محمد فوزي: عوامل بنيوية: لماذا تهاوى النظام السوري بهذه السرعة؟
محمد فوزي * 8-12-2024: عوامل بنيوية: لماذا تهاوى النظام السوري بهذه السرعة؟
تراجع لافت
كان هناك مجموعة من المشاهد الرئيسية والمؤشرات التي عبرت في مجملها عن حالة من التراجع على مستوى تعامل الجيش السوري مع التصعيد الراهن، وفي المقابل صعود الفصائل المسلحة وهو الصعود الذي وصل إلى حد الإطاحة برأس النظام السياسي، ويُمكن إبراز هذه المؤشرات على النحو التالي:
1- سيطرة الفصائل على مساحات واسعة بسوريا: بدأت العمليات العسكرية التي أطلقت عليها الفصائل المسلحة السورية “ردع العدوان” في 27 نوفمبر 2024، بمشاركة مجموعة من الفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً”، جيش إدلب الحر، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، والجيش الوطني السوري، و”جيش العزة”، وهي فصائل تجمع في سماتها الرئيسية بين عاملين الأول الفكر الإسلاموي المتشدد، والثاني أنها فصائل تدور في فلك الدعم والرعاية التركية، وقد بدأت هذه الفصائل عملياتها بالإشارة إلى أن هذه العمليات “تأتي كرد على العدوان الروسي – السوري المشترك ضدها على مدار شهر أكتوبر 2024” وفق البيانات، لكن الواقع الميداني اليوم يكشف عن أهداف بعيدة المدى واستراتيجية تستهدف في مجملها تغيير الوضع الميداني للأراضي السورية ككل، وتغير المشهد السياسي برمته، وهو ما تحقق فعلياً خلال الساعات الماضية، حيث دخلت هذه الفصائل إلى قلب العاصمة دمشق وأطاحت بالرئيس بشار الأسد دون أي مقاومة تذكر.
وعلى مدار ما يزيد على العشرة أيام، استطاعت هذه الفصائل السيطرة بشكل شبه كامل على مناطق إدلب وحلب وحماة وفي الساعات الماضية أعلنت هذه الفصائل السيطرة على كافة مناطق مدينة حمص، والتي تعد المحافظة الواصلة بين الداخل السوري والعاصمة والساحل (مناطق نفوذ النظام وروسيا)، كما أعلنت عن السيطرة بشكل كامل على مدينة درعا (تحمل دلالة رمزية لكونها مهد الاحتجاجات التي خرجت في 2011)، كما أعلنت الفصائل السيطرة على ميدان الثعلة العسكري الاستراتيجي بمحافظة السويداء، لتقف الفصائل المسلحة بذلك على بعد 20 كم من العاصمة دمشق، ولتعلن بعد ذلك التقدم في الريف الغربي لدمشق، وتعلن عن البدء بعملية عسكرية خاصة لدخول العاصمة من محاور عدة، بما يعني عملياً محاصرة قوات الجيش الوطني السوري في العاصمة دمشق وفرض حصار على مكونات النظام السوري في إطار العاصمة، وكان اللافت هو السرعة التي دخلت فيها الفصائل إلى دمشق واستطاعت في ثناياها الاستيلاء على العاصمة وفرض سيطرتها عليها.
2- هروب لبعض قطاعات الجيش السوري: في إطار التطورات الميدانية التي شهدتها الجغرافيا السورية نقلت وكالة “رويترز” عن رئيس بلدية القائم العراقية خلف جدعان المحلاوي قوله إن نحو ألفي جندي سوري عبروا الحدود، وطلبوا اللجوء في العراق، وفي سياق متصل أشارت بعض التقارير إلى انسحاب 300 مسلح من الفصائل العراقية من داخل العمق السوري الى الأراضي العراقية، ويبدو أن هذا الانسحاب كان على وقع اعتبارين، الأول هو الشعور بتراجع فرص وقدرة الجيش الوطني على الصمود، وثانيها أن هناك تبليغاً رسمياً وصل إلى تلك الفصائل العراقية بأنها قد تكون محل استهداف في أي لحظة من قبل أمريكا أو إسرائيل في حال كان لها أي دور في القتال الحاصل في سوريا حالياً.
3- تسليم بعض المدن دون قتال: على هامش مشهد التقدم الكبير للفصائل المسلحة وإعلانها السيطرة على محافظة درعا دون مقاومة تذكر، أشارت بعض التقارير إلى أن الجيش وافق على الانسحاب المنظم من درعا بموجب اتفاق يمنح مسؤولي الجيش ممراً آمناً إلى العاصمة دمشق التي تقع على بعد نحو 100 كيلومتر إلى الشمال، حسبما نقلت وكالة «رويترز» للأنباء، وهو مشهد استند من جانب ربما إلى بعض الحسابات السياسية الخاصة بنقل الجهد الأمني إلى دمشق، ومن جانب آخر ربما بالروح المعنوية والحالة التي تعيشها قطاعات داخل الجيش الوطني السوري.
لكن المشهد الأبرز في هذا الإطار كان مرتبطاً بالعاصمة دمشق، فعلى عكس كل التوقعات والتقديرات التي ذهبت إلى أن التراجع الكبير الذي شهدته القوات السورية النظامية على مستوى التعامل مع التصعيد، كان يرتبط بشكل رئيسي بالاستعداد لمعركة دمشق، على اعتبار أن “دمشق” تحمل رمزية كبيرة باعتبارها الحاضنة لمؤسسات الدولة السورية، وتتجسد فيها رمزية النظام والرئيس بشار الأسد، كما أن الحفاظ عليها سوف يضمن هامشاً للتفاوض في مراحل لاحقة، كان لافتاً أن الفصائل المسلحة دخلت دمشق دون أي مقاومة تذكر من القوات النظامية ومن الجيش السوري، الأمر الذي عكس مجموعة من الدلالات المهمة، أولها أن هناك ربما ترتيبات معينة جرت مع بعض الحلفاء تم بموجبها الاتفاق على عدم المقاومة والرضوخ لفكرة الأمر الواقع الجديد، وثانيها أن أياً من إيران أو روسيا لم يبديا انفتاحاً على تقديم أي دعم عسكري للنظام السوري، وثالثها يرتبط بالمعنويات المنخفضة لقوات الجيش السوري وحالة الانهزامية التي شعر بها الجنود والضباط.
تفسيرات متعددة
مع التسليم بفكرة تراجع المقاومة والفاعلية من قبل قوات الجيش السوري تجاه التصعيد النوعي الذي تبنته الفصائل المسلحة، يظل السؤال الأكثر محورية مرتبطاً بالعوامل الكامنة خلف هذه الحالة وما آلت إليه على مستوى تغيير الواقع الميداني في سوريا، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى مجموعة من الاعتبارات والعوامل الرئيسية:
1- المعنويات المنخفضة داخل الجبهة الرسمية: عبرت مشاهد التصعيد الراهن سواءً ما يتعلق بفرار قطاعات من الجيش عن ساحة المعركة، أو ما يتعلق بالانسحاب من بعض المواقع، في أحد جوانبها عن الروح المعنوية المنخفضة لدى قطاعات عديدة في الجبهة الرسمية السورية، ويُمكن تفسير هذه الحالة في ضوء بعض العوامل الرئيسية، بعضها يرتبط باحتمالية وجود نظرة بأن هذه المعارك في بعض المواقع لا طائل منها، وأنها محكومة بالخسارة في ضوء الحشد الكبير من الفصائل المسلحة، وبعضها ربما يرتبط بتداعيات حالة التقدم الكبير الذي حققته الفصائل المسلحة، وبعضها الآخر يرتبط بحالة الإنهاك والاستنزاف نتيجة الصراع الممتد منذ العام 2011.
2- تراجع الدعم والإسناد من الحلفاء: كان هناك مجموعة من المؤشرات المهمة على مستوى تعامل بعض الحلفاء لسوريا مع المشهد الراهن، وخصوصاً روسيا وإيران وبعض الفصائل في الإقليم، ومن هذه المشاهد ما أشارت إليه وكالة رويترز في تقرير لها بتاريخ 2 ديسمبر 2024، حيث أشارت استناداً إلى مصادر إلى أن حزب الله “لا ينوي حالياً إرسال مقاتلين لدعم الجيش السوري”، ولفت التقرير إلى أن “الحزب لم يُطلب منه التدخل، وأنه غير مستعد في اللحظة الراهنة بعد وقف إطلاق النار مع إسرائيل لاتخاذ هذه الخطوة”، كذلك ما ذكرته العديد من التقارير من أن إيران لا تنوي التدخل عسكرياً في ثنايا المعركة الراهنة، أيضاً فقد أشارت “بلومبرغ” في تقرير بتاريخ 6 ديسمبر 2024 استناداً إلى مصادر بالكرملين إلى أن “موسكو ليس لديها خطط لإنقاذ الوضع في سوريا، ما دام الجيش السوري، يواصل التخلي عن مواقعه”، ما يعني عملياً بدء التخلي الروسي بشكل نسبي عن سياسة الدعم المطلق، ويبدو أن الجهد الروسي سوف ينصب على تأمين مصالحها الاستراتيجية في سوريا خصوصاً في منطقة الساحل السوري.
ويُمكن الوقوف على مجموعة رئيسية من الأسباب التي تقف خلف هذه المواقف وحتى الفرضيات السابقة:
- بالنسبة لحزب الله اللبناني يبدو أن حزب الله لن يتجاوز حدود التضامن السياسي والإعلامي مع الجيش السوري لمجموعة من الاعتبارات الرئيسية، أولها أن الحزب عانى من حالة استنزاف كبيرة على وقع الحرب الأخيرة، وأن أولوية الحزب حالياً تتجه نحو الإطار المحلي وإعادة بناء صفوفه، بما يعني أنه غير مستعد للانخراط في أي أعمال قتالية جديدة على المدى القريب، وثانيها أن الحزب كان قد سحب فعلياً عشرات العناصر القيادية الخاصة به من سوريا خلال الأشهر الأخيرة على وقع الاستهدافات والعمليات النوعية الإسرائيلية فضلاً عن تركيز الجهد الحربي على الجنوب اللبناني، وثالثها أن أولوية الحزب في سوريا حالياً تتجه إلى حماية منشآته الحيوية وبناه التحتية، وهو ما أكدته هيئة البث العبرية في تقرير لها في 2 ديسمبر 2024.
- كان الموقف الروسي لافتاً على مستويين رئيسيين، الأول هو الانتقادات التي وجهتها روسيا للجانب السوري على خلفية ما وصفته بـ “التخلي عن المواقع”، والثاني هو تصريحات الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف والتي أشار فيها إلى أن “موسكو تتريث في إعلان عزمها على توسيع تدخل حازم إلى جانب القوات الحكومية السورية، وتفضل مواصلة تقييم الوضع، وتعكس هذه المعطيات أن روسيا لم تتخذ قراراً حتى اللحظة بخصوص توفير نوع من الدعم والإسناد للجيش السوري، لاعتبارات مرتبطة بالتكلفة الكبيرة لهذا الخيار، فضلاً عن حالة الاستنزاف الكبيرة التي تعيشها روسيا على وقع الحرب الأوكرانية.
- يبدو أن إيران حالياً تعتمد على مسارين رئيسيين من الدعم بالنسبة للجيش السوري، الأول هو التضامن والدعم الدبلوماسي الرسمي، والثاني يتمثل في دعم غير مباشر عبر الميليشيات التابعة لها كما في حالة “لواء الباقر” وهو ميليشيا عسكرية تأسست عام 2012، وظهرت في البداية في محافظة حلب ولاحقاً دير الزور، ويبدو أن إيران تُدخل في حساباتها مجموعة من العوامل، إذ أنها تحاول الموازنة بين تقديم الدعم لحليفتها دمشق وتجنب التصعيد مع القوى الدولية مثل إسرائيل والولايات المتحدة، كذلك فإن التدخل الإيراني الفج في سوريا قد يحمل تكلفة كبيرة على مستوى الضغوط والتصعيد الأمريكي المحتمل ضد ذلك.
- تصاعد الحديث في الأيام الماضية عن مسألة جدلية ترتبط باحتمالية مشاركة الحشد الشعبي العراقي في التصعيد الراهن في سوريا، لاعتبارات بعضها يرتبط بكون الحشد معروفاً بولائه الكبير لإيران، وبعضها يرتبط بتصريحات قادة الحشد والتي أشارت إلى الاستعداد لتقديم الدعم، وبعضها يرتبط بكون الحشد الشعبي يشارك الجيش العراقي في عملية تأمين الحدود؛ إذ عزز الجيش قواته الحدودية بثلاثة ألوية عسكرية، بالإضافة إلى لواءين يشارك بهما “الحشد الشعبي”، لكن الإشكال الذي سيواجه الحشد الشعبي فيما يتعلق بدعم الجيش الوطني السوري، سوف يرتبط بعوامل لوجستية متعددة ومنها أنه من المتصور أن حركة نقل السلاح الإيراني برياً إلى سوريا في اتجاه حلب ستواجه تحدياً كبيراً مع سيطرة فصائل “هيئة تحرير الشام” على الطرق الرئيسية، ولاسيما طريق حلب دمشق، بعد السيطرة على مدينة سراقب في محافظة إدلب، وحتى لو تم نقل الأسلحة جواً ستواجه الأمر ذاته، كما أن التهريب عبر منطقة البوكمال قد يُواجه بعراقيل أخرى، على خلفية اتجاه قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لقطع طريق الرقة باتجاه الشمال الغربي، كإجراء أمني، بالإضافة إلى أن الجانب الأمريكي هو الآخر متمركز في الشمال الشرقي، وضمن جغرافيا “قسد”.
3- الأزمات البنيوية العميقة للجيش السوري: عانى الجيش السوري على مدار السنوات الأخيرة من أزمات بنيوية عميقة ساهمت إجمالاً في الوصول إلى اللحظة الراهنة، ومن هذه الأزمات تراجع القدرات التسليحية والعسكرية الخاصة بالجيش السوري على وقع الأزمات الاقتصادية وعلى وقع العقوبات المفروضة على سوريا، ذلك فإن فكرة الاعتماد على الدعم والإسناد المقدم من روسيا وإيران وبعض المجموعات المسلحة التي تدور في كنفهما، كانت رهاناً خاطئاً، أدى عملياً إلى تراجع القدرات القتالية للجيش السوري، أيضاً لا يجب إغفال عامل الاستنزاف الذي تعيشه القوات السورية على وقع الحرب المستمرة منذ العام 2012 (تاريخ التوجه نحو العنف المسلح في سوريا).
4- تعرقل المسار السياسي على مدار سنوات: اعتمدت المؤسسات الحاكمة في سوريا خلال السنوات الأخيرة على مقاربة ركزت بشدة على البعد الأمني، وكذا البعد الخاص بسياسات الدعم والإسناد الخارجي، وفي المقابل كرست هذه الحالة لأمننة المسألة السورية وانتشار الفصائل والمجموعات المسلحة والإرهابية، وأغلقت الباب أمام أي مسار سياسي وأي إصلاحات كانت ضرورية لمعالجة الحالة السورية والتعامل معها، وبالتالي بقيت الكلمة الأخيرة للميدان ولتوازنات القوة على الأرض، وهي التوازنات التي لم تكن في صالح المؤسسة الرسمية في سوريا.
5- الحشد الكبير للفصائل المسلحة في سوريا: كان لافتاً في سياق الملاحظات الميدانية الخاصة بالعملية، أن المجموعات المسلحة المتقدمة في عدد من الجبهات السورية تتمتع بتسليح قوي على مستوى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، بالإضافة لسلاح الطائرات المسيرة، وقد استخدمت هذه الفصائل مجموعة متنوعة من الأسلحة لوحظت في فيديوهات انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل البنادق الهجومية، ومنها: “إيه كيه 47” (AK-47) و”إم 16″ (M16)، إلى جانب مدافع رشاشة أعلى مثل “رشاش بيكا” الذي يجمع صفات كلٍّ من الكلاشنكوف والديكتريوف والغرينوجوف، إلى جانب بعض بنادق القناصة من الحقبة السوفيتية. بالإضافة إلى الأسلحة المحلية، وأبرزها تطوير كتائب شاهين المعنية بتشغيل الطيران المسيّر، وهو أمر يُمكن تفسيره في ضوء عاملين، الأول هو فكرة الدعم الخارجي والاستعداد لهذه المعركة منذ سنوات، والثاني هو الأسلحة التي حصلت عليها هذه الفصائل في ثنايا المواجهات مع الجيش السوري، خصوصاً عقب السيطرة على العديد من مخازن الأسلحة والمصانع والمؤسسات العسكرية، وقد جاء ذلك في مقابل حالة من التراجع بالنسبة للجيش السوري على مستوى التسليح والقدرات العسكرية.
ختاما؛ يُمكن القول إن الإطاحة بالرئيس بشار الأسد من الحكم في سوريا، تفتح الباب أمام العديد من السيناريوهات التي يغلب عليها الضبابية والقتامة في سوريا، بخصوص ما هو قادم، لأكثر من اعتبار، بعضها يرتبط بحالة السيولة والفوضى المحتملة التي ستشهدها البلاد، وبعضها يرتبط بسعي بعض الأطراف الإقليمية والدولية لاستغلال الظرف الراهن من أجل إعادة التموضع وتعزيز النفوذ، وبعضها يرتبط بتنامي نشاط التنظيمات الإرهابية والعنيفة وسعيها استغلال الوضع من أجل استعادة النفوذ في دولة ترى فيها أنها خاصرة نفوذ تقليدي وبها بيئة مواتية للتمدد والانتشار.