أقلام وأراء

محمد ياغي يكتب – مؤشرات على توجهات بايدن في الشرق الأوسط

محمد ياغي – 12/2/2021

هنالك اتجاه عام داخل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ الولاية الأولى للرئيس أوباما يحث على ضرورة الانسحاب من الشرق الأوسط لأسباب ثلاثة:

الأول أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة الى نفط منطقة الشرق الأوسط بعد أن أصبحت من الدول المصدرة له. نفط الشرق الأوسط كان عصب النمو الاقتصادي للولايات المتحدة لعقود عديدة.

والثاني هو رغبتها بتركيز قدراتها المالية والعسكرية والسياسية في مواجهة الصعود المتعاظم للصين في العالم، خصوصاً وأن اقتصاد الأخيرة أصبح يقترب كثيراً من حجم اقتصاد أميركا. التدخل العسكري المباشر بمئات الآلاف من الجنود كلف الخزينة الاميركية مئات المليارات. التدخل في العراق كلفها بحسب تقديراتهم أكثر من ترليون دولار.

والثالث وهذا جديد وهو الانسحاب العربي من ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بعد تحول الاحتجاجات الشعبية في العديد من الدول العربية الى حروب أهليه وانشغال كل دولة بهمومها الداخلية. هذا يعني أن الوجود العسكري المباشر لحماية إسرائيل لم يعد ضرورياً.

الانسحاب لا يعني تفكيك القواعد العسكرية الأميركية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، ولكن إعادة تموضعها بإلغاء القواعد العسكرية غير الضرورية فيه، وسحب الآلاف من الجنود منه، والأهم من كل ذلك الغاء الأسباب التي قد تدفع أميركا الى ارسال عشرات الآلاف من جنودها للمنطقة لحماية ما تبقى من مصالحها ومصالح حلفائها فيه.

هذه الاستراتيجية بدأت في عهد الرئيس أوباما واستمرت في عهد الرئيس ترامب رغم الفوارق الجوهرية بين الرئيسين.

الرئيس ترامب مثلاً، انسحب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات اقتصادية خانقة عليها واستغل التوتر بين إيران ودول الخليج العربي لسرقة مقدرات الأخيرة المالية، دون أن يقدم لها أي بدائل عسكرية لحمايتها باستثناء بيعها للمزيد من الأسلحة والضغط عليها للتقارب مع إسرائيل.

الرئيس بايدن سيمضي في نفس مسار الانسحاب من الشرق الأوسط لأن العوامل التي أدت الى هذا التحول الاستراتيجي في السياسة الخارجية  لم تتغير، بل تعززت أكثر بتوقيع العديد من الدول العربية لمعاهدات تطبيع مع إسرائيل.

الفارق بين بايدن وأوباما أن الأول يأتي لقيادة أميركا في ظل مرحلة تتميز بضمور الاقتصاد بسبب جائحة الكورونا، نمو متسارع ومتسع للعنصرية والشعبوية في أميركا نفسها، وانهيار مكانة أميركا كقائدة للمعسكر الغربي بسبب سياسات ترامب.

فيما يتعلق بسياسات إدارة بايدن الداخلية وتأثيرها على الشرق الأوسط فإن بالإمكان حصرها في مسألة واحدة وهي أن الملفات الداخلية ستأخذ الكثير من وقت هذه الإدارة، وهذا يعني أنها ستختار ملفاتها الخارجية بعناية حتى تكرس المتاح من الوقت لها لهذه الملفات.

هذا يعني أن بعض الملفات في الشرق الأوسط بما فيه ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لن يحظى بأفضلية في ظل هذه الإدارة، وهذا ما نلاحظه من عدم تعيين هذه الإدارة مبعوثاً «لعملية السلام» في الوقت الذي خصصت فيه مبعوثَين خاصين للملفين الايراني واليمني.

فيما يتعلق بسياساتها الخارجية فإن العودة لقيادة المعسكر الغربي سيفرض عليها بالضرورة التوصل لقواسم مشتركة مع الأوروبيين في معظم الملفات السياسية الخاصة بالشرق الأوسط، ابتداء من إيران ومروراً باليمن وليبيا وسورية والعراق وانتهاء بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

إذا أخذنا بعين الاعتبار رغبة الأوروبيين في عودة أميركا للاتفاق النووي مع إيران وتفضيلها عدم ربط الاتفاق بالبرنامج الصاروخي الإيراني وبنفوذها الإقليمي وما كتبته أعلاه عن التوجه العام لأميركا بالانسحاب من الشرق الأوسط، فإن من المرجح أن تتوصل إدارة بايدن لاتفاق مع إيران تعود من خلاله للاتفاق النووي وتلتزم فيه إيران بتعهداتها.

بخلاف أميركا، هنالك العديد من الشركات الكبرى الأوروبية التي ترغب من الاستفادة من السوق الإيراني الكبير وهي تضغط على حكوماتها للالتزام بالاتفاق النووي.

