منوعات

محمد قاروط أبو رحمة: يتخلى الفرد عما لا يفهمه أو يقدره، رحلة من الجهل إلى التجاهل

محمد قاروط أبو رحمة 2-12-2025: يتخلى الفرد عما لا يفهمه أو يقدره، رحلة من الجهل إلى التجاهل

(الملخص: النمو الحقيقي لا يكمن في البقاء داخل حدود ما هو مألوف ومفهوم، بل في السعي الدؤوب لتوسيع مداركنا، ومحاولة فهم المجهول، وتقدير القيمة الفريدة لكل شيء في الوجود.)

يُعدّ التخلي عن الأشياء جزءاً طبيعياً من الحياة الإنسانية، سواء كان ذلك التخلي عن عادات قديمة، أو علاقات سامة، أو حتى أفكار بالية. لكن الملاحظة الفاحصة للسلوك البشري تكشف عن دافع عميق ومحوري وراء هذا التخلي:

الجهل وعدم التقدير.

إن النزعة البشرية تميل إلى نبذ ما لا تستوعبه عقولنا أو لا تدرك قيمته قلوبنا. هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك عابر، بل هي انعكاس لفجوة معرفية وتقديرية عميقة، تحول دون تحقيق الفهم الحقيقي والاتصال العميق بالعالم من حولنا.

هيمنة الجهل وأحكامه السريعة

غالباً ما يكون رد الفعل الأولي تجاه المجهول هو الحكم السريع والاستخفاف.

عندما يواجه الفرد مفهوما جديدا، أو ثقافة مختلفة، أو حتى شخصا غريبا لا يتناسب مع قوالبه الفكرية المسبقة، يميل العقل البشري، بدافع من آليات الدفاع النفسي، إلى (رفض) هذا الجديد بدلا من محاولة فهمه.

هذا الرفض يتجلى في صورة تجاهل أو تخلٍ، ليس لأنه بالضرورة سيئ، بل لأنه يمثل تهديدا للمنطقة الآمنة التي بناها الفرد لنفسه.

إن عدم الفهم يولد حالة من عدم الارتياح والقلق. وللتخلص من هذا الشعور، يلجأ الفرد إلى التخلي عن مصدر القلق برمته.

يميل الناس إلى الاستهانة بما لا يفهمونه أو ما يتعارض مع معتقداتهم.

الفهم مرهون بالتقدير والقيمة

لا يقتصر الأمر على مجرد الفهم العقلي، بل يمتد إلى التقدير القيمي. التقدير هو المرحلة التالية للفهم؛ فبمجرد أن نفهم شيئا ما، ننتقل إلى مرحلة تقييم مدى أهميته أو فائدته في حياتنا. إذا لم ندرك القيمة الحقيقية لشيء ما، فمن السهل التخلي عنه. على سبيل المثال، قد يتخلى الفرد عن فرصة تعلم لغة جديدة أو مهارة معقدة لأنه لا يقدر الفوائد طويلة المدى التي ستعود عليه منها، مفضلا الراحة الفورية على التطور المستقبلي.

هذه الفجوة التقديرية تظهر بوضوح في المجتمعات التي تختزل التقدم في المظاهر دون الجوهر. عندما ينظر إلى العلم والمعرفة كوسيلة لا كغاية، وتقتل روح الإبداع تحت وطأة التقاليد، يصبح التخلي عن مسارات الفهم والتقدير أمرا شائعاً.

التخلي كآلية دفاعية وهروب من المسؤولية، يمكن أن يكون التخلي أيضا شكلا من أشكال الهروب من المسؤولية التي يفرضها الفهم. ففهم قضية معقدة يتطلب غالبا اتخاذ موقف أو القيام بعمل ما. عندما يتخلى الفرد عما لا يفهمه، فإنه يتخلى أيضا عن عبء التعامل معه أو تحمل مسؤولية التغيير الذي قد يجلبه هذا الفهم. إنها طريقة للحفاظ على الوضع الراهن وتجنب التحديات.

وفي سياق العلاقات الإنسانية، التخلي عن الآخرين في أوقات الشدة قد لا يكون ناتجاً عن سوء نية بالضرورة، بل قد يكون ناجما عن عدم القدرة على فهم عمق معاناتهم أو تقدير حاجتهم للدعم، مما يجعل البعض ينسحب ببساطة.

إن عبارة الفرد يتخلى عما لا يفهمه أو يقدره تحمل في طياتها دعوة للتأمل والنقد الذاتي. إنها تذكرنا بأن كثيراً مما نتخلى عنه قد يحمل قيمة كامنة لم نكلف أنفسنا عناء اكتشافها. إن النمو الحقيقي لا يكمن في البقاء داخل حدود ما هو مألوف ومفهوم، بل في السعي الدؤوب لتوسيع مداركنا، ومحاولة فهم المجهول، وتقدير القيمة الفريدة لكل شيء في الوجود. عندها فقط، يمكننا أن ننتقل من ثقافة التخلي القائمة على الجهل إلى ثقافة الاحتواء القائمة على الفهم والتقدير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى