أقلام وأراء

محمد قواص يكتب – فلسطين : البحث عن إبداع مفقود !

محمد قواص 18/2/2021  

تدخل مناطق السلطة الفلسطينية في ورشة مثيرة للاهتمام منذ إصدار الرئيس الفلسطيني مراسيم لإجراء انتخابات تشريعية، تليها رئاسية وثالثة للمجلس الوطني الفلسطيني. ويشغل الاستحقاق التشريعي في أيار (مايو) المقبل النخب السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك أن إجراء هذه الانتخابات يبقى احتمالاً أكثر واقعية من الاستحقاقين الآخرين. على أن ما أشيع عن عرض قُدّم للأسير مروان البرغوثي من الرئاسة الفلسطينية (عن طريق حسين الشيخ) لثنيه عن الترشح للانتخابات الرئاسية رفع من مستوى احتمال إجراء تلك الانتخابات وتدبير الصفقات بشأنها.

والحال أن اجتماعات اسطنبول وبيروت والقاهرة وغيرها سعت إلى معالجة ما هو هامشي وتعمدت تهميش لبّ “القضية”. فالانقسام الفلسطيني هو تفصيل سلبي مؤسف، ورأب الصدع بين المتخاصمين، بصعوبة، لا يؤثر في واقع التردي الذي وصلت إليه “المسألة”. والواضح أن تنظيم انتخابات، وفق ما هو ممكن، هدفه بالنهاية التعايش مع الانقسام والقبول بهيمنة المنقسمين عبر صناديق الاقتراع، من دون أن يكون للأمر دينامية تحوُّل في الأداء الفلسطيني العام.

ولئن ترفض حركة “الجهاد الإسلامي” المشاركة في الانتخابات لأنها “مسقوفة باتفاقات أوسلو”، فإن الأمر، بغضّ النظر عن التنظيرات الشعبوية لهذا الفصيل، يكشف حقيقة أن هذه العملية “الديموقراطية” تجري تحت سقف فائض القوة لإسرائيل بصفته قدراً لا تعالجه هذه الانتخابات ولا تطرح استراتيجيات خلاقة لمواجهته. والواقع أن في الأمر تسليماً بأن فلسطين المتخيلة استغنت عن النوستالجيا التاريخية وعن مساحة الانتشار العالمي وعن نبل أكثر القضايا الأخلاقية الراهنة، وارتضت بما يبيحه فائض القوة المضاد من حيّز للفعل والانقسام والانتخاب.

وقد لا يتحمل الفلسطينيون وحدهم التفاوت الكبير في موازين القوى الذي ما فتئ يميل بقوة لمصلحة إسرائيل. فقد خسروا والعرب حروبهم، وفشلوا في تسويق “القضية” لدى العواصم الكبرى، وعجزوا عن التأثير في مسلّمة الانحياز الأميركي غير المشروط لإسرائيل، بحيث لم تُظهر الترامبية إلا عادية هذا الانحياز في تاريخ سياسات واشنطن، حتى لو كان التعبير عنها فجاً ووقحاً في السنوات الأخيرة.

لكن الفلسطينيين يتحملون، ربما، المسؤولية عن هذا الجفاف الزاحف عاماً بعد آخر على العقل السياسي المبدع. وهم، وفق الأكاديمي رائف زريق، يتساءلون “كيف يمكن أن يناضلوا؟”.

لم تكن التجربة الفلسطينية، خصوصاً في مرحلتها اللبنانية، إلا ميداناً للعصف الفكري العربي والعالمي. تجمعت تحت السقف الفلسطيني ورش غَرَفَ منها يساريو العالم وقوميو العرب كما ليبراليو الكوكب وإسلاميوه. رعى الفلسطينيون الجدليات المتناقضة، فأثروها وتأثروا بها، وهم من قادوا المنطقة إلى الاعتراف بقضيتهم بصفتها أولى القضايا وأكثرها جوهرية في تاريخ ما بعد الاستقلالات.

على أن ما حظيت به القضية الفلسطينية من تأييد ودعم في العالم لم تحظ به قضايا أخرى في العالم. فلم تنل القضية الكردية (25 مليون نسمة) ولا قضية التاميل (74 مليون نسمة) ولا قضية كشمير (15 مليون نسمة)… إلخ ما نالته القضية الفلسطينية من تضامن واهتمام. كما أن ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي (1954-1962) لم ترقَ إلى مستوى أن تكون قضية العرب الأولى، لا لدى دول المنطقة ولا لدى شعوبها. وإذا كان من حق قضية فلسطين أن تحظى بالدعم، فإن الفلسطينيين يستفيقون يوماً بعد آخر على وهم أبدية هذا الدعم الذي عاشوه قبل عقود.

والحال أن العقل الفلسطيني أدرك مبكراً، وحتى قبل انهيار موازين القوى الدولية إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، أهمية إنتاج أفكار واقعية خلاقة من دون التخلي عن الشعارات القصوى. ففيما كانت الأغاني تردد “حيفا ويافا قبل جنين ونابلس”، كان الفلسطينيون ينتجون برنامج النقاط العشر  عام 1974 الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني، والذي أسس لبراغماتية متقدمة تقبل بـ”سلطة وطنية”، كانت قاعدة لاحقة لإبرام اتفاقية أوسلو عام 1993.

وبغض النظر عن الجدل العقيم حول وظيفة “أوسلو”، إلا أن القيادة السياسية الفلسطينية (وليس الأكاديمية النخبوية فقط) أقدمت على “ارتكاب” التحوّل الكبير وفق قراءة جدية للمشهد الدولي والعربي بعد اندثار الحرب الباردة، وربما وفق إقرار بسريالية التضامن العربي وأكذوبة أن تكون قضيتهم هي الجوهر الأصل لقضايا العرب.

وإذا ما كان التحوّل العربي الحديث، بعد اتفاقات التطبيع التي أبرمتها دول عربية مع إسرائيل والتهاء العرب بقضاياهم “الحقيقية” المباشرة في دول مثل سوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن وليبيا، يُظهر بوضوح موقع فلسطين الحالي داخل المشهد العربي، فإن الإدارة الفلسطينية لشروط الراهن تبدو عاجزة عن الإبداع في إنتاج مقاربات خلاقة تتجاوز تكتيكات السلطة في رام الله وحسابات تلك في غزة.

ولئن ما زال “القدر” الإسرائيلي محدداً لخيارات الفلسطينيين وإمكاناتهم، إلا أن حشر فلسطين داخل قالب أوسلو (المفترض أنه مرحلي)، ثم محاصرة الذات داخل جدران فعل الانقسام ورد الفعل عليه، ثم الإمعان، برغم كل ذلك، في التوهم بأن دعم العرب هو بديهي وليس خياراً له قواعده وظروفه، رفعَ من مستوى التختر السياسي والبلادة الفكرية، وفضحَ عجزاً لم يقبل به العقل الفلسطيني في السبعينات حين كانت فلسطين من قضايا العالم الأولى.

وما عدا الإفراج عن الانتخابات الثلاثية المحتملة، فإن الفلسطينيين، منذ غياب ياسر عرفات، وخصوصاً مند انفصال سلطة غزة عن سلطة رام الله (وانكفاء السلطتين عن فلسطينيي الشتات وفلسطينيي 48)، باتوا مستوردين لبضائع الغير (خصوصاً الإسرائيلية منها)، قاصرين عن تصدير روايتهم حول الموقف من الصراع. ولئن حركت “صفقة القرن” (المستوردة) ديناميات نقاش لدى الفلسطينيين، إلا أن خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض واحتمال اندثار صفقته، لم يغيّرا شيئاً من واقع الأمر من حيث انتظار إنتاج بضاعة إدارة جو بايدن لاستيرادها.

وفيما تنشط المنابر، ومنها دولية، لرفع أو خفض أسعار حل الدولتين أو الدولة الواحدة أو الكونفدرالية وغير ذلك، فإن قضية فلسطين، برغم تراجع موقعها داخل المشهدين العربي والدولي، تبقى أساسية للتحولات المقبلة في المنطقة، على النحو الذي يوسِع للعقل الفلسطيني، بالذات، حيزاً عريضاً للإدلاء بدلو نوعي (إعادة فلسطنة النزاع مع إسرائيل وفق تعبير مروان المعشر) قد تحتاجه واشنطن وموسكو والقاهرة، كما يحتاجه الفلسطينيون في نابلس وبيت حنون وعين الحلوة في لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى