أقلام وأراء

محمد السهلي يكتب – استحقاقات الوحدة و مآلات المصالحة

محمد السهلي – 11/8/2018

كلما طال أمد الانقسام، تعقد ملف المصالحة بين حركتي فتح وحماس من زاويتين. الأولى مرتبطة بما يستجد من تداعيات التجاذبات بينهما، والثانية تتصل بانتقال الاهتمام الإقليمي بالموضوع من حيِّز المتابعة إلى مجال الدخول المباشر على الخط. فيما نشهد اليوم أن المسألة باتت حجر الرحى لمبادرات ومشاريع دولية ـ إقليمية متعددة يصفر خلفها قطار«صفقة العصر».

ومن الواضح أن هذه المبادرات تسعى لإيجاد تسوية «غير وطنية» لمعضلة الانقسام، بمعنى إيجاد تسوية للاشكالات بين الحركتين خارج مظلة الحوارات الوطنية الشاملة المتعاقبة ذات الصلة وقراراتها، وفي المقدمة منها التأكيد على ضرورة أن تتم استعادة الوحدة على أسس برنامجية وتنظيمية، تعيد الاعتبار للبرنامج الوطني التحرري، وتضمن الشراكة الوطنية في اتخاذ القرار كما في المواجهة، وتعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس ديمقراطية.

وتتسلح المبادرات المذكورة بحزمة واسعة من الوعود الاقتصادية والمشاريع الخدمية التي ترفع شعار حل المشكلات الإنسانية والمعيشية لأهالي قطاع غزة، وهي مشكلات متراكمة ومركبة تضغط على حياتهم اليومية.وعلى الرغم من إدراك الهدف الأميركي ـ الإسرائيلي من إطلاق هذه الوعود، بما فيها استثمار الواقع الصعب للقطاع لفائدة تمرير الصفقة الأميركية، فان إيجاد حلول لهذه المشاكل بات ملحاً أكثر من أي وقت مضى.

ومن هنا تنبع ضرورة أن تأتي الحلول في سياق رؤية وطنية موحدة تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته في رفع الحصار عن القطاع وأهله من جهة ، وتضع نتائج حوار القوى والفصائل الفلسطينية في القاهرة (20/11/2017) موضع التنفيذ من جهة أخرى.والتوافق على هذه الرؤية يبعد سيف الضغط والابتزاز الأميركي ـ الإسرائيلي، ومسعى مقايضة التهدئة ووقف إطلاق النار بخطوات فلسطينية تبدأ بوقف مسيرات العودة ولا تنتهي بشطب سلاح المقاومة. لكن الوصول إلى هذه الرؤية والتزامها يحتاج أولا قناعة جامعة بوجوب رفض الخطة الأميركية ومقاومتها، وتحتاج قبل ذلك إلى قناعة راسخة بضرورة استمرار المقاومة الشعبية في الضفة والقطاع في مواجهة الحصار والعدوان والاستيطان وحملات التهويد.

والرؤية المذكورة تشكل إحدى الروافع الهامة للانتقال من الحديث عن تحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس باتجاه انجاز استعادة الوحدة ، وإن كان حل الاشكالات بينهما يوفر المناخ الوطني للاتجاه قدماً نحو استعادة الوحدة. المهم بالموضوع ألا يبدأ حل هذه الإشكالات وينتهي بتكريس مبدأ الصفقات الثنائية والتقاسم الفئوي، لأنهما السبب الأساس في مفاقمة تداعيات الانقسام واستمراره، كما كانت الحسابات الخاصة والخندقة خلف المصلحية الفئوية هي السبب الأساس في وقوع الانقسام بكل مامثلته هذه السياسات من خرق فاضح للقاسم الوطني المشترك، الذي شكل احترامه على الدوام صيانة للوحدة الوطنية.

وقد تمكنت الحالة الفلسطينية لمرات عدة من التوصل إلى اتفاقات بشأن استعادة الوحدة وقد وقعتها جميع القوى والفصائل، وترسم الاتفاقات خارطة طريق لاستعادة الوحدة،لكن لجوء حركتي فتح وحماس إلى الصفقات الثنائية كان يعني موقفاً عملياً رافضاً لما ما وافقتا عليه في الحوارات الوطنية الشاملة، وأغرقتا بالتالي الحالة الفلسطينية بتداعيات إضافية للانقسام كلما اختلفتا على آليات تنفيذ اتفاقاتهما.

