أقلام وأراء

مرزوق الحلبي يكتب – من أجل رواية فلسطينية مُمكنة وراوية تُسمع

مرزوق الحلبي *- 10/11/2020

في المقال السابق تحت عنوان “العودة إلى فلسطين” المنشور هنا اقترحت إطارًا أوسع لقراءة فلسطين واحتمالاتها. مفاده أن ما تشهده المنطقة في السنوات الأخيرة أشبه بالتحولات التي أفضت إلى اتفاقية “سايكس ـ بيكو” في العام 1916، وأن على المهتمّين أن ينتبهوا إلى السيولة وإلى التعقيد في المنظومة الإقليمية والدوليّة. ومن هنا وجوب الحذر من الوقوع في أسر الحلول المتقادمة ـ دولتان لشعبيْن ـ أو المراهنة على استراتيجيات لم تعد تعمل. ومع بداية الأمل الفلسطيني والعام بعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، أجدني ملزمًا بالخوض فيما اعتقدت أنني أستطيع تأجيله، وهو رسم مسار إلى فلسطين التي تعني هنا الشعب والوطن والمسألة.

الانتخابات الأمريكيّة كانت متغيّرا يُبت السيولة التي كنتُ لفتّ النظر إليها كخلفية للتفكير والعمل. لا شيء ثابت وهو مصدر تفاؤل للفلسطيني الذي شعر بأن مكانة فلسطين قد تضاءلت حدّ التلاشي بفعل تحوّلات الصراع والإقليم والمنظومة الدولية. لكن سيكون من السابق لأوانه في أحسن حال ومن الوهم في أسوأ حال المراهنة على وصول بايدن الديمقراطيّ إلى البيت الأبيض. ولو لسبب بسيط وهو لأن ما يحكم السياسات الأمريكيّة هو مصالحها في الإقليم والعالم بالأساس. أما أسلوب هذا الرئيس أو ذاك فهي جزئيّات عادة ما تغيّر قوانين اللعبة أو نتيجتها.

على أيّ حال، ما ينبغي على الفلسطينيين أن يفعلوه على كلّ المستويات يقوم بالأساس على ما ينبغي أن يصنعوه بأيديهم من جديد قبل ذلك. فيما يلي الخطوات التي المطلوب اتّخاذها قبل العودة إلى المرافعة عن فلسطين:

أولا ـ تحديد معالم المشروع الوطني الفلسطيني من جديد بناء على التجربة التاريخية للنضال الفلسطيني ونتائجها. فالعودة الجزئيّة إلى جزء من فلسطين تحوّل إلى فخّ حقيقيّ. فما هو المشروع الفلسطيني الآن؟ نسأل لأنه اختُزل في سنوات النضال وسنوات التفاوض في “حلّ الدولتيْن” الذي لم يعد ممكنًا. هذا بينما الغاية الرئيسية من أي حلّ هو ضمان حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني والتحرّر من الاحتلال وإيجاد حلّ لمسألة اللاجئين. من هنا أهميّة إعادة تعريف غاية أو غايات الفلسطينيين في محاولة للإجابة على “ماذا نُريد” في هذه المرحلة بناء على ما كان وعلى ما يُمكن أن يكون؟

ثانيًا ـ هذا الأمر يتّصل بإرادة الفلسطينيين أنفسهم. وهي مُنقسمة اليوم كما أشرنا سابقًا إلى أربع إرادات. الإرادة في الضفّة الغربية كما تجسّدها “السلطة الوطنية”، وهي واحدة من محصّلات المسار التفاوضيّ، الإرادة في غزّة ممثلة في “سلطة حماس”، الإرادة في بلدان اللجوء والشتات والمنافي كما هي متجسّدة في أطر وحركات تنشط هناك، الإرادة في فلسطين الداخل كما تجسّدها الآن “القائمة المُشتركة”. مهم جدًّا أن نذهب إلى نوع من الإرادة الواحدة الجامعة على مشروع واحد جامع تُشتقّ منه الأهداف والاستراتيجيات وخطّة العمل. هذا ضرويّ لتجاوز حالة “المشاريع” الفصائلية التي جسّدت نوعًا من أَكْرَدَة المسألة الفلسطينيّة.

ثالثًا ـ هناك ضرورة لإعادة “تأليف” الرواية الفلسطينية من جديد وتنقيتها من الفائض والمبالغة ومن الضحويّة التي اطمأن لها كثيرون منّا وأدمنوها، ومن السذاجة ومن الغيبيّات والخُرافات ومنها أن قضيّتنا فريدة وأننا استثناء. صحيح أن كلّ الشعوب بحاجة في طريق بناء ذاتها إلى أساطير بطولة وذاكرة جماعية وكثير كثير من الشغف، لكنها في حالتنا الفلسطينية، أرانا بأمسّ الحاجة إلى أفعال العقول. الانتقال ضروري من كوننا “مشروع غضب ساطع” و”غضب مُقدّس” و”ضحايا بامتياز” إلى لاعبي شطرنج حاذقين.

رابعًا ـ تأسيسًا على البند الثالث لا أرى إمكانية للتقدّم إلى أيّ مكان دون إعادة تنظيم فلسطين. وهي إعادة مؤلمة لأنها تستدعي الخروج من أسر القاعدة التنظيمية القائمة على طبقتيّن والتي تحكم العمل الفلسطيني منذ الستينيات وهي “الفصائليّة” و”منظمة التحرير الفلسطينية” ومؤسّساتها. صار من الضروريّ الانتقال إلى شكل جديد للتنظيم يُسهم في لملمة الإرادات وتجميعها في واحدة. فلماذا لا يُصار إلى مؤتمر فلسطينيّ عام يشكّل قاعدة واسعة لقيادة تمثيليّة جديدة لا تستثني أحدًا.

خامسًا ـ ضرورة التخطيط للفوز في الحرب الكلاميّة أو في المواجهة الأخلاقية مع الطرف الإسرائيلي في ساحته وفي الساحات العربيّة والعالمية. وهو أمر متّصل بقوة بالإطار العام للرواية الفلسطينية وبقراءتنا الدقيقة للمشاريع الإسرائيلية بخصوص فلسطين. ودون أن أخوض الآن في التفاصيل سأقترح أن يكون الخطاب الفلسطيني منطلقًا دائمًا من إرادة الفلسطينيين في مصالحة تاريخية باعتبارها الإطار العام والشامل للرواية على ما تعنيه من حقوق لا تنازل عنها واستراتيجيات عمل يُمكن الدفاع عنها وأهداف قابلة للتداول في المحافل الدوليّة. بمعنى، أنه من الخطأ مواصلة اشتقاق الخطاب مما حصل في فلسطين بل ينبغي اشتقاقه مما تراه فلسطين مناسبا وملائما لها في المستقبل المنظور والبعيد. ماذا نُريد أن نكون، ماذا نُريد من أنفسنا ومن عدوّنا، يُحدّد لنا لغتنا ومصطلحاتنا ومُفرداتنا وقواعدها. كلّنا نُجيد الوصف والسرد فيما يتّصل بما حصل إلى الآن لكن بدا لي أن حكايتنا قد انقطعت دون أن نختتمها الأمر الذي يلزمنا باستئنافها وسردها إلى آخرها المأمول. الإطار العام ـ خطاب المصالحة التاريخيّة ـ يُنتج رواية ممكنة وراوية يُسمع.

هي أفكار تتقاطع أو تتعارض مع اجتهادات وطروحات أخرى لكنّها تشكّل بالنسبة لي مُجتمعةً بداية جديدة. والبدايات الجديدة ليست غريبة في الثورات من أي نوع كانت بل ضرورة قُصوى لتجديدها وضخ الطاقات فيها من جديد. ويكفي أن أشير إلى حقيقة أننا بشأن الجيل الثالث والرابع للنكبة وآن لهذا الجيل أن يمتلك أمره ويستعيد زمام المبادرة من التاريخ وصُنّاعه ومن آبائهم وأجدادهم من جيل المؤسّسين، أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى