محمد فوزي: المحددات الخمسة الحاكمة لمسار التصعيد في المنطقة
محمد فوزي 22-10-2024: المحددات الخمسة الحاكمة لمسار التصعيد في المنطقة
يغلب على البيئة الإقليمية حاليًا حالة تتسم بشكل رئيسي بـ”التجييش” و”الضبابية” على وقع الحرب الجارية، وفي ثنايا ذلك تصاعدت التساؤلات في الأيام الماضية عن مآلات الحرب والتصعيد في إقليم الشرق الأوسط، وذلك على وقع مجموعة من التطورات النوعية، ومنها اغتيال إسرائيل للشخصيتين الأهم في محور المقاومة، وبالتحديد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، ومنذ أيام يحيى السنوار زعيم حركة حماس، فضلًا عن حالة الترقب والترصد تجاه الرد الإسرائيلي على الهجمات الإيرانية الأخيرة التي استهدفت العمق الإسرائيلي في مطلع أكتوبر الجاري، بالإضافة إلى توسع العمليات الإسرائيلية على لبنان، وطرح خطط جديدة بخصوص التسوية حملها آموس هوكشتاين المبعوث الأمريكي للبنان في زيارته الأخيرة، وكانت مآلات هذه الحالة ومسارها مرتبطًا إلى حد كبير بالتصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أعقاب اغتيال “السنوار” عندما صرح بأن “الحرب سوف تستمر حتى تحقيق أهدافها”، ما يعني تمسك “نتنياهو” بفكرة “النصر المطلق” التي يُروج لها دائمًا، وهو ما سينعكس عمليًا على التفاعلات التي ستشهدها المنطقة على المديين القريب والمتوسط.
أولًا- إصرار “نتنياهو” على فكرة “النصر المطلق”:
على الرغم من صعود بعض التحليلات والتقديرات التي رأت أن اغتيال “السنوار” قد يفتح الباب قدمًا أمام مباحثات جادة بخصوص وقف إطلاق النار، إلا أن التحليل السيكولوجي لشخصية رئيس الوزراء الإسرائيلي، وطبيعة إدارته للتفاعلات الخاصة بهذه الحرب منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، يكشف أن أي مكاسب تكتيكية حققها “نتنياهو” منذ بداية الحرب كانت دافعًا له لإطالة عمر هذه الحرب، والمزيد من الترويج لفكرة “النصر المطلق”.
ووفقًا لهذه المحددات فإن “نتنياهو” سوف يرى في الإطاحة بـ”السنوار” فرصة لتحقيق مجموعة من الأهداف، أولها الاستمرار في هذه الحرب التي تستهدف بشكل رئيسي القضاء على ما تسميه الدوائر الإسرائيلية بـ”التهديدات الوجودية” ممثلة في فصائل محور المقاومة، وإعادة هندسة الوضع الإقليمي بما يجعل من إسرائيل قوة عظمى أحادية، وثانيها أن السياق الراهن والدعم الأمريكي المباشر والضمني لإسرائيل (في 5 أكتوبر الجاري صرح الرئيس جو بايدن بأن أمريكا غير قادرة على لجم إسرائيل)، يُتيح فرصة للقضاء على الركائز الاستراتيجية لمصادر القوة الإيرانية خصوصًا ما يتصل بالقدرات النووية والقدرات العسكرية الاستراتيجية، فضلًا عن القدرات الاقتصادية النفطية والطاقوية، وثالثها أن السياق الراهن يُتيح فرصة لنتنياهو من أجل تنفيذ أطماعه التوسعية والانخراط في العديد من الجبهات التي كانت مؤجلة منذ سنوات، خصوصًا الجبهة اللبنانية والسورية، فضلًا عن الضفة الغربية المحتلة، بالإضافة لجبهة الحوثيين، وبطبيعة الحال المسألة الإيرانية، وهنا فإن الحديث ينصب على الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل بعيدًا عن مسألة استعادة المحتجزين أو إعادة سكان الشمال إلى مستوطناتهم، والتي تكشف المعطيات الراهنة أنها باتت أولويات ثانوية بالنسبة لـ”نتنياهو”.
ثانيًا- حسابات الرد الإسرائيلي على إيران:
كما سبقت الإشارة فإن الحديث الأكبر حاليًا والذي يطغى على اهتمام الدوائر البحثية والسياسية في المنطقة والعالم، أو حتى الرأي العام، يرتبط بشكل رئيسي بمسألة التصعيد الإسرائيلي-الإيراني، على وقع الرد الإسرائيلي المحتمل ضد إيران، والذي يبدو أنه لا مفر منه في ضوء عاملين رئيسيين؛ الأول أن إسرائيل مضطرة للرد على الاستهداف الإيراني الأخير للعمق الإسرائيلي في مطلع أكتوبر الجاري، في إطار معادلات الردع المتبادلة بين الجانبين، والثاني أن “نتنياهو” يرى في السياق الراهن فرصة لإضعاف إيران بالقدر الأكبر الممكن، لكن تأخر الرد الإسرائيلي على إيران يبدو أنه كان مرتبطًا بمجموعة من العوامل الرئيسية التي ارتبطت بشكل رئيسي بمحاولة إسرائيل والولايات المتحدة قياس طبيعة وحدود هذا الرد وتحديد مداه، فضلًا عن محاولة الوقوف على طبيعة التعامل الإيراني مع هذا التصعيد ومستوياته المتوقعة، بالإضافة إلى حضور العامل الخليجي والإقليمي في المسألة في ضوء التداعيات المحتملة لهذا التصعيد على منطقة الخليج، جنبًا إلى جنب مع احتمالية وجود رد فعل روسي-صيني على هذا التصعيد.
ويبدو أن بنك الأهداف الإسرائيلي في الرد المحتمل على إيران يتراوح بين مستويات ثلاثة رئيسية، الأول يتمثل في الإقدام على استهداف المنشآت النووية الإيرانية وتنفيذ بعض الاغتيالات النوعية لشخصيات وازنة في إيران، وهو الخيار الأكثر خطورة، والثاني هو استهداف المنشآت النفطية الإيرانية وبعض القطاعات الاقتصادية، وهو سيناريو سيؤثر بشكل كبير على أسعار النفط العالمية، والثالث هو استهداف بعض المنشآت والبنى التحتية العسكرية المتوسطة والاستراتيجية، فضلًا عن سيناريو آخر مطروح لكنه لا يُرضي حالة النشوة والغرور التي يعيشها بنيامين نتنياهو، ممثلًا في شن هجمات سيبرانية كبيرة ضد إيران بما يضمن تحقيق تكلفة وخسائر كبيرة، وفي الوقت نفسه مراعاة المحاذير الأمريكية الضمنية خصوصًا ما يتصل بتجنب استهداف المنشآت النفطية وتجنب سيناريو الحرب المفتوحة.
لكن في مقابل ذلك قد يجر هذا الرد الإسرائيلي على إيران المنطقة إلى صراع مدمر، وذلك على وقع مجموعة من التداعيات المحتملة، أولها احتمالية إقدام إيران على تدمير بنى تحتية مهمة ونوعية في إسرائيل، في إطار تصعيد وصفه المسئولون الإيرانيون في الأيام الماضية بأنه سيكون مدمرًا بالنسبة لإسرائيل، وثانيها هو احتمالية أن تقوم إيران في اليوم التالي للهجوم الإسرائيلي بإجراء تفجير نووي، وإعلان نفسها كدولة نووية وفرض هذا الخيار، خصوصًا وأن هناك تأويلات دينية وتصريحات سياسية باتت تشجع على ذلك في الداخل الإيراني، وثالثها هو توجه إيران نحو تسخين العديد من الجبهات عبر وكلائها.
ثالثًا- الواقع الميداني في قطاع غزة:
رغم كون مقتل “السنوار” في عملية جرت بالصدفة وفق التصريحات الإسرائيلية نفسها، بما نسف المزاعم بأن الرجل كان مختبئًا ومحاطًا بالمحتجزين الإسرائيليين، رغم كون هذه العملية مثلت خسارة هي الأكبر بالنسبة لحركة حماس في ضوء المركزية التي تمتع بها “السنوار” داخل حماس على كافة المستويات في السنوات الأخيرة، فضلًا عن كونه المخطط والمهندس الرئيسي لعملية “طوفان الأقصى”؛ إلا أن مجموعة من الاعتبارات تكشف أن هذه العملية لن تؤدي إلى تغيرات ميدانية كبيرة أو حتى ما ذهبت إليه بعض التحليلات المتفائلة بأنها قد تمثل نقطة ارتكاز سياسية لإعلان وقف إطلاق النار. وتتجلى أبرز هذه الاعتبارات في بعض المظاهر، أولها أنه بعد عام على الحرب لا تزال العديد من الجبهات في قطاع غزة تشهد مواجهات محتدمة بين الجيش الإسرائيلي وبين كتائب القسام، خصوصًا في جباليا ورفح ونتساريم ومخيم البريج، وثانيها أن حماس سوف تتجه إلى المزيد من اللا مركزية على المستوى العسكري داخل غزة تحت قيادة يُرجح أن تئول إلى محمد السنوار شقيق زعيم حماس الراحل، وثالثها أن إسرائيل بحثت لها عن بنك أهداف جديد في غزة، ممثلًا بشكل رئيسي في استمرار العمليات القتالية للقضاء على ما تبقى من كتائب القسام، واغتيال من تبقى من قادة هذه الكتائب، فضلًا عن تنفيذ ما يُعرف بخطة الجنرالات التي تستهدف بشكل رئيسي فرض واقع احتلالي جديد في شمال القطاع.
رابعًا- الحسابات الملتبسة في الجبهة اللبنانية:
شهدت الجبهة اللبنانية خلال الأيام الماضية مسارين متوازيين، الأول هو عودة الحراك السياسي الرامي إلى وقف إطلاق النار في لبنان، والذي تصفه بعض الدوائر بأنه “مفاوضات تحت النار”، والتي عبر عنها بشكل رئيسي الزيارة الأخيرة التي أجراها المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكستين. وقد كان لافتًا أن العمليات الإسرائيلية الجوية وصلت إلى ذروتها قبيل الزيارة في مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، أما المسار الثاني فقد ارتبط بشكل رئيسي بما يمكن وصفه بحالة التعثر التي تشهدها العمليات البرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، ما يُمكن الاستدلال عليه من خلال مجموعة من العوامل الرئيسية، ومنها: أن هذه العمليات حتى اللحظة لم تُسفر عن تمركز أو استقرار إسرائيلي في مناطق الجنوب، إذ إنها تظل محاولات للاختراق، في مواجهة حالة من الفاعلية واستعادة لزمام المبادرة من قبل حزب الله، كذلك فإن حديث الإعلام العبري عن خسائر كبيرة ومتنامية في صفوف القوات الإسرائيلية العاملة في هذه الجبهة يعكس طبيعة الصعوبات التي تواجهها إسرائيل في هذه الجبهة، بالإضافة إلى تنفيذ حزب الله عمليتين نوعيتين في العمق الإسرائيلي استهدفت إحداهما عبر سرب من الطائرات المسيرة في 13 أكتوبر معسكر لواء جولاني الإسرائيلي، والثانية تمثلت في استهداف الحزب بطائرة مسيرة منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قيسارية.
وبشكل عام، يبدو أن مسار التفاعلات في الجبهة اللبنانية سوف يكون محكومًا خلال الفترات المقبلة بمجموعة من المحددات الرئيسية، أولها أن طبيعة المخرجات التي سوف تُسفر عنها المباحثات التي يُجريها المبعوث الأمريكي إلى لبنان مع بعض الطيف السياسي، ويبدو أن هذه المباحثات لن تُسفر عن جديد، في ضوء الرفض من قبل الحزب للشروط التي جاء بها “هوكستين”، وثانيها سوف يرتبط بمدى الفاعلية والتماسك الذي ستُبديه وحدات الحزب العاملة في الجنوب اللبناني في مواجهة محاولات التوغل البري الإسرائيلي في الجنوب، وثالثها طبيعة الموقف الداخلي اللبناني، خصوصًا وأن أحد الأهداف الرئيسية لإسرائيل من هذه العمليات والقصف الجوي غير المسبوق على كافة المناطق اللبنانية، يتمثل في السعي لتأليب الرأي العام اللبناني ضد الحزب وإحداث فتنة داخلية.
خامسًا- مآلات مقاربة “وحدة الساحات”:
باستقراء طبيعة التحركات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، يبدو أن إحدى الأولويات الرئيسية بالنسبة لإسرائيل ليس تفكيك وحدة الساحات على المستوى العسكري والأمني فقط، بل اتخاذ هذا المبدأ وسيلة لتحقيق مجموعة من الأهداف والضغط على محور المقاومة، ويُمكن الاستدلال على ذلك من خلال مجموعة من المؤشرات الرئيسية، أولها المباحثات التي جرت بين رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي الخارجية «الموساد» دافيد برنياع، ونظيره الأمريكي ويليام بيرنز، في الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري، والتي شدد فيها الجانب الإسرائيلي على ضرورة ربط المحادثات مع «حزب الله» و«حماس» لإخراج صفقة شاملة لوقف النار على الجبهتين، ويعني ذلك عمليًا أن إسرائيل تحاول توظيف ضغوطها على حزب الله ليس لتحقيق أهداف مرتبطة بلبنان فقط، وإنما للوصول لتسوية بخصوص غزة أيضًا، وثانيها أن معالم المقاربة الإسرائيلية للتعامل مع مبدأ “وحدة الساحات” على المستوى العملياتي تقوم على ضرورة رفع التكلفة التي تدفعها كل جبهة نظير الإسناد الذي تقوم به لغزة، وثالثها أن إسرائيل انتقلت مؤخرًا إلى تبني سردية إعلامية تقوم على الترويج لفكرة أن إسرائيل تخوض حربًا على سبع جبهات، ليس بمنطق الضحية كما كان يحدث في بادئ الحرب، ولكن بمنطق الترويج لفكرة القوة الإسرائيلية، وأن هذه الحرب هي حرب وجودية. وبشكل عام سوف يشكل مدى الإسناد الذي تقدمه هذه الجبهات لكل من حماس وحزب الله على وجه الخصوص، وطبيعة التكتيكات التي سيتم اتباعها في الفترات المقبلة، أحد المحددات الرئيسية الحاكمة لمسار التصعيد في المنطقة.
إجمالًا، يمكن القول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، نجح عبر فرض خيار الحرب والتصعيد في المنطقة، في تسكين الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وكذا تقليل مساحات التحرك والخيارات المتاحة أمام المجتمع الدولي والإقليمي الرامي لوقف التصعيد الراهن، ما يجر المنطقة إلى “حافة الهاوية”، ويدفع باتجاه إضفاء المزيد من التعقيدات والحالة الصراعية على التفاعلات التي تشهدها المنطقة.
*باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
مركز الناطور للدراسات والأبحاث Facebook