اللاجئين

محمود العلي يكتب –  اللاجئون الفلسطينيون في لبنان ومسارات الهجرة

محمود العلي 2/12/2019

أدّى قيام الكيان الصهيوني عام 1948 إلى تبديد الوحدة المجتمعية للشعب الفلسطيني، وجعله مجموعات متنوعة من الكتل البشرية، من بينهم لاجئون عاشت غالبيتهم، منذ نحو 70 عاماً تحت مظلة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة للأمم المتحدة، في لبنان وسورية والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة. وقد اختلف التعاطي مع اللاجئين في منطقة عمليات “أونروا”، حسب رؤية السلطات العربية التي استقبلتهم، فقد تعاطت السلطات اللبنانية معهم بحذر، بحيث حرصت على عدم إعطائهم حقوقهم المدنية والاجتماعية، كما حرصت على وجود أكثريتهم في مخيماتٍ تحت الإشراف المباشر والفاعل من الأجهزة الأمنية. وبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مطلع عام 2019، حسب “أونروا”، 475,075 ألف لاجئ، بيد أن هذا الرقم لا يعكس بالضرورة عدد الموجودين حالياً في لبنان، حسب دراسة الوكالة الأممية والجامعة الأميركية عام 2016، والتي أشارت إلى وجود ما بين 260 و280 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان. وإذا أخذنا في الاعتبار نسبة الزيادة السنوية حسب “أونروا” في لبنان البالغة 3.8%، لن يتجاوز عدد الموجودين في لبنان 320 ألف لاجئ.

بدأت الموجة الأولى لهجرة اللاجئين الفلسطينيين من لبنان بين 1973 و1976، إثر استلام فصائل المقاومة الفلسطينية الحوكمة في المخيمات، حيث جرى استهداف المخيمات بوصفها كتلة شعبية حاضنة للسلاح، مع حصول اشتباك بين الجيش اللبناني وفصائل المقاومة الفلسطينية عام 1973. ثم استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي مخيم النبطية، ودمّره بالكامل عام “دمَّر الطيران الإسرائيلي مخيم النبطية عام 1974. ودمرت الحرب اللبنانية مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا، وجزء من مخيم ضبية في 1975 – 1976”  1974. كذلك جرى تدمير مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا، وجزء من مخيم ضبية، إثر نشوب الحرب الأهلية في لبنان عامي 1975-1976. ونتيجة هذه الأوضاع، بدأت موجات الهجرة بحثاً عن ملاذ آمن بدايةً في ألمانيا الغربية، وكان دخولهم غير الشرعي إلى برلين الغربية ممكناً، نظراً إلى وضع المدينة الدولية، فحسب اتفاق بوتسدام لعام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وضعت مدينة برلين تحت سلطة الحلفاء مباشرة، ولم يكن مسموحاً للبوليس الألماني الغربي مراقبة الحدود مع برلين الشرقية، فكان الآتون من لبنان يطيرون إلى مطار شونفلد في برلين الشرقية، ويحصلون على تأشيرة ترانزيت إلى برلين الغربية التي يدخلونها من دون رقيب، وقد سلك هذا الطريق لاحقاً خلال الحرب الأهلية ثلاثة أرباع اللاجئين من لبنان إلى ألمانيا. وحسب الباحث ياسر علي، في بحث له، شهدت أزمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عدة موجات هجرة، منها الموجة الألمانية في الحرب اللبنانية (1975)، والموجة السويدية بعد الاجتياح الإسرائيلي بيروت (1982-1984)، والموجة الدنماركية بعد حرب المخيمات (1985-1988)، والموجة البريطانية في الحرب المعروفة بحرب التحرير (1989 حتى التسعينيات)، غير أن هذه الموجات لم تكن على شكل سفر شرعي لكل من يريد، بل كانت تتم بتواطؤ ضمني، فكان الباب مفتوحاً مواربةً في ذلك الوقت. وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، سرت شائعات عن عرض أميركي للسلطات اللبنانية لقبول استيطان اللاجئين هنالك، وترافق ذلك مع تسهيلاتٍ في منح تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة، ما دفع لاجئين فلسطينيين عديدين إلى السفر إلى أميركا، ومنها نحو كندا باعتبارها بلد لجوء تقدم فيه خدمات من الدولة لا تتوفر في الولايات المتحدة، بيد أن عدد اللاجئين المتوجهين نحو أميركا وكندا بقي محدوداً، لأن تكلفة السفر كانت مرتفعة قياساً بتذاكر المتوجهين إلى دول أوروبا. وعندما بدأت حرب المخيمات عند استهدافها من حركة أمل في بيروت والجنوب اللبناني عام 1985، ارتفع عدد المهاجرين صوب ألمانيا. وعام 1986، عندما كانت حرب المخيمات على أشدّها، بلغ العدد أقصاه، إذ بلغ نحو تسعة آلاف شخص.

“في بحثٍ ميداني أجري عام 1995 في برلين، تبين أن لثلاثة أرباع العائلات الفلسطينية أقارب في الدنمارك والسويد” 

وقد بدأت توجهات اللاجئين ومسارات الهجرة تتغير بسبب التضييق على اللاجئين في قوانين اللجوء لعامي 1982 و1985. وبالتالي، فضّل قسم كبير من اللاجئين أتوا إلى برلين في   هاتين السنتين، على الرغم من أن عددهم أكبر بكثير من الأعداد السابقة، متابعة سفرهم إلى البلدان الاسكندنافية وهولندا. وكان اللاجئون الآتون من لبنان يصلون إلى برلين الشرقية، ويأخذون تأشيرة ترانزيت إلى برلين الغربية، حيث يستقلون القطار إلى هولندا أو الدنمارك، من دون تقديم طلب لجوء في برلين. وكان آخرون يمرّون من برلين الشرقية ترانزيت إلى السويد، ويستقلّون القطار إلى مدينة روستك الساحلية، ومنها يتابعون سفرهم بالباخرة إلى مرفأ مالمو السويدي. وهكذا أصبحت العائلات الفلسطينية منتشرة من مخيمات لبنان إلى ألمانيا ثم الدنمارك والسويد. وفي بحثٍ ميداني أجري عام 1995 في برلين، تبيّن أن لثلاثة أرباع العائلات أقارب في هذين البلدين.

وتوجّهت الهجرة الفلسطينية في عام 1987 تقريباً إلى السويد والدنمارك، لأن طريق برلين تعثرت بعد الاتفاق الذي حصل بين الألمانيتين، والذي بدأ تطبيقه في 1/10/1986. وبموجب هذا الاتفاق، تلتزم ألمانيا الشرقية بعدم إعطاء تأشيرة ترانزيت إلى ألمانيا الغربية لمن لا يملك تأشيرة لهذه الأخيرة، وكذلك عقدت السويد اتفاقية مشابهة، وتغلب اللاجئون على هذه العقبة، بأن أخذوا يطيرون إلى وارسو، ومن بولندا يأخذون السفن عبر بحر البلطيق إلى السويد والدنمارك. ولكن اللاجئين اكتشفوا بسرعة وسيلة جديدة للعودة إلى برلين، وهي الحصول على دعوة زيارة من أحد المقيمين في برلين الشرقية، للفوز بتأشيرة إليها، ومنها ينتقلون بدون صعوبة إلى الغربية. وقد استفاد طلاب فلسطينيون وعرب كثيرون من هذا الوضع، وباعوا دعوات الزيارة إلى الراغبين فيها بمبلغ تراوح بين 300 و500 مارك ألماني للدعوة الواحدة.

“المسار الحديث للجوء بدأ في 2012، وارتبط بالظروف الاقتصادية الصعبة وعدم إعطاء الفلسطينيين الحقوق المدنية” 

وفي 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، تم توحيد ألمانيا واستلمت قوات ألمانية غربية حراسة  الحدود الشرقية، ومع الوحدة لم تعد برلين مدينة حدودية، وفقدت دورها طريقاً رئيسياً لدخول اللاجئين إلى ألمانيا. وعلى الرغم من ذلك، أصرّ بعضهم على المجيء إلى برلين، فكان يقطع بطاقة سفر عن طريق شركة إيروفلوت الروسية إلى كوبا، وكان طريق الطائرة بيروت – موسكو، برلين – هافانا، وعندما تحط الطائرة في برلين، كان الشخص الراغب يقدّم طلب لجوء سياسي ويبقى في المدينة، ولم يستمر هذا الطريق مفتوحاً وقتاً طويلاً. أما الأغلبية فأصبحت تأتي من طريق بولونيا والتشيك، وتقطع الحدود ليلاً عبر الغابات متعرّضة لملاحقة حرس الحدود.

وبالنسبة لموجات المهاجرين الفلسطينيين إلى بلجيكا، وخصوصاً الموجة الثالثة، فقد تكونت من اللاجئين في سورية ولبنان، جاء بعضهم خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وجاء كثيرون آخرون بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وظل معظم هؤلاء الفلسطينيين في بلجيكا مؤقتاً ثم غادروا الى السويد.

وقد ارتبط اختيار بلد اللجوء بوجود دول تقدّم خدمات للاجئين، إذ ثمة دول لا تقدّم الكثير للاجئ، سواء من ناحية الضمان الصحي، مثل اليونان وبلغاريا وهنغاريا، أو دول لا تعطي معونات ماديّة جيّدة، مثل التي وردت أعلاه وتضاف إليها إيطاليا وإسبانيا. وتضاف إلى المجموعة الأخيرة فرنسا بالنسبة للاجئين غير المتزوجين، والذين تقلّ أعمارهم عن 26 عاماً. وتفرض اتفاقيّة دبلن أن يكون البلد الأوّل الذي وطأته قدما اللاجئ هو الدولة المختصّة بدراسة طلب لجوئه، حتى ولو لم يقدّم طلب اللجوء هناك. وهذا ما يجعل اللاجئ يتفانى في عدم تقديم بصمته وطلب لجوئه، في دول مثل بلغاريا وهنغاريا وإسبانيا، قبل الوصول إلى دول مثل ألمانيا والسويد والنمسا وسويسرا وبلجيكا والدنمارك وفرنسا والنرويج وهولندا. وفي العادة تتساهل الدول “الجيّدة” بالنسبة للاجئ مع بصمته وإقامته في اليونان، بينما دأبت إيطاليا منذ عام 2017 على تسهيل مرور اللاجئين منها إلى الدول الأخرى من دون إجبارهم، في أحيانٍ كثيرة، على تقديم طلب لجوء، أو حتى أخذ بصماتهم، ما سبب مشكلاتٍ مع الدول الأخرى التي طالبتها بتحمّل مسؤولياتها تجاه اللاجئين الواصلين إلى أراضيها.

“ينشط اليوم سماسرة من نوع جديد، إنهم مغتربون “شرعيون” يأتون إلى لبنان لزيارة ذويهم، ويعرضون المساعدة في الهجرة” 

أما المسار الحديث للجوء الفلسطينيين من لبنان، فقد بدأ في عام 2012، وارتبط بالظروف الاقتصادية الصعبة وعدم إعطاء الفلسطينيين الحقوق المدنية، ومنها حق العمل في المهن الحرة، كما التحدّيات الناجمة عن وجود كتلة كبيرة ومزاحمة من العمال السوريين في سوق العمل، إثر الهجرة الكبيرة من السوريين إلى لبنان، إضافة إلى تلويح “أونروا” بتقليص خدماتها المقدّمة للاجئين الفلسطينيين في أغسطس/ آب 2015.

وفوق ذلك، عزّزت الأحداث الدامية التي شهدها مخيم عين الحلوة بين القوى السلفية واللجنة الأمنية في المخيم فكرة أن المخيمات لم تعد ملاذاً آمناً للاجئين على الصعيدين الاقتصادي والأمني، ما أدّى إلى انتعاش حركة تدعو إلى اللجوء إلى البلدان الأوروبية، وصلت إلى حد وضع ملصقاتٍ في المخيمات، ومنها مخيم شاتيلا في بيروت، تدعو إلى الهجرة بعيداً عن الظلم والتهميش. كما أن المخيمات الفلسطينية في لبنان تشهد، من حينٍ إلى آخر، حراكاً شبابياً يدعو إلى الهجرة. وبدأ هذا الحراك مِنْ أكثر المُخيمات بؤساً وحرماناً، مُخيم نهر البارد، مُروراً بأكبرها في لبنان، مخيم عين الحلوة، وصولاً إلى المُخيمات في بيروت. وقد تظاهرت أخيراً مجموعة شبابية أمام السفارة الكندية طلباً للهجرة. وينشط اليوم سماسرة من نوع جديد، إنهم مغتربون “شرعيون” يأتون إلى لبنان لزيارة ذويهم، ويعرضون المساعدة في الهجرة، ويكون السفر بجواز سفر مزوّر، أو مسروق من ألمانيا والدنمارك، أو عبر تأمين تأشيرة “شنغن” من دول مجاورة لألمانيا (خصوصاً بولندا وأوكرانيا) عبر سفاراتها في لبنان مقابل مبلغ بين 6 و8 آلاف دولار. ويستطيع المهاجر الدخول براً إلى ألمانيا باعتبار أن الدولتين تنتسبان إلى الاتحاد الأوروبي. وأخيراً، كشف ذوو أحد المهاجرين أن طريق الهجرة طويل ومحفوف بالمخاطر، وتبدأ من لبنان إلى السودان ثم إلى ليبيا عبر الصحراء مسيرة 13 يوماً، ثم يستقلون المراكب إلى إيطاليا، وهم وحظهم في النجاة أو الغرق، فيما تستمر كل الرحلة نحو 25 يوماً وتكلف نحو خمسة آلاف دولار.

وقد ارتفعت وتيرة هجرة الفلسطينيين من لبنان في عام 2017، حين برزت شبكاتٌ نافذةٌ لها امتداداتها الدولية، لتسهيل هجرة الفلسطينيين من لبنان، ويوفر منظمو الهجرة تأشيرات إلى الإكوادور عبر “واتساب”، ثم يتوجه المغادر عبر تركيا إلى إسبانيا كمراكز عبور ترانزيت. ومن هناك، ينقل الفريق المنظم المهاجر إلى الحدود الفرنسية، حيث يكون هنالك من يستقبلهم، ويأخذهم إلى بلد اللجوء الذي اختاروه، بلجيكا أو هولندا أو ألمانيا. وتشكل هذه البلدان الثلاثة الهدف الرئيسي للهجرة الفلسطينية إلى أوروبا. وحسب الصحافي، أحمد عثمان، في مقال له في صحيفة النهار في 26/9/2017، حصل خلاف بين قائمين على شبكات عاملة على توفير طرق الهجرة، أحدهم من آل الغلاييني وآخر من آل العلي، ما أدى إلى توقيف معاملات السفر نحو إسبانيا مؤقتاً. وفي المحصلة، فشل المجتمع الدولي في تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والقاضي بأن الحل الجذري لمأساة اللاجئين الفلسطينيين يتمثل في عودتهم إلى بيوتهم وأرضهم، سيؤدي إلى مزيد من تفتيت هويتهم وإبادة كثيرين منهم في البحار ومسارب البحث عن حلم في مستقبلٍ أفضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى