محمد ابو الفضل: رؤى متباينة تتجاذب الدور الإقليمي لمصر في ظل حرب غزة
محمد ابو الفضل 24-3-2024: رؤى متباينة تتجاذب الدور الإقليمي لمصر في ظل حرب غزة
المصريون لا ينظرون إلى دور بلادهم في محيطها الإقليمي سوى على أنه دور متعاظم، ولا يمكن الحديث عن تراجع، لكن للتعظيم شروطه ومن بينها القدرة على التحكم في مفاصل أمور كثيرة وتوجيهها بالطريقة التي تتواءم مع أهداف مصر في المستقبل وعدم الاكتفاء فقط بحماية المصالح.
يثير الحديث عن الدور الإقليمي لمصر استنفار المؤيدين والرافضين، ولدى كليهما وجهة نظر متباعدة، وكلما طرح الموضوع للنقاش وسط النخبة يفتح الباب لتجاذب جديد، قد لا ينتهي إلى نتيجة محددة، لأن المسافة متباعدة والخلاف بين الطرفين ينطلق من موقف ثابت لا يتغير، أكثر من كونه رؤية أو تقديرا يحتمل الصواب والخطأ ويمكن أن يتطور إلى مرحلة متقدمة تصل إلى مستوى التعظيم.
كتبت هنا على صفحات “العرب” الأسبوع الماضي تحليلا بعنوان “مصر أمام خيارين: أن تكون دولة محورية أو متراجعة”، ويفهم من ترتيب الدور أن الكاتب يؤيد الخيار الأول (محورية)، لكن يبدو أن القضية في حاجة إلى المزيد من الاستفاضة، فعقب نشره تلقيت اتصالا من صديق بدا رافضا لصيغة الاختيار بين محورية ومتراجعة، مؤكدا أنها محورية بما لا يحتمل التشكيك.
شرحت للصديق العزيز الهدف من التساؤل في العنوان وأسبابه المهنية والموضوعية، وشعرت لاحقا أن هذا موقف كثير من المهتمين بالشأن العام وبعض الباحثين ممن يرون أن مصر تلعب دورا إقليميا مركزيا وتؤثر في التفاعلات الإقليمية بقوة واقتدار.
تفهمت منطق الصديق، ومن يؤيدونه في فهمه، على ضوء التعامل المصري مع الحرب على قطاع غزة والتعقيدات التي تحيط بها، والطريقة التي اتبعتها القاهرة لتحاشي دخول حرب عسكرية لا تريدها أو تسعى لها، وقدرتها على تفويت الفرصة على مخططات إحراجها في ملف توطين فلسطينيي غزة في سيناء، والحفاظ على علاقات متوازنة مع قوى إقليمية ودولية عديدة من دون المساس بالأمن القومي.
يمكن أن تندرج هذه الخطوات المهمة تحت بند الدفاع عن المصالح العليا للدولة وعدم التفريط في الدور الإقليمي وسط صعوبات كبيرة في المنطقة، حيث يكمل كلاهما الآخر في الظاهر، فالنجاح في الدفاع عن المصالح يمكن أن يعزز الدور، والعكس صحيح تماما، أي أن تعزيز الدور يمكّن الدولة من الدفاع عن مصالحها.
لكنّ هناك خيطا رفيعا يفرّق بين المستويين وهو أنه إذا تم الاكتفاء بالدفاع عن المصالح بأيّ ثمن لن يوجد دور مؤثر في المستقبل، إذ يمكن لبعض الدول الصغيرة في المنطقة أن تحقق مصالحها بالمرونة والانعزال والتنازلات والدوران في فلك قوى أخرى، ولأن مصر دولة محورية وكبيرة يجب أن تعزّز دورها بنفسها أولا، مستفيدة من جغرافيتها السياسية البديعة، وسوف يتكفّل ذلك تلقائيا بالدفاع عن مصالحها، فتحصل على الحُسنيين معا، الدور المحوري والدفاع عن المصالح.
ظهرت ثلاث رؤى رئيسية لفكرة الدور الإقليمي الفترة الماضية، الأولى تعتقد أن مصر تقوم بدورها على أكمل وجه، وتعاملها مع حرب غزة أثبت فعاليتها في المنطقة وصعوبة تهميشها أو إجبارها على التراجع، والثانية تطالب
بالانكفاء التام ووقف البحث عن طموحات أو مغامرات خارجية تؤدي إلى أزمات داخلية، والرؤية أو المدرسة الثالثة ترى ضرورة في زيادة نشاط الدور المصري، ورفع مستوى الاشتباك السياسي الإقليمي كوسيلة أساسية للدفاع عن المصالح القومية التي تتأثر سلبا بالثبات.
فأن يكون الدور الإقليمي جيدا شيء وأن يتم تعظيمه شيء آخر، ففي الأولى تتمكن الدولة من الحفاظ على مصالحها بالصورة التي تراها مناسبة، وتؤثر بنسبة معينة في التطورات المحيطة بها، وهو منهج أقل من طموحات القيادة المصرية، وفي الثانية أن تتحكم بمفاصل أمور كثيرة وتقوم بتوجيهها بالطريقة التي تتواءم مع أهدافها في المستقبل، ومن المتوقع أن تشهد المنطقة تغيرات في موازين القوى، ولن تكون القاهرة في مقدمتها إذا اكتفت بما وصلت إليه الآن ولم تبذل جهدا لتعظيمه، حيث لديها إمكانيات تؤهلها لتصبح محركا للكثير من الأحداث، وليس جزءا منها.
من يدعمون فكرة التعظيم يعلمون حجم مصر وتاريخها وارتباطه بالاستقرار في الداخل، وما تملكه من أدوات للتأثير والقيادة أيضا، وتجاوز مسألة مشاركة الآخرين لها أو مناطحتها أحيانا ليس تعاليا وغطرسة لكن ثقة في ميراثها واستثمارا لجغارفيتها.
لتحقيق ذلك يجب أن تمتلك الدولة عناصر القوة اللازمة التي تضفي بعدا حيويا على عملية تعظيم الدور الإقليمي، والذي يأتي من مصادر القوة الرئيسية: العسكرية والاقتصادية والسياسية، وتمتلك مصر الآن الأولى، وتسعى للخروج من نفق الثانية، وتحسين وظيفة الثالثة، والمعيار الذي يمكن أن يعوض النقص في الثانية هو وضع رؤية سياسية واضحة للتعامل مع الأوضاع الإقليمية وما يكتنفها من تشابكات.
وتشير بعض الملامح إلى أن مصر تملك رؤية إستراتيجية لا تعلن عنها صراحة، ظهرت تجلّياتها في وضع تصورات للتعاطي مع تطورات لم تكن معالمها قد تكشفت، فمشروعات التنمية والبنية التحتية العملاقة التي انطلقت في سيناء وكثير من ربوع مصر تعزز هذا الاستنتاج، والاستعداد المصري لعمليات إعادة ترسيم خطوط النقل الإقليمية يؤكد أن هناك خطة تفيد بعدم الاستسلام لانعكاساتها السلبية على مصر.
فإذا كانت هذه الخطة موجودة، لِمَ لَمْ يلمس الكثيرون تأثيرها القوي على الدور الإقليمي لمصر؟ وهنا استنتاجان، الأول: أنها لا تزال في طور التكوين وفي حاجة إلى المزيد من الوقت للانتهاء منها، والثانية: قد يؤدي ربطها بتعظيم الدور الإقليمي إلى تصاعد مخاوف بعض القوى والسعي نحو إجهاضها مبكرا، وربما تكون الأزمات المتناثرة حول مصر، شرقا وغربا وجنوبا، واحدة من الخيارات الرامية لشغل القاهرة للتفكير في التعاطي معها بدلا من تعظيم دورها.
ولم تعد رؤية انعزال مصر مطروحة على نطاق واسع بعد مشاهدة التحديات الخارجية التي تواجهها الدولة، ويثبت فحواها أن الانكفاء ليس مجديا، والنأي عن القيام بدور مؤثر لا يحفظ لمصر أمنها واستقرارها، وثبت أنهما لا ينفصلان عمّا يدور في المحيط الإقليمي، فكل ارتدادات الأزمات في غزة وليبيا والسودان وجنوب البحر الأحمر وسد النهضة الإثيوبي تصل إلى مصر مباشرة، وما لم تكن هناك رؤية محددة لمواجهتها من الخارج سوف تكون نتائجها وعرة، وتكبح كل فرصة للقيام بدور إقليمي نشط.
ويعد تعظيم الدور المصري في مقدمة الأدوات التي تحد من تداعيات هذه الأزمات، بينما الاكتفاء بديناميكية التعامل مع كل منها عبر عمليات سياسية متناثرة ومتقطعة لتقويض الخسائر لن تكون مفيدة في المستقبل، فعند مرحلة معينة قد لا تتمكن من أن تعصم القاهرة من النتائج السلبية، لأن التفاصيل التي تنطوي عليها متشعبة، وسوف يؤدي الاستغراق فيها للانشغال بدواماتها.
ويعد طرح مبادرات وتبنيها من الأدوات التي تسهم في تعظيم الدور، خاصة أن هناك جهات لديها موافقة أو قابلية للتعامل مع فكرة تعظيم الدور المصري، والذي بات معروفا أنه غير مسكون بأطماع إقليمية، فلا تتدخل القاهرة في أزمة لأغراض السيطرة أو الإضرار بأصحابها، فقط تكون هناك قناعة راسخة لدى صانع القرار بأنها قادرة على تحريك التطورات في شكل إيجابي، وتضع خططا للتعامل معها، ويمكن أن يكون توسيع نطاق المشاركة في حل الأزمة في السودان مدخلا لتعظيم الدور المصري وتأكيد القدرة على امتلاك تصورات إقليمية ناجحة.
ويأتي الدور الإقليمي الأكثر فاعلية ومحورية لمصر من خلال السعي إليه وليس انتظاره، واستخدام أدوات متفرقة تدل على نشاطه، مع امتلاك قدرة فائقة للنفس الطويل وبذل التضحيات، لأن خطط تعظيمه قد يقف لها البعض بالمرصاد.