وبذلك تم وضع عناوين المصالحة بين الحركتين وتفاصيلها والنقاط العالقة بينهما كبديل «مفروض» عن عناوين استعادة الوحدة الوطنية وآليات تحقيقها بمشاركة الجميع. وتركزت الجهود الإقليمية على ذلك حول محاولة إيجاد مخارج ترضي الطرفين، وهو مالم يحصل حتى اليوم.

والمشكلة تتبدى الآن على نحو أعمق في ظل الخطة الأميركية ـ الإسرائيلية ومحاولات تمريرها فلسطينياً عبر استغلال مآسي غزة، في الوقت الذي تجري فيه استمالة السلطة الفلسطينية عبر مايطرح عن خطة اقتصادية إسرائيلية في الضفة الغربية وتمتد نحو غزة. وهذا بالإساس ربما يغري السلطة وقد تجد في العرض فرصة كي تكون طرفاً معنياً فيما يجري من تحركات على صعيد المبادرات الاقتصادية، التي حصر الإعلان عنها تجاه قطاع غزة فقط وأقصيت السلطة عن مجرد التداول بشأنها.

وتدخل تل أبيب هنا من مسرب استمرار القيادة الرسمية الفلسطينية بتمسكها ببقايا أوسلو واستنكافها عن تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي، اللذين أكدا وجوب مقاطعة إسرائيل والخروج من قيود أوسلو ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، والانفتاح مجددا على الأمم المتحدة وتفعيل عضوية دولة فلسطين في مؤسساتها وعلى نحو خاص المعنية بمحاكمة الاحتلال على جرائمه المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني.

وما تتحمس له السلطة اليوم من خطط اقتصادية إنما هو ترجمة لخطة نتنياهو المسماة «السلام الاقتصادي»، والتي جاءت «صفقة العصر» كي تعطيها الدعم المعلن الذي كانت تفتقده قبل مجيء إدارة ترامب. وفي حال أعلنت السلطة موافقتها على ذلك فستكون موافقة على الصفقة الأميركية في الوقت نفسه، أي القبول بالحل الإقليمي على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

لقد وضعت مواقف إدارة ترامب الحالة الفلسطينية أمام تحديات كبيرة وأخطار أكبر، والأمر لا يقتصر على الحصار المالي، بل أصبحت مجمل الحقوق الفلسطينية في مهب التصفية، وبات المطلوب أميركياً وإسرائيليا من السلطة ومنظمة التحرير أن تعيد تشكيل مؤسساتها بما تستدعيه «صفقة العصر»، لجهة القطع مع التراث النضالي للشعب الفلسطيني والتعامل مع رموزه كجناة وخارجين على القانون. ولهذا تفرض واشنطن وتل أبيب وغيرهما عقوبات على السلطة والمنظمة بسبب رواتب ذوي الشهداء والأسرى.

كل ماسبق، يجعلنا نحذر من أن أي خطوات تقطعها القيادة الرسمية الفلسطينية في هذا الاتجاه تعني تساوقاً ورضوخاً عملياً للشروط الأميركية، وأن كل خطوة منها تضع إدارة ترامب بانتظار الخطوة الأخرى حتى استكمال شروطها،والمفارقة أن إدارة ترامب لا تقدم أي وعد يستطيع أحد ما أن يبرر تنازلاً بهذا المستوى الخطير.

إلى جانب ذلك، يشكل التوغل في استمرار الرهان على بقايا اتفاق أوسلو والتساوق مع المحاولات الاسرائيلية تمرير«السلام الاقتصادي» إفشالاً سياسياً لمسار المساعي الوطنية المخلصة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وابقاء الحالة الفلسطينية في حالة من العجز ، في الوقت الذي تزداد المخاطر التي تتهدد الشعب الفلسطيني وقضيته .. وحقوقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى