثير من الناس، وخاصة الشباب العاطلين عن العمل. ولا يتطلب الأمر الكثير دائماً لبدء حالة من الاضطرابات والشغب. فقد خرج الهنود إلى الشوارع بسبب سعر البصل. وأقام الإندونيسيون مسيرات في عاصمتهم لرفض التشريعات المستلهمة من الإسلاميين، والتي تحظر ممارسة الجنس قبل الزواج. وفي هاييتي، ثار سكان يتضورون جوعاً مسبقاً ضد ارتفاع تكلفة الوقود. ويحتج البوليفيون على انتخابات متنازع عليها. وكان رفع أجرة المترو هو كل ما احتاجه الأمر لكي يخرج الناس في تشيلي للتنفيس عن غضبهم ويعانوا ما لا يقل عن 26 وفاة على أيدي أجهزة الأمن. ورفض سكان هونغ كونغ قانوناً مقترحاً يسمح بتسليم المشتبه بهم تلقائياً إلى بر الصين الرئيسي، وعندما تراجع الرئيس التنفيذي كاري لام متأخراً، وسع المتظاهرون مطالبهم لتشمل الانتخابات بالاقتراع العام والعفو عن المتظاهرين المعتقلين. وفي إسبانيا، أثار رفض الحكومة النظر في استقلال كاتالونيا أو إطلاق سراح القادة الوطنيين مظاهرات شلت برشلونة. وفي العراق، ضاق الناس ذرعاً بسنوات من الفساد والإهمال والهيمنة الإيرانية. وتحرك الإيرانيون لمقاومة ارتفاع أسعار البنزين في بلدهم الغني بالنفط، وإنما الذي ضربته العقوبات.
بعد صراع طويل، نجح الجزائريون في الإطاحة برئيسهم العاجز، لكنهم ما يزالون يطالبون باستبدال النظام العسكري الفاسد الذي مثله. وشهد السودان انتصاراً أكبر للاحتجاج الشعبي غير العنيف عندما سمح الحكام العسكريون باعتقال الرئيس عمر البشير ووافقوا على تقاسم السلطة مع أعضاء مجلس وزراء مدنيين في حكومة جديدة. وتبقى هذه الإنجازات هي الاستثناء، لكنها تعطي الأمل للمعارضين في الأماكن الأخرى.
تعبر بعض المظاهرات عن مظالم مشروعة ضد سلطة قاسية، وعدم مساواة وحشية في الثروة، والتعذيب وسرقة الأموال العامة. وتسعى احتجاجات أخرى إلى الإطاحة بالديمقراطية، أو تقييد حقوق الأقليات أو فرض التوجه الديني. وفي فرنسا، هتف قلة من محتجي “السترات الصفراء” ضد الإساءات المعادية للسامية. وفي باكستان، حشد الملالي الإسلاميون ما بين 30.000 و50.000 مؤيد في إسلام أباد لإدانة رئيس الوزراء عمران خان. وكانت جريمته في أعينهم هي السماح لامرأة مسيحية اتهمت زوراً بالتجديف بأن تحتفظ بحياتها عن طريق إعطائها مروراً آمناً للخروج من البلاد، ومحاكمة ساسة من النخبة كانت عائلاتهم قد سلبت باكستان لمعظم السنوات التي مرت منذ الاستقلال في العام 1947. وقد خاطب الحشود عضوان من العائلتين الرئيستين اللتين وجهت إليهما لائحة الاتهام، هما بيلاوال بوتو زرداري من حزب الشعب الباكستاني، وشهباز شريف من الرابطة الإسلامية الباكستانية، بينما وصف الملالي خان بأنه “عميل يهودي” وطالبوه بالاستقالة.
وقد أرسلت السلطات شرطتها، وفي بعض البلدان، أرسلت جيوشها للسيطرة على المتظاهرين. وقتلت قوات الأمن المحتجين في هايتي وهونغ كونغ وتشيلي وبوليفيا. وفي فرنسا وإسبانيا، جرت اعتقالات ووقعت إصابات، لكن أي وفيات لم تقع حتى الآن. وفشل تقديم التنازلات، كما فعل ماكرون، في إيقاف المتظاهرين الذين تجاوزت مطالبهم إلغاء ضريبة الديزل إلى رفض الإصلاحات النيوليبرالية التي وعد الرئيس بتنفيذها خلال حملته الانتخابية. وربما يكون العثور على خيط مشترك يربط تجليات الغضب الشعبي حول العالم معاً -كما حاول المراقبون أن يفعلوا عندما انتشر الربيع العربي في العام 2011 من تونس إلى دول عربية أخرى- صعباً بقدر ما هو عبثي.
لحظةُ وحدة في لبنان
في لبنان، قام المواطنون من جميع الطبقات والمجتمعات الدينية بإغلاق الطرق وساروا إلى البرلمان عندما حاولت الحكومة فرض ضريبة بقيمة 6 دولارات على استخدام تطبيق “واتسأب”. وكان اللبنانيون مثقلين مسبقاً بأعلى رسوم للهواتف المحمولة في العالم تقريباً. وقام رئيس الوزراء سعد الحريري، الذي كان قد أصبح هو نفسه محوراً للغضب الشعبي بسبب دفعه مبلغ 16 مليون دولار لعارضة أزياء من جنوب إفريقيا لأسباب غير معلنة، بإلغاء ضريبة “واتسأب”، لكنه استقال في النهاية عندما تصاعدت الاحتجاجات. ويضم الناس في شوارع كل مدينة لبنانية مسيحيين وسُنة وشيعة ودروزاً، وجميعهم يشعرون بأنهم تعرضوا للخذلان من قيادة ما بعد الحرب التي أغنت نفسها بينما قامت بإفقار البلد وإغراقه في ديون لا يمكن سدادها. وكانت المظاهرات سلمية، وتحول الكثير منها إلى نزهات ومهرجانات موسيقية. وعندما شكّل الناس سلسلة بشرية امتدت من طرابلس في الشمال إلى صور في الجنوب، كتب أحد الفكاهيين اللبنانيين، والذي يطلق على نفسه اسم كارل كارل ماركس، ساخراً: “هذا الحدث تاريخي، لأن هذه هي المرة الأولى التي يقف فيها اللبنانيون في الصف”.
أعرب الدكتور فضلو خوري، رئيس الجامعة الأميركية في بيروت التي عادة ما تلتزم جانب الحذر، عن دعمه لطلابه وأعضاء هيئة التدريس المشاركين في الاحتجاجات. وبينما دان خوري ما وصفها بأنها “كليبتوقراطية طائفية ميتة مفلسة أخلاقياً”، فقد حثّ المتظاهرين على “البقاء متحدين للتغلب على المثال السام الذي شكله القادة السياسيون في لبنان”.
كانت الوحدة في لبنان دائماً هدفاً بعيد المنال. وفي وقت قريب هو العام الماضي، كان الناخبون اللبنانيون قد اختاروا نفس القادة الذين يسعى المتظاهرون الآن إلى خلعهم. وقد دعم المسيحيون والسنة والشيعة والدروز قادتهم الطائفيين التقليديين، خشية أن تتمكن الطوائف الأخرى من تحقيق الهيمنة. وقد تسود الروح الجديدة للوحدة المعادية للطائفية الناتجة عن التجمعات العامة، لكن هذا الناتج غير مضمون بأي حال من الأحوال. ويبدو أن ما كتبه جور فيدال في العام 1967 عن الولايات المتحدة في روايته، “واشنطن العاصمة”، ينطبق على اللبنانيين: “اعتقد الأميركيون دائماً بأن ممثليهم فاسدون لأنهم، لو نالوا نفس الفرصة، سيكونون كذلك هم، أيضاً”. لكن الفساد قطع شوطاً بعيداً جداً في لبنان، فلم يعد هناك إمداد منتظم بالكهرباء بعد نحو 30 عاماً من انتهاء الحرب الأهلية، وحيث تقوم “مافيا مولدات” يملكها السياسيون بتقاضي ثمن باهظ من الناس لسد الفجوة؛ وحيث مياه الصنابير غير صالحة للشرب وغير موثوق بها؛ وحيث تُترَك القمامة لتتعفّن في الأماكن العامة؛ وحيث تعاني المدارس والمستشفيات من نقص التمويل.
أجاب ديماغوجيون منتخبون، أكثرهم جدارة بالملاحظة فلاديمير بوتين في روسيا، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وناريندرا مودي في الهند، على الانتقادات العلنية بمحاولة تشتيت الانتباه. لبوتين حروبه في جورجيا وأوكرانيا. وشن أردوغان معركة ضد الأكراد. وعمد مودي إلى قمع إقليم كشمير الذي كان يتمتع سابقاً بالحكم الذاتي، وشن حرباً دعائية ضد باكستان، واتخذ من الأقلية المسلمة في بلاده كبش فداء. وهكذا، تحتفظ القوى القائمة بأدوات الإكراه لإبقاء الناس خاضعين، لكن أمثلة السودان والجزائر تظهر أن هذه القوى لا تسود دائماً.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
A Rebellious World Is Taking It to the Streets