إذا كانت أميركا راغبة في العودة لزعامة المعسكر الغربي، فهي على الأغلب ستستمع لما يقوله الأوروبيون، خصوصاً وان الرئيس بايدن كان من مهندسي الاتفاق وداعميه ومسوقيه عندما كان نائباً للرئيس أوباما. إعادة روبرت مالي مجدداً لإدارة ملف التفاوض مع إيران يصب في هذا الاتجاه فهو من قاد المفاوضات مع إيران في عهد أوباما.

هذا أيضاً ينطبق على الصراع في اليمن حيث أعلن الرئيس بايدن عن رغبته بوقف الحرب فيها وقام بوقف توريد أسلحة هجومية للعربية السعودية بقيمة ٧٦٠ مليار دولار يتم استخدامها في تلك الحرب. كما قام أيضاً برفض إدراج حركة أنصار الله في قوائم الإرهاب، وهي خطوة اتخذها الرئيس ترامب قبل ساعات من خروجه من البيت الأبيض. هذه المواقف تنسجم مع ما تريده المانيا ودول أوروبية أخرى فيما يتعلق بالصراع في اليمن.

تعيين تيموثي لينديركن كمبعوث خاص باليمن وإرساله للعربية السعودية لتوضيح سياسة إدارة بايدن الجديدة في هذا الملف، وقيام المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، مارتن غريفين، بزيارة إيران لأول مرة للضغط على الحوثيين للموافقة على وقف إطلاق النار في اليمن وإطلاق مسار سياسي لإنهاء الصراع هو أيضاً مؤشر مهم على رغبة إدارة بايدن بإنهاء الحرب فيها.

أميركا أيضاً لا يمكنها قيادة المعسكر الغربي إذا لم تنسجم مواقفها مع الأوروبيين في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولهذا ستعيد أميركا تأكيد مواقفها السابقة برفضها للاستيطان وتأكيدها على أهمية حل الدولتين وفق قرارات مجلس الامن. تسليم هذا الملف لوزارة الخارجية وتعيين هادي عمرو مسؤولاً للملف الإسرائيلي الفلسطيني في الوزارة يعكس هذا التوجه.

هادي عمرو هو مؤسس معهد بروكينعز في الدوحة وهو من المنتقدين للسياسات الإسرائيلية المخالفة للقانون الدولي ولمواقف الولايات المتحدة السابقة لعهد الرئيس ترامب فيما يتعلق بالاستيطان والقدس وحل الدولتين.

لكن تعيينه أيضاً يعكس عدم أولوية هذا الملف لدى الإدارة الاميركية، حيث يشير موقع معهد بروكينغز الأم في أميركا الى أن دوره سيكون أكثر فيما يتعلق بملف غزة والمساعدات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية. كما أن السيد عمرو ليس مبعوثاً خاصاً للسلام في هذا الملف وهو سيعمل على نقل ما يسمعه من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لوزير الخارجية الذي سيعمل بدورة على محاولات احتواء الصراع بدلاً من حله.

في الملف السوري هنالك تشدد أوروبي ورغبة بعدم ترك سورية للنفوذ الروسي. الرئيس بايدن أيضاً لا يرغب بترك سورية للروس لكن لا توجد للآن مؤشرات واضحة على سياساته تجاه سورية.

رغم ذلك يمكن القول بأن أميركا ستكون حريصة أكثر على منع تركيا من التموضع مع المحور الروسي- الصيني وهي لهذا ربما تكون أكثر ميلاً للتخلي عن دعمها للأكراد من أجل إرضاء تركيا، وهو ما يعني عملياً الانسحاب من سورية والاعتماد على تركيا في هذا الملف.

أميركا لا يمكنها قيادة المعسكر الغربي إذا لم تجعل من الديمقراطية واحترام حقوق الانسان أحد أعمدة سياساتها. السبب لا يعود حقيقة لاحترامها لكلا المبدأين ولكن لأهميتهما في المواجهة مع روسيا والصين وهو ما يمكن استنتاجه من تصريحات بايدن الأخيرة عن ضرورة الافراج عن المعارض الروسي اليكسي نافالني الذي تم سجنه بعد عودته من رحلة علاجة في ألمانيا بعد تعرضه لمحاولة اغتيال بالسم في روسيا.

أميركا لا يمكنها أن تكون انتقائية في هذا المجال حتى لا تتهم بازدواجية المعايير، وهو ما يعني أن دولاً عديدة في الشرق الأوسط قد تتعرض للضغوط بسبب عدم احترامها لحقوق الإنسان أو بسبب تشديد قبضتها على معارضيها السياسيين.

هذه مؤشرات على سياسات قادمة لإدارة بايدن وحقيقتها ستتضح خلال الأيام القريبة القادمة، فهذه الإدارة مازالت بانتظار مجلس الشيوخ ليقر جميع تعييناتها.

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى