منوعات
محمود جودت قبها: الشهيد الرمز ياسر عرفات أسطورة الخلود وفلسطين الخالدة

محمود جودت قبها 11-11-2025: الشهيد الرمز ياسر عرفات أسطورة الخلود وفلسطين الخالدة
في الحادي عشر من تشرين الثاني لا تمرّ الذكرى كمُجرّد تاريخٍ في الروزنامة بل كزلزالٍ يُعيد خلط رُكام الذاكرة الفلسطينية ويوقظ الرماد ليقول ما زال فينا من يُشبهك يا أبا عمّار في هذا اليوم لا نرثي القائد بل نستدعي الفكرة التي لم تُغادرنا يومًا نستحضر الرجل الذي لم يكن مُجرَّد اسمٍ على لافتةٍ من نحاس بل كان هويةً تمشي على قدمين ووجعًا بحجم وطنٍ يتنفس بالصبر ويعيش بالكرامة.
ياسر عرفات الذي خرج من رحم المنفى كقصيدةٍ مكتوبة بالحجارة لم يأتِ إلى العالم ليكون شاهدًا على المأساة بل ليكون نصّها وناطقها ونازفها الأول كان يُدرك أن فلسطين ليست جغرافيا مصلوبة على الخريطة إنما كائنٌ حيّ يسكن الصدر ويُؤرق الضمير حمل المخيم في صوته والنهر في ملامحه والقدس في عينيه وسار على دروبٍ من الغبار والدماء يفتح الطريق بقدميه كمن يُعيد اختراع الوطن كل صباح لم يكن عرفات زعيمًا من طرازٍ يُعاد إنتاجه لأنه ببساطة لم يُصنع في مصانع السياسة بل وُلد في رحم الحكاية كان ابن الخيمة التي علمته أن السقف لا يحدّ الحلم وابن الأرض التي علمته أن الطين إذا امتزج بالدم صار خريطة في وجهه كانت تتجاور قسوة المقاتل ودموع الأب وفي صوته كانت ترتجف الحقيقة بين حنينٍ ووصية عاش كمن يسير على حافة الأسطورة لا ينام إلا على أكتاف الخطر ولا يستيقظ إلا على نداء الوطن.
وحين نقرأ سيرته اليوم ندرك أن السياسة عنده لم تكن حساباتٍ باردة بل فعلًا شعريًا يُكتب بالدم والإصرار خطابه في الأمم المتحدة لم يكن محاضرةً دبلوماسية بل بيتًا من الشعر المسلّح لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي كانت تلك الجملة وحدها قصيدة وطنٍ بأكمله وموقفًا يُلخّص فلسفة الرجل الذي آمن بأن البندقية لا تنفي الغصن بل تحرسه كان يُفاوض كمن يحمل التاريخ على كتفيه ويُقاتل كمن يعرف أن الرصاصة التي لا تحرس الكرامة، خيانة.
في حصار المقاطعة حين أرادوا له أن يذوب في العزلة صار الحصار محرابه الأخير جلس خلف جدران الإسمنت والزجاج كقدّيسٍ يكتب تعاليم الثورة من جديد لم ينهزم لأن الهزيمة لا تعرف طريقها إلى الذين تشرّبوا معنى القضية كانت المقاطعة معبده الأخير والكوفية حصنه والصمود صلاته اليومية مات كما عاش مرفوع الرأس مُحاصرًا بالخذلان لكنه مُحاطٌ بالإيمان يغادر الجسد ليبقى في المعنى ويودّع الأرض ليصير ظلّها الدائم إن رحيله لم يكن موتًا سياسيًا بل حدثًا كونيًا في وجدان الأمة حين أُعلن الخبر بكت فلسطين لا دموعًا بل حجارة وارتجف المخيم كما لو أن الهواء فقد نكهته كان غيابه امتحانًا للفكرة هل نستطيع أن نكمل الطريق دون من كان يضيئه بخطاه؟ وهل نستحقّ العهد الذي تركه لنا؟ لم يترك لنا أبو عمار خطابًا محفوظًا في الأرشيف بل دينًا في أعناقنا أن نحمل الراية حتى يكتمل الحلم وأن نحفظ الكوفية كوصيةٍ وليست كرمزٍ فحسب.
لم يكن عرفات معصومًا لكنه كان صادقًا لم يكن نبيًا لكنه سار على درب الأنبياء في شرف الغاية ونُبل الحلم أخطأ حين أخطأ البشر وسمَا حين سمَا الوطنن كان يعرف أن القيادة ليست كرسيًا بل عبءٌ مقدّس وأن من أراد أن يكون قائدًا لشعبٍ جريح عليه أن يتقن لغة الوجع كما يتقن لغة البنادق في عينيه كان الوطن ينعكس كمرآةٍ تفيض بالحلم والعناد وفي صوته كان التاريخ يُعيد نفسه ليقول: ما ضاع حقّ وراءه مطالب واليوم ونحن نرى الوطن يتشظى بين الانقسام والخذلان يبقى وجه عرفات السؤال الذي لا يُجاب عليهن ماذا كان سيقول لو رأى ما نحن فيه؟! ربما كان سيغضب وربما كان سيبكي لكنه بالتأكيد كان سيصرخ بصوته المبحوح: “ما زال في الأمة من يستطيع أن ينهض من الرماد” لأن الذين اختاروا الشهادة طريقًا للكرامة لا يعرفون اليأس.
الشهيد ياسر عرفات لم يمت في رام الله بل توزّع في كل قلبٍ فلسطينيٍّ ينشد “موطني” في كل حجرٍ يُرفع بيد طفلٍ ضد المُحتل في كل أمٍّ تُزيّن صورة ابنها بالكوفية في كل أسيرٍ يبتسم من خلف القضبان إنه ليس ذكرى تُحتفى بها بل فكرة تُمارَسً حضورٌ يتجدّد كلما ارتفعت راية أو انطلقت مُظاهرة أو اشتعلت أغنية عرفات هو “الاسم الذي لا يُنسى” لأن الوطن نُقش في حروفه.
سلامٌ على من كانَ عنوانًا لنا في زمنِ التيهِ..
سلامٌ عليكَ يا من جعلتَ الكوفيةَ كتابَ هُويّةٍ..
سلامٌ عليك يا من صنعتَ من الثورةِ صلاةً لا تُقَطَّعُ أبدًا..
سلامٌ على روحِكِ التي تهتفُ فينا حينَ تضيقُ الأرضُ: فلسطينُ أولًا وأبدًا..
سلامٌ عليكَ يا أبا عمارِ يا سطرَ الخلودِ في دفترِ الغيابِ..
سلامٌ عليك يا من اخترت الشهادةَ دربًا لتبقى فلسطينُ على قيدِ الحياةِ..
ستبقى حكايتُك مفتوحةً على اسمِكْ ما دامَ السّماءُ تمطرُ حُرّيّةً..
وما دامَ طفلٌ يرفعُ حجرًا ليكملَ قصيدتكَ التي لم تُختم بعدُ..
نُجَدِّدُ القسمَ في كلِّ عامٍ نمضي حتى يزهرَ الترابُ حرّيّةً..
حتى يُشرقَ وجهُ القدسِ من جديدٍ وتعودُ الرمالُ تغنّي للعودةِ